كان منع اجتماع الـحزب القومي الاجتماعي في 2 نوفمبر الماضي، بـمناسبة ذكرى تصريح بلفور الـمشؤوم، أكبر طعنة وجهت من الداخل إلى القضية الفلسطينية وساعدت على إيجاد الـجو«الهادئ» الصالح لاتخاذ القرار بتقسيم فلسطين وإنشاء دولة يهودية في القسم الساحلي منها.
ومع أن رسالة الزعيم في صدد فلسطين، الـمؤرخة في اليوم الـمذكور فوق، أيقظت الأوساط التي وصلت هذه الرسالة إليها ونبهتها إلى حقيقة وجه الـمسألة الفلسطينية الصحيح، فإن السياسة الـخصوصية التي كانت قابضة على زمام الأمور وسياسة «الاختلاطات العربية» التي أقحمت الـموضوع ظلت في سيرها الـمعتاد ووقعت الكارثة- كارثة التقسيم- التي نبه إليها وإلى أسبابها الزعيم.
كان من وراء كارثة التقسيم الأنترنسيوني أن الشعب صعق بكارثة أعظم من كارثة التقسيم نفسها- كارثة الفوضى التي أنـجبتها سياسة الـخصوصيات والاحتكارات السياسية و«الاختلاطات العربية» التي جعلت الشعب ينخدع بالوعود ومظاهر الكلام والتصريحات السياسية بالقوة والـجيوش الـمحشودة الـمستعدة للزحف على فلسطين وسحق اليهود ومحو مستعمراتهم في مثل غمض الـجفن حالـما يعلن قرار من منظمة الأمـم الـمتحدة ضد مصلحة «العرب»!
لم يصب الشعب السوري في فلسطين بأدهى من الفشل الذي أصابه حين رأى أن التقسيم قد تقرر وأن اللجنة العربية العليا والـجامعة العربية لم تكونا قد هيأنا شيئاً مـما كانتا تناديان بأنهما قد هيأتاه لإنقاذ فلسطين. إن خيبة الفلسطينيين من مواعيد اللجنة العربية العليا ومن تصريحات ناموس الـجامعة العربية ومن تصريحات الدول غير السورية ومن بعض الدول السورية نفسها، هي أعظم خيبة يـمكن أن يشعر بها شعب في أشد أوقات حاجته وفي أشد قضاياه خطورة!
إن الأخبار الوثيقة التي وردت مركز الـحزب القومي الاجتماعي من فروعه الـمنتشرة في جميع أنحاء فلسطين ترسم صورة محزنة للفوضى والبلبلة العظيمتين الـمنتشرتين في كل مدينة وكل قرية من مدن وقرى فلسطين. وإننا لا نـجد أحسن من تلخيص بعضها لاطلاع القوميين الاجتماعيين والرأي العام على بعض الـحقائق الـمؤلـمة التي تظهر الـحالة الشعبية والسياسية بفلسطين من الناحية السورية:
من تقرير سري وارد من نابلس في 1947-11-28
«1 - إن عدد الأشخاص الذين أرسلتهم الهيئة العربية العليا إلى الشام ليتدربوا مع الـجيش الشامي لاستخدامهم في العمليات العسكرية لم يتجاوز، لتاريخه، الثمانـمئة. ومعظم هؤلاء من الفلاحين الذين كانوا عاطلين عن العمل فذهبوا للارتزاق.
-2 إن أنصار الـملك عبدالله قد نشطوا في الآونة الأخيرة، وذلك نتيجة تعليمات وصلتهم من عبر الأردن وقد أدى ذلك إلى تقوية مركز الفئات التي تناهض سماحة الـمفتي وأعوانه ومن الـمحتمل، في حالة إعلان التقسيم وإعلان سماحة الـمفتي للثورة، أن يحدث اصطدام عنيف بين السوريين أنفسهم في فلسطين!
-3 قد تـمكن اليهود من إغراء بعض العناصر السورية في فلسطين واقناعهم بوجهة نظرهم وبالقبول بالتقسيم وبإعلان رأيهم في الوقت الـمناسب.
-4 كانت «جامعة الدول العربية» قد أقرت في إحدى جلساتها في لبنان جمع مليون استرلينية للدفاع عن فلسطين وللآن لم يجمع الـمبلغ الـمذكور.
5- إن البلاد في حالة يرثى لها وليس هنالك أي تنظيم حربي فعال. فما عدا فرق الـحزب القومي الاجتماعي التي هي قوة حربية صغيرة في فلسطين، توجد تشكيلات إسمية كثيرة مشكوك كثيراً في قيمتها. وجميع الدلائل تدل على أن الثورة متى أعلنت، ستكون اعتباطية كالثورة الـماضية».
من تقرير آخر من يافا في 1947-11-30
«في مساء التاسع والعشرين من نوفمبر الـحاضر، كنت وبعض القوميين الاجتماعيين وعدداً من الأصحاب، نستمع في منزل أحدنا، إلى إذاعة الراديو عن مقررات منظمة الأمـم الـمتحدة. وكان يسودنا صمت رهيب حتى كأننا نسمع دقات قلوب بعضنا البعض، وكانت الأخبار قاضية مرعبة! »
«في صباح اليوم التالي توجهت مع بعض الـمعارف إلى مكان ليتلفنوا منه إلى مكتب «اللجنة العربية العليا». فتح الـخط وأخذ أحد الأصحاب التلفون وقال. «هالو، مكتب اللجنة العربية العليا، نحن هنا نطلب ارشادات اللجنة تـجاه تقرير التقسيم» فكان الـجواب «أنا، يا سيدي، موظف بسيط ولست أدري ماذا يجب أن تفعلوا، لا يوجد أحد من الـمسؤولين؟»
«وبعد الظهر وصلت أخبار أن اللجنة العربية العليا اجتمعت وقررت الاضراب وتظاهرات وبرقيات الاحتجاج! ».
ومن تقرير عن القدس في 14 ديسمبر الـحالي:
«حالة فوضى وعمل إفرادي، بدأ تنظيم ما يسمى «باللجان القومية» في القرى والـمدن لترتيب أمور الدفاع والتسلح وما شاكل ولكن بلا جدوى. فالهيئة العربية العليا نفسها في حالة تخبط داخلياً ولا تزال سائرة على الأسس الاعتباطية الـماضية. وهي قائمة بسمعتها وسلطتها لا بعملها وتنظيمها»
«السوريون في فلسطين يتوقعون الـمعونة من «الـجامعة العربية» والدول السورية والعربية. ولكن إذا لم تصلهم الـمعونة التي هي أملهم الوحيد الآن فإن نفسية الشعب العامة الثائرة الآن ستصاب بانسحاق. شعرت أن الكثيرين بدأوا يتألـمون من عدم اشتراك الـحزب القومي الاجتماعي في القضايا العليا وتنظيم العمل»
«التسلح: قائم حتى الآن، على الشراء الافرادي، فكل شخص يفتش بنفسه عن قطعة سلاح يشتريها للدفاع عن نفسه، وقد بلغ سعر السلاح هنا حداً جنونياً وقد أصبح الآن مفقوداً تقريباً»
«منظمة الشباب التي تعتبر العضو العسكري للحزب العربي والهيأة العربية العليا لم تقم بأية أعمال جدية كبيرة إلا التبجح بأن كل مقاتل من أجل فلسطين يجب أن يكون تابعاً لها. وعندما يتقدم كثيرون للإنضمام إليها لا يقبلون لعدم وجود سلاح لديهم. ولذلك عمد كثير من الأهالي، كل حي وكل شارع بذاته، إلى الإجتماع والتداول وتقرير الدفاع عن أنفسهم. وما يسمى بالـحرس الوطني) أي رجال منظمة الشباب) هم جماعات من الناس متحمسة ينقصها النظام والتدريب ويوكل إليها، في بلبلة هائلة، الدفاع عن الـمناطق السورية الـمجاورة لليهود) مثل الـمنطقة النازل أنا فيها حيث أسمع أزيز الرصاص من الـمساء حتى ساعة متأخرة من الليل أحياناً(.
هذه صورة أكيدة، وإن تكن غير كاملة، ترسمها ثلاثة تقارير وردت مركز الـحزب مؤرخة من 28 نوفمبر إلى 14 ديسمبر الـماضي وهي تظهر ناحية من الاختلافات السياسية الداخلية فيما بين الفئات السورية الـمتنازعة على النفوذ والسلطة. وتظهر مقدار البلبلة الشعبية في فلسطين وتقصير التكتلات السياسية في التنظيم مع كل ما كان لديها من النفوذ ووسائل التنظيم والإعداد.
وإن أخباراً من جهات أخرى تدل على تـحرك قوات سورية متطوعة تتجه نحو جنوب سورية. ولكنها كلها قوات تتجمع برأيها ولا تخضع لنظام عام موحد وليست لدينا معلومات عن مدى التنظيم الذي حصل حتى الآن، على أثر تعيين فوزي القاوقجي قائداً عاماً للثورة السورية من أجل فلسطين.
أما الـحزب القومي الاجتماعي فلا يزال جاداً في تنظيم جنوده وانتظار السلاح وكيفية اشتراكه الكلي في عملية إنقاذ فلسطين، حسب الـموقف الذي أعلنه الزعيم في بلاغه الـمؤرخ في ديسمبر الـماضي.
ولكن يـمكننا اطلاع الرأي العام على أن بعض الفرق القومية الاجتماعية في فلسطين وخارجها قد ابتدأت تتحرك لإعطاء الـمساعدة والإغاثة الـممكنة حيثما أمكن.
28 ديسمبر عمدة الإذاعة
إمضاء الوكيل وديع الأشقر