بـمناسبة انعقاد مؤتـمر «الـجبهة العربية» في يافا، فلسطين، (في 21 سبتمبر/ أيلول 1945) بصدد «القضية الفلسطينية»، توجه حضرة رئيس الـمجلس الأعلى- رئيس الـمكتب السياسي في الـحزب القومي، الأستاذ نعمة ثابت، ليمثل الـحزب في الـمؤتـمر.
وقد عهد حضرة الرئيس إلى الأستاذ فايز صايغ بـمرافقته كمستشار خاص، فأعد البيان التالي وقدمه للمؤتـمر:
مقدمة
في هذا الظرف التاريخي الدقيق-
إذ يخرج العالم من مجزرته الرهيبة- التي حشد في سبيلها سائر قواه- منهوكاً، مثقلاً بالأحزان والـمآسي؛
وإذ يتحفز العالم لبناء غدٍ: قد يكون سعيداً، لا أثر فيه للجور، بين الأمـم أو فيها؛ وقد يكون شقياً، يتسابق نحو الفناء-
في هذا الظرف التاريخي الدقيق، يجب أن تـحصر أمـم العالم العربي جهودها كلها في سبيل بناء العالم الـجديد:
أولاً: في الـحقل الدولي العام لكي تضمن ألا يُقرر العالم الـجديد، ويُبنى، دون مساهمة الأمـم العربية فيه مساهمة فعالة؛ ولكي تضمن ألا يكون العالم العربي عنصراً مهملاً أو ثانوياً في العالم؛
وثانياً: لكي تضمن ألا يُعتدى مجدداً على بعض أجزاء العالم العربي الـمهدد، الـمحاطة بالـمطامع والأخطار، وألا يستمر الـجور الذي قد لـحق بهذه الأجزاء العزيزة في الـماضي؛
وثالثاً: في الـحقل الداخلي: لكي تكفل إشادة نظام اجتماعي- اقتصادي عادل، ضمن الأمـم العربية، خال من الـجور والاستغلال بين الطبقات والفئات الـمختلفة.
ولقد أبدى العالم العربي، حتى الآن، جهوداً عظيمة في سبيل ضمان هذه الأهداف، وتكللت مساعيه لتوحيد هذه الـجهود، بالنجاح، في تأسيس«الـجامعة العربية»، فسار، بهذا العمل، على الطريق السوية نحو حشد قواه في سبيل تنفيذ مآربه وتأمين حقوقه.
****
وها نحن الآن، في هذا«الـمؤتـمر»، نسعى إلى معالـجة إحدى الـمشاكل الهامة التي يواجهها العالم العربي، وإلى وضع الأسس الـمشتركة لكفاحنا الـمشترك في سبيل تخليص جزء عزيز من العالم العربي من أخطار رهيبة تنتظره: لا سيما وأن القوى اليهودية قد أبدت مؤخراً نشاطاً ملحوظاً في سبيل توحيد صفوفها للقضاء على مقاومة العالم العربي لإنشاء «الوطن القومي اليهودي» في فلسطين.
وإن«الـحزب القومي»، إذ يشكر القائمين على أمر هذا الـمؤتـمر لـمباشرتهم بهذه الـخطوة الـمباركة، ويقدر لهم هذا الـمجهود الـمبرور- يسره أن يعلن في ما يلي موقفه من«الـمشكلة الفلسطينية»، والأسس التي يبني عليها خططه لـمعالـجة هذه الـمشكلة.
****
وسنوضح في هذا«البيان» أموراً ثلاثة، نعتبرها على غاية قصوى من الأهمية- راجين أن يأخذ الـمؤتـمرون الـموقرون هذه النقاط بعين الاعتبار في أبحاثهم وفي مقرراتهم فسيتناول بياننا، طبقاً لهذه الـخطة-
أولاً: دفع التباس أساسي، يصر الصهيونيون على ترسيخه في أذهان الشعوب، حول معنى «القضية اليهودية» و«القضية الفلسطينية»؛
ثانياً: التحذير من أخطاء حقوقية ترتكب عادة في الدفاع عن حقوقنا القومية في فلسطين؛
ثالثاً: عرض الـخطط العملية التي نقترح على الـمؤتـمر الـموقر أن يطالب بها، معالـجة للوضع الراهن في فلسطين.
***
الـجزء الأول: «القضية اليهودية» و«القضية الفلسطينية»
إن الكثير من البلبلة الـحقوقية والاجتماعية، بصدد «القضية الفلسطينية»، يـمكن تلافيها بالتشديد على تـمييز أساسي بين قضيتين مستقلتين كل الاستقلال، تصر الدعاية الصهيونية على اعتبارهما قضية واحدة. ولا ريب أن في قبولنا نحن بهذا الدمج بين القضيتين، خطأً حقوقياً اجتماعياً، يؤدي إلى تقوية التمويه الذي بدأ به الصهيونيون بهذا الصدد، وإلى إكساب الإدعاءات الصهيونية صفة حقوقية، وإلى دعم موقف الدعاية الصهيونية في الأوساط ذات الشأن.
ودفعاً لهذا الالتباس، نقدم إلى«الـمؤتـمر» الـموقر، ونعلن للعالم الـمختص من على هذا الـمنبر، التمييز التالي، الـمستند إلى التاريخ والـمنطق:
إننا نعلن أن«القضية اليهودية» قضية قائمة بذاتها، مستقلة كل الاستقلال عن«القضية الفلسطينية»- إن في أسبابها وعواملها، أو في واقعها وجوهرها، أو في معالـجتها وحلها.
****
(1) «فالقضية اليهودية» هي قضية فئة «دينية- ثقافية- روحية»، انتشرت- بفعل عوامل تاريخية معينة- في سائر أقطار العالم؛ واحتفظت، أثناء هذا الإنتشار، الطويل الـمدى، البعيد الآفاق، بشخصيتها الـخاصة، غير مـمتزجة بالفئات الأخرى، ومثيرة، بهذا الإنعزال اللامندمج، حقد الشعوب الأخرى الـمحيطة بها، وعداءَها.
ولا ريب في أن«الـخلق اليهودي»، و«النفسية اليهودية»، هما السبب الوحيد الذي عمل على استدامة هذا الإنعزال، وبالتالي على إثارة هذا العداء. ذلك أن«النفسية اليهودية»، الـمتمسكة بخرافة «شعب الله الـمختار»، والـمحافظة على ادعائها«برسالة» خاصة، قد ولّدت لدى الشعب اليهودي شعوراً بالانتفاخ والاعتزاز والكبرياء؛ وكوّنت عاملاً على انعزال اليهود، ورفضهم الاندماج؛ واحتفظت للشعب اليهودي بطابعه الـخلقي الاجتماعي الـخاص؛ وحصرت جهود اليهود في التعاون الشديد معاً، مادياً وروحياً؛ وأورثتهم حقداً على العالم الأجنبي- فأثارت، بهذا العمل، عداء الشعوب التي حل اليهود بينها، وكراهيتها.
ولئن كان ثمة من يلام على هذا العداء، ومن يصح اعتباره مسؤولاً عنه، فإنـما ذاك الـمسؤول الـملام هو«الشعب اليهودي» نفسه،«والـخلق اليهودي» بعينه! وأن الـمحاولات اليهودية لإلقاء مسؤولية مصير اليهود الكئيب على عاتق ظروف معينة أو شعوب معينة، لـمحاولات مردودة في أساسها، لأنها تتجاهل العامل الأول والأساسي الذي خلق تلك الظروف، وأثار عداء تلك الشعوب!
وبـما أن«القضية اليهودية» قضية قد ولّدها «الـخلق اليهودي»، وأثارها«الشعب اليهودي»، فإنه لـمن الـخطأ والإجحاف أن يُحمّل «الشعب الفلسطيني» تبعة حل «القضية اليهودية» على حسابه- على حساب مصيره القومي،وحقوقه الـمقدسة، وحريته في وطنه.
(2) أما «القضية الفلسطينية» فهي قضية شعب آمن، وُعدت بلاده ومرافقها – من قِبل دولة أجنبية لا تـملك حق التصرف بهذه البلاد والـمرافق- للشعب اليهودي؛ وأُعْلنت مقرّاً لإشادة «الوطن القومي اليهودي» : بـما في إشادة هذا«الوطن» من تعدٍّ على الـحقوق القومية في فلسطين، ومن أخطار معنوية ومادية جسيمة على هذه الـحقوق.
ولقد عبّر الشعب الفلسطيني- بسائر هيئاته وأفراده- عن عدم اعترافه بهذا الوعد وعن رفضه لإشادة «الوطن القومي اليهودي» في بلاده. ولقد هبّ – في مناسبات عديدة- ليؤكد تعلقه بحقوقه القومية، ورفضه، تـحت أي ظرف من الظروف، أن يتنازل عنها! فكان في اتخاذ الشعب الفلسطيني هذا الـموقف، خير دحض لأي استناد حقوقي يستنده الشعب اليهودي على الوعد الـمعروف «بوعد بلفور».
****
يظهر جليًّا مـما تقدم، أن «القضية اليهودية» قضية مستقلة كل الاستقلال عن «القضية الفلسيطنية» . وأن حل «القضية اليهودية» لا شأن لفلسطين فيه، ولا مبرر لتحميل الشعب الفلسطيني تبعاته وويلاته! وإن ادعاء الهيئات الصهيونية بأن حل «القضية اليهودية» لا يكون إلا في إشادة «الوطن القومي اليهودي» في فلسطين، ومطالبتها بالتسهيلات الـمختلفة لهذا العمل، وبخنق كل مقاومة يقوم بها الشعب الفلسطيني دفاعاً عن كرامته وعن حقوقه- إن هذا الإدعاء وهذه الـمطالبة، لتعد حقوقي صريح، يجب أن تنظر إليه تلك الدول، التي قامت تدافع عن حريات الشعوب، بالاستنكار بدلاً من التأييد!
****
ونحن لم نُدْع إلى هذا «الـمؤتـمر» لنتباحث في أسس معالـجة «القضية اليهودية»- وإنـما نحن هنا بالـحري لـمعالـجة «القضية الفلسطينية» – قضية الاعتداء على الشعب الفلسطيني في أعز ما يـملكه: في وطنه، وموارده، وكرامته القومية، وحقه بالبقاء!
****
الـجزء الثاني : «الحقوق القومية» في فلسطين
فإذا ما حددنا، بفضل هذا التمييز بين القضيتين، أساس «الـمشكلة الفلسطينية» التي من أجلها يلتئم هذا الـمؤتـمر، جاز لنا أن نتقدم إلى«الـجزء الثاني» من «بياننا» : إلى التدليل على «حقوقنا القومية» في فلسطين.
****
إن الـمتتبع للأساليب الدعائية التي اتبعت بصدد «القضية الفلسطينية»، يتضح له، ولا شك، خطأ فاضح في نقاط الإرتكاز في الـحجج الصهيونية الـمقدمة بهذا الصدد، كما يتضح له ضعف في الإجابة على هذه الـحجج ومجابهتها.
****
فالدعاية الصهيونية ترتكز على نقاط ثلاث أساسية، مدافعة عن حقها في «الوطن القومي اليهودي» في فلسطين:
(1) الإستناد الأول يرتكز على أساس «شبه تاريخي» فهو يشدّد على علاقة اليهود التاريخية بفلسطين، وما انبثق عنها من روابط دينية وروحيه.
والواقع أن هذه الـحجة مردودة بحقيقة تاريخية بسيطة، غيّر عنها «سعاده» - في مذكرته الـمرفوعة إلى عصبة الأمـم في 14 يوليو/تـموز 1937، جواباً على تقرير «اللجنة الـملكية» الـمعروفة، التي اقترحت «التقسيم» حلاً لـمشكلة فلسطين- بقوله:
«كان جنوب سورية مقراً للكنعانيين الذين اتخذوه وطناً لهم، وعرف بإسمهم- فسمي في أحاديث اليهود «أرض كنعان». فجاء العبرانيون إلى هذه البقعة، عشائر بربرية متبدية، وأخذوا يعيثون في الأرض ويخربون وينهبون ومع الوقت استولوا على بعض الـمدن والأراضي، وأنشأوا فيها إمارة خاصة بهم. وأخذوا من الشرائع الكنعانية شريعتهم، ولكنهم ظلوا، تـجاه أهل البلد الأصليين وغيرهم من الشعوب، غرباء، يحتاجون إلى توطيد إقامتهم بالسيف. وظلت هذه حالهم إلى أن ضربتهم الدولة السورية ضربة عظيمة، وشتتهم الرومان.
«من هذه اللمحة نرى أن «الـمسألة اليهودية» في العالم ابتدأت قبل الـجلاء عن سورية، أي منذ مجيء العبرانيين من البادية إلى جنوب سورية، وواضح أن اليهود ليسوا أصليين في البلاد، وأن وجودهم في فلسطين لم يجعل لهم صفة خلفاء لأهل البلاد الأصليين».
****
(2) والاستناد الصهيوني الثاني يرتكز على أساس «عاطفي»، مؤداه أن العداء العام الذي توجهه الأمـم الـمختلفة لليهود، يضع الشعب اليهودي في مأزق لا نـجاة له منه إلا بإعطاء اليهود «وطناً قومياً»، يناط مصيره بإرادتهم، وتسيطر عليه هيئاتهم، وتُشكّل فيه دولتهم القومية؛ وإن هذا الوطن لا يـمكنه أن يكون إلا فلسطين، بالنظر للروابط التقليدية التي تربط اليهود بهذا الـجزء من بلادنا.
وهذه الـحجج مردودة باعتبارين أساسيين:
)أ( أولهما، أن عداء الشعوب لليهود- كما قلنا سابقاً- لم ينبثق إلا عن «النفسية والـخلق اليهوديين»؛ وإن الشعب اليهودي هو الـمسؤول نهائياً عن مأساة مصيره؛ وأنه، لو حاول اليهود معالـجة هذا الداء الـخلقي الـمتفشي في نفوسهم، لكان ذلك أولى لهم من أن يسعوا إلى إثارة مجتمعات جديدة عليهم، بـمحاولتهم الاستيلاء على جزء عزيز من العالم العربي اغتصاباً وبالإكراه!
(ب) والاعتبار الثاني، أنه: لو سلّمنا جدلاً باستحالة معالـجة «القضية اليهودية» بهذه الطريقة، وسلمنا بأن «القضية اليهودية» لن تُـحلّ إلا باستيطان اليهود «لوطن قومي» خاص بهم- فإننا لن نرضى قط بأن يكون هذا الاستيطان في فلسطين وعلى حساب شعبها: ذلك الشعب الـحريص على كرامته القومية، والـمتعلق بحقوقه الـمقدسة في بلاده! وما قبول بعض أقطاب اليهود بالتفتيش عن بلدان أخرى ينشئون فيها وطنهم القومي، سوى الدليل الناصع على أن تعلق الصهيونيين بفلسطين أن هو إلا تشبث اعتباطي طماع، لا مبرر له!.
(3) والاستناد الصهيوني الثالث يرتكز على أساس «سياسي» بحت- هو الوعد الذي قطعته الـحكومة البريطانية على نفسها، بدعم الاستيطان اليهودي في فلسطين، واكسبته صفة «شبه-شرعية»، بحملها الدول على تبني هذا الوعد في صلب «صك الإنتداب»
وحريٌّ بنا أن نشير هنا إلى الأخطاء الـمتبعة في دحض هذا الاستناد، وأن نوضح رأينا في الدحض الـحقوقي الصحيح.
(أ) فالإجابة على هذه الـحجة الصهيونية يجب ألا تكون في الإشارة إلى أن نص الوعد البريطاني لا يبرر تفسيره بالشكل الذي يفسره به الصهيونيون- أي أن القول بأن «حكومة جلالة الـملك تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين»، لا يـمكن تفسيره بالقول أن الـحكومة البريطانية «تنوي جعل فلسطين وطناً قومياً للشعب اليهودي»
)ب (كما أن الإجابة يجب ألا تكون، ثانياً، في التذكير بالقسم الثاني من «الوعد» الذي يتحفظ قائلاً:
«مع البيان الـجلي بأن لا يفعل شيء يضير الـحقوق الـمدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية الـمقيمة في فلسطين الآن... »
)ج (ويجب ألا تكون الإجابة على هذه الـحجة الصهيونية، ثالثاً، في إظهار التناقض بين «وعد بلفور» هذا، وبين مضمون الـمادة الثانية والعشرين من «ميثاق عصبة الأمـم »- التي تـمنع أي تصرف حقوقي من قبل الدولة الـمنتدبة، يـمس بسيادة الأمـم الـمنسلخة عن السلطنة العثمانية، والـمعترف بأنها أمـم مستقلة.
)د (ويجب ألا تكون الإجابة على هذه الـحجة الصهيونية، أخيراً، في التذكير بالوعد الـمناقض «لوعد بلفور»، والذي قدمته الـحكومة البريطانية قبل وعد بلفور، للشريف حسين بواسطة معتمدها السير هنري مكماهون، واعترفت فيه باستقلال البلدان العربية ضمن حدود تضم فلسطين.
كلا. أن حصر الإجابة على استناد الصهيونيين على «وعد بلفور» في هذه الأجوبة لتدبير خاطئ، لأنه ينبثق عن «نقطة ابتداء» واهية وخاطئة.
فهذه الأجوبة الأربعة كلها تبتدئ من «الوعود السياسية» كوعود «شرعية»: في حين أن «نقطة الابتداء» الـحقيقية يجب أن تكون، بالـحري، الاستناد على «حقنا القومي» الطبيعي في قطعة من صميم وطننا!
نحن لن نناقش «وعد بلفور» أو «وعد مكماهون» أو «صك الإنتداب»؛ ولن نبني دفاعنا عن حقوقنا في فلسطين على تفسير هذه الوعود، والتأمل في مدى دلالتها:-وإنـما علينا أن نناقش تلك «السياسة» التي تخول نفسها حق إعطاء هذه الوعود، والتصرف ببلادنا كما تشاء؛ وأن نناقش تلك «الذهنية» التي ترضى بأن تبدأ بحثها بهذه الوعود كوعود «شرعية»! نحن ننكر «شرعية» هذه الوعود من أساسها: وأن «نقطة الابتداء» الـحقيقية في بحثنا يجب ألا تكون سوى «حقنا الطبيعي القومي»، الـمكتسب من واقع حياتنا الاجتماعية في وطننا!
أننا نعلن أن حقنا في فلسطين «حق طبيعي قومي»، مكتسب من تفاعل شعبنا مدى التاريخ مع هذه البقعة الأرضية- لا «حق سياسي» يكتسب بالاعترافات والعهود الدولية، وينتزع بها!
وإننا نعلن أننا لن نعترف بشرعية الاتفاقات والعهود الدولية التي تـمس بلادنا ومصيرنا وحقوقنا، إلا إذا كانت أمتنا مـمثلة فيها، وكانت وجهة نظرنا معبراً عنها فيها بواسطة مـمثلين شرعيين عن الأمة. فإن مصيرنا القومي لن يقرره سوى أمتنا نفسها. وكل تدبير على غير هذا الأساس إنـما هو بـمثابة حكم غيابي تصدره هيئة لا صلاحية لها بإصداره. ولن نعترف به، ولن نرضى بأي قيد تقيدنا به مثل هذه التدابير، أو بأي قرار يقرر فيه الغير مصيرنا. وأن أذعنا له، فإنما إذعاناً لقوة مكتسحة، لا اعترافاً بحق مشروع!
يجب إذن أن نقلع عن الابتداء في دفاعنا عن مشروعية حقوقنا في فلسطين، بالإشارة إلى «وعد مكماهون»، أو بالاجتهاد في تفسير «وعد بلفور»: ويجب أن تغدو «نقطة الابتداء» في هذا الدفاع، انكارنا لـحقوقية كلا الوعدين، وأي وعود أو اتفاقات أخرى يعقدها الغير، أيًّا كانوا، على حسابنا!
أن قضية مصيرنا ليست «قضية بريطانية» داخلية، حتى تتصرف بها بريطانيا كما تشاء، وتعد بها من تشاء!
وأن «وعد بلفور»، «كوعد مكماهون»، وعد سياسي، يقيد بريطانيا لكنه لا يقيدنا نحن على الإطلاق!
****
الـجزء الثالث: مطاليبنا السياسية في الظرف الـحالي
فإذا انتقلنا، بعد هذا، إلى النقطة الثالثة من بياننا، وتقدمنا لإبداء رأينا في الـخطط العملية الواجب اتباعها لـمعالجة «القضية الفلسطينية» في حالتها الراهنة- اصطدمنا بعقبة أساسية، هي واقع وجود عدد كبير من اليهود، استوطنوا جزءاً كبيراً من أراضي فلسطين، وأشادوا فيها مستعمرات ومدناً ومؤسسات اقتصادية؛ ونظموا فيها سائر مصالح حياتهم: من اقتصادية، وصحية، وثقافية، ومدنية؛ وكوّنوا لأنفسهم «جهازاً سياسياً» مركزياً، معترفاً بها من السلطة الـمنتدبة كهيئة شرعية تـمثل الشعب اليهودي ومصالـحه في فلسطين.
وكل معالـجة عملية «للقضية الفلسطينية» لا يـمكنها أن تتغاضى عن هذا الواقع الـمؤسف، أو تهمل الإقرار بواقعيته. ولذلك فالـخطط العملية التي ستُقدم في هذا- الـمؤتـمر، يجب أن يُتوخّى في تقديـمها عنصر «الإقرار بالأمر الواقع» من ناحية عملية، والتقدم- من ضمن هذا الإقرار- إلى معالـجة هذا الواقع، وتخفيفه، وبالتالي تلافيه.
لكن هذا يجب ألا يعني على الإطلاق اعترافنا حقوقياً بشرعية واقع فُرض علينا فرضاً، وأبدى الشعب الفلسطيني- ومن ورائه العالم العربي بأسره- في كل الـمناسبات، إياه رفضاً باتاً: أي أن اعترافنا بهذا الواقع يجب أن يكون فقط إقراراً واقعياً بظرف راهن، نقوم به في سبيل معالـجة هذا الظرف وإلغائه في النهاية- لا اعترافاً حقوقياً بشرعية وضع ينكر حقوقنا، ويُشكّل اعترافنا الـحقوقي به سابقة حقوقية تفرض علينا الاعتراف به دائماً، وتـمنعنا من مناوأته في الـمستقبل.
وبناء على هذه الاعتبارات، فإننا نطالب-
بإسم الألوف من القوميين، الذين نذروا نفوسهم في سبيل خدمة الأمة، واقسموا ألن يهدأ لهم بال، وألّن يطمئنوا، قبل أن يُنسف كل وضع من أوضاع الأمة ينافي الـحقوق القومية، ويضر بالـمصلحة القومية-
وبإسم الألوف من أنصارهم ومؤازريهم-
إننا نطالب، ونطلب من الـمؤتـمر الـموقر أن يقر الـمطاليب العشرة التالية، الـمقسمة إلى أبواب ثلاثة رئيسية:
الباب الأول: الإجراءات التي من شأنها
أن توقف تقدم «الوطن القومي اليهودي» في فلسطين:
أولاً: إننا نطالب بإنصراف الدولة الـمنتدبة مباشرة إلى نسف وإلغاء سائر التشريعات والإجراءات والتدابير الـجائرة، العابثة بحقوقنا القومية في فلسطين، والـمتوخية تسهيل مهمة تأسيس «الوطن القومي اليهودي» في فلسطين.
ثانياً: الهجرة والـجنسية: إننا نطالب بـ:
(أ ( منع الهجرة اليهودية القانونية منعاً باتاً،
)ب (العمل الـجدي على الـحؤول دون الهجرة الـخفية، بكل الوسائل الـممكنة
)ج (التسهيل لليهود الراغبين في ترك فلسطين، في أن يتركوها.
)د) التوقف مباشرة عن إعطاء الـجنسية الفلسطينية لأي يهودي على الإطلاق.
ثالثاً: الأراضي والـمنشآت: إننا نطالب بـ:
)أ( منع بيع ونقل الأراضي لليهود منعاً باتاً في كل مناطق فلسطين دون استثناء
(ب) التحوّط ضد تسرب الأراضي إلى اليهود بأساليب أخرى غير أساليب البيع
(ج (إعادة النظر في سائر عمليات انتقال الأراضي التي تـمت بعد إعلان «الكتاب الأبيض»، وكانت منافية لنصوصه، واعتبارها لاغية.
)د (إيقاف الترخيص للمؤسسات اليهودية الاقتصادية والعمرانية، أو إنشاء مستعمرات جديدة لليهود.
رابعاً: التوظيف واللغة الرسمية: إننا نطالب بـ:
)أ (إعادة النظر في نسبة الـموظفين اليهود، خاصة في الدوائر الـحكومية العليا، وفي الـمصالح الـماسة مساساً مباشراً بحياة الشعب، وضمان عدم تعدي النسبة العددية
لليهود في التوظيف.
)ب (إلغاء اللغة العبرية من عداد اللغات الرسمية في فلسطين.
خامساً: القوى الـمسلحة: إننا نطالب بـ:
)أ (تسريح سائر القوى اليهودية الـخاصة والاستثنائية والـمنوط بها خفر الـمستعمرات اليهودية.
)ب (القيام بحملة منظمة من قبل الدولة الـمنتدبة لـجمع الأسلحة الـموجودة مع اليهود، والتي تشكل خطراً على الأمن العام وعلى سلامة الوطن.
الباب الثاني- الإجراءات التي من شأنها
أن تعطي الشعب الفلسطيني حكماً ذاتياً:
سادساً: إعلان فلسطين دولة مستقلة بالفعل.
سابعاً: فسح الـمجال لانبثاق حكم ذاتي في فلسطين، على الأسس الديـمقراطية الـحرة.
ثامناً: عدم ربط الدولة الفلسطينية الـمستقلة بأي تعهدات سابقة. وترك سائر الشؤون الـمتعلقة باندماج هذه الدولة بالدول السورية الـمتاخمة، ليقررها استفتاء شعبي عام في فلسطين بعد قيام الـحكومة الوطنية.
تاسعاً: إعلان فلسطين في حل من سائر الارتباطات والتعهدات الدولية التي عقدت بإسمها، أو بإسم أية دولة أجنبية: ويدخل ضمن هذه الارتباطات «وعد بلفور» والوعود البريطانية الـمشابهة، وسائر التصريحات الرسمية أو الشبه رسمية التي صدرت عن دول أخرى، أو أشخاص رسميين في دول أخرى- سواء ما أعلن منها وما لم يعلن.
الباب الثالث: حل الوطن القومي اليهودي وتلاشيه تدريجياً:
عاشراً: إننا نطلب عدم عرقلة الإجراءات التي ترى الدولة الفلسطينية الـمستقلة من الضروري اتخاذها في سبيل ترحيل اليهود) الذين قدموا إلى فلسطين أثناء مدة الإنتداب البريطاني، وبتشجيع الدولة الـمنتدبة، وتنفيذاً لوعد لم يعترف به الشعب الفلسطيني) - شرط أن تكون هذه الإجرارات تدريجية، وتشرف على تنفيذها لـجنة دولية تـمثل الدول التي هاجر منها اليهود إلى فلسطين، وشرط أن لا تستغرق عملية تنفيذ هذا الترحيل مدة أطول من الـمدة التي استغرقها مجيء اليهود.
****
وإننا نعلن أن أية معالـجة «للقضية الفلسطينية» لا تتحفظ هذه التحفظات للعمل التدريجي في سبيل رفع الـحيف الذي لـحق بفلسطين من جراء إشادة «الوطن القومي اليهودي» فيها – ستترك «القضية الفلسطينية» شوكة في جسم الاستقرار في العالم العربي، وبالتالي عقبة في سبيل السلم العالـمي، والرخاء والسعادة والرقي التي ينشدها العالم.
وأن أي تقاعس عن إعادة الـحق الـمسلوب إلى الشعب الفلسطيني سيكون طعنة في صميم الـمثل العليا التي حاربت من أجلها شعوب العالم وأراقت في سبيلها ما أراقته من دماء. وأن أمتنا لن ترضخ لأي أسلوب من أساليب التهديد أو البطش أو الإفناء، إذا كانت فلسطين ستظل مطمعاً للشعب اليهودي، فتساعده على استيطانها الدولة الـمنتدبة أو أية دولة أخرى.
ولكننا نثق بتعلّق الشعب البريطاني بـمثل الـحق والعدالة والـحرية:
ونثق بأن الشعب البريطاني لأنضج من أن تـمر به اختباراته السياسية دون أن يستفيد منها، وأنه لذلك سيقدّر الـخطأ الذي ارتكبه في إعطاء الوعد «بالوطن القومي اليهودي» في فلسطين، وفي محاولة فرض هذا «الوطن» على الشعب الفلسطيني رغم مقاومته- لا سيما وأن الشعب اليهودي قد أبدى عقوقه الشعبي، وأظهر النزعات الارهابية الثورية الرهيبة الـمستوطنة في نفسه، والـمخلة بالأمن والاستقرار، والتي وجهت في الـمقام الأول إلى الرعايا البريطانيين في فلسطين،
ونثق أخيراً بإن الشعب البريطاني يقدّر الـحاجة الـمشتركة لقيام جو من التعاون والصداقة، بينه وبين الأمـم العربية، بدلاً من الـمحافظة على جو- لا يـمكنه أن يخلو من التوتر إذا احتفظت بريطانية بـموقفها الـحالي من فلسطين-
إننا نثق بهذه العوامل، إذ نبدي توقعنا بأن لا تتابع بريطانيا بعد هذه الـحرب تلك السياسة التي انتهجتها بعد الـحرب الـماضية، وبأن تستهل عهداً جديداً من التعاون الـمتبادل، يساعد على رفع الـحيف الذي كانت بريطانية الوسيلة الرئيسية لفرضه علينا.
خاتـمة
وقبل أن نختم هذا البيان، لا بد لنا من تذكير «الـمؤتـمر» الـموقر، بتلك البقعة الغالية الأخرى، الـمفجوعة كأختها فلسطين بـمطامع أجنبية خطره: تلك هي الـمنطقة الشمالية من سوريا، الـمقدمة تدريجياً، من قبل الاستعمار الفرنسي، فريسة إلى الدولة التركية الـمتاخمة- تلك الدولة التي كنا نود أن يكون موقفها من جارتها سورية منبثقاً عن احترام أصدق للحقوق والـحدود القومية، وعن تقدير أبعد نظراً للحاجة إلى التعاون في سبيل خير الأمتين، وإلى عدم إثارة حقد يحول دون الاستقرار في الشرق الأدنى.
لقد أُخضعت كيليكية والإسكندرون لسياسة تركية، تـجد في سلبهما طابعهما القومي، وفي «تتريكهما» وتتحفز لتجعل من تينك البقعتين نقطة ارتكاز تنطلق منها في غزوات أكثر اتساعاً!
إننا نطلب من «الـمؤتـمر» الـموقر، أن يرسل تـحيته إلى بني أمتنا، الذين أُخضعوا – كما أُخضع الشعب الفلسطيني- لسياسة ارهاق، ماسة بكرامتهم ومصالـحهم الشخصية والقومية، وأن يعلن إننا، ونحن نعالج قضية جزء من أجزاء العالم العربي الـمفجوعة، لا يـمكننا أن ننسى ذلك الـجزء الآخر، أو أن نتقاعس عن توحيد الـجهود في سبيل إنقاذه أيضاً.
استدراك
بعد طبع هذا «البيان» بساعات قليلة، وردت على رئاسة «الـحزب القومي» برقية من سكرتير «الـجبهة العربية» تنبيء بتأجيل «الـمؤتـمر» إلى أجل غير محدد فاقتضى التنويه.