بينما الـمجموع السوري اللاقومي الواسع في القطر الأرجنتيني غارق في خضم الأغراض الفردية الـحقيرة ومنشغل بالعداوات والنكايات الشخصية، وبينما أغنياء هذا الـجيـل الذليل منصرفون إلى مادياتهم ومنهمكون بالإكثار من البهرجة الـخارجية الباطلة، وبينما الـحركة السورية القومية الاجتماعية تصارع، صراع الـمستميت، مفاسد هذا الـجيل وتـحارب بكل قواها الـمطامع الأجنبية في وطننا من غير أن تلاقي التقدير والتأييد الضروريين لإنـجاح قضية أمتنا ووطننا - بينما كل ذلك يجري في أوساطنا الـمنتشرة خارج سورية وفي وطننا عينه حيث تباع حقوق الأمة ومصالـحها بوظائف الاستعباد يستولي عليها الذين يدوسون شرف قوميتهم بأقدامهم لينحنوا أمام الـحكام الأجانب انحناء العبيد، تـجري في العالم أمور لها خطورة عظيمة في تقرير مسائل حيوية لكياننا القومي ومرامي نهضتنا وحياتنا القومية الاجتماعية.
من أهم الـمشاكل الـخطرة جداً التي سنواجهها بعد هذه الـحرب الـمشكل الصهيوني الذي صار خطراً عظيماً مداهماً يهدد بالقضاء على معظم آمالنا.
إنّ مئات الفروع اليهودية الـمنتشرة في جميع أنحاء العالم الـمندمجة في الـمنظمة الصهيونية، تعمل عملاً واحداً منظماً، وترمي إلى غاية واحدة واضحة هي: الاستيلاء على سورية كلها وتـحويلها إلى وطن قومي خاص باليهود وينشئون فيه دولة يهودية ذات سيادة واستقلال.
وقد تـمكنت الـمنظمة الـمذكورة، في أثناء الـحرب الـماضية، وبينما السوريون منقسمون إلى عثمانيين وحلفائيين، من اكتساب مركز تـجاه بعض الدول الكبرى ومن الدخول، جبهة واحدة منظمة، في مسائل الـحرب الـماضية دخولاً جعل لها منزلة، وصيّر قضية اليهود والوطن القومي الذي رموا إلى انتزاعه من القضايا التي استحقت أن ينظر فيها مؤتـمر الصلح[1] سنة 1919 ويؤيد مطالب اليهود تأييداً صريحاً في الـمعاهدة التي أقرها ذاك الـمؤتـمر. وفتحت أبواب الهجرة اليهودية إلى فلسطين، التي هي أول قسم من سوريـة يريـد اليهود ابتلاعه وتنظيم شؤونهم واستعداداتهم فيه تـمهيداً لابتلاع الأقسام الباقية، وأوصدت في وجوه أبناء البلاد الـمهاجرين أبواب العودة إلى وطنهم وأهلهم. صار اليهودي الغريب ذا حق في فلسطين يطالب به وخسر السوري الـمولود في فلسطين حقه في وطنه.
وفي هذه الـحرب العالـمية الثانية أشعّت الـمناورات اليهودية وتدخلات اليهود الإنترنـاسيونيـة لتحقيق الغايـة الصهيونيـة الراميـة إلى انتـزاع وطننا منا وتصييره ملكاً شرعياً لهم.
وقد مكّنتهم وحدتهم وخضوعهم لنظام واحد من اغتنام الفرص السانحة، والاستفادة من إمكانيات واسعة. فاشتد تدخلهم في سياسة قضيتهم وفي سياسة أميركانية، ودافعوا عن قضيتهم وبذلوا في سبيل تأييدها بسخاء كبير، وتـمكنوا من اكتساب الأنصار في مجالس بريطانية وأميركانية، واستغلوا اضطهاد الألـمان وحلفائهم لهم في أوروبة، ليطلبوا فسح الـمجال لدخول جماعاتهم الشاردة إلى فلسطين، وتـمكنوا باهتمامهم الـمتواصل من إحراز قسم غير يسير من مطاليبهم فدخل فلسطين عشرات ألوف اليهود وسنرى نحن السوريين، أنّ اليهود الذين دخلوا بلادنا وتوغلوا فيها في أثناء هذه الـحرب يزيدون على بضعة عشر ألفاً. وقد لا نكون مبالغين إذا قلنا إنّ اليهود في فلسطيـن سيكونون عند نهاية هذه الـحرب أكثر عدداً من السوريين في فلسطين وفي حالة تـمكّنهم من الـمطالبة بالاعتراف بالدولة اليهودية في جنوب سورية.
إهتمّ اليهود، في هذه الـحرب، بإحراز أشياء أخرى غير إكثار عدد اليهود الداخلين إلى جنوب سورية. ومن الأمور الـجوهرية التي اعتنوا بها عناية كبيرة تأليف جيش يهودي يحارب مع جيوش الأمـم الـمتحدة ويـمارس أساليب الـحرب الـحديثة. وقد ألـحّوا بإيجاد جيش يهودي مستقل بقيادته وأركان حربه لا يأمر عليه إلا قادة منه، ومع أنهم لم ينالوا هذه البغية التي تعادل الاعتراف بهم دولة قائمة، فقد فازوا بتأليف الـجيش اليهودي وتخويل الفرق اليهودية رفع العلم اليهودي في الـمواقـع التي تـحتلها في شرق الـمتوسط.
وفي السنة الـماضية وقع نظرنا على صورة مرسلة من جزيرة قبرص نشرتها جريدة في هذه البلاد تـمثّل جندياً يهودياً قائماً على الـمراسلة في هذه الـجزيرة السورية وفوقه يخفق علم النجمة اليهودية!
والآن يجتهد زعماء الـمنظمة الصهيونية لبلوغ غاية لا تقلّ خطورة عما تقدم ألا وهي أن يكون لليهود تـمثيل رسمي في مؤتـمر الصلح الـمقبل يعرض فيه قضية اليهود ومطاليبهم، ويطالب بتحقيق غايتهم وبنصيبهم من الاشتراك في هذه الـحرب.
وفي هذا الصدد وقفنا مؤخراً على برقية لشركة «رويتر» صادرة عن نيويورك في 14 يوليو/تـموز الـماضي وفيها أنّ الرئيس الـمنتخب حديثاً للمؤسسة الشاملة ليهود بولونية صرّح لأحد مراسلي الشركة الإخبارية الـمذكورة قائلاً: «سيعطى اليهود مركز بين مـمثلي الأمـم الـمتحدة حول طاولة مؤتـمر الصلح.»
لم نـجد لهذا التصريح الـخطير تأييداً من مصدر مسؤول في أمة من الأمـم الـمتحدة. ولكنه يدل على مبلغ اهتمام اليهود بهذا الأمر الـخطير وشدة سعيهم لتحقيقه. وإذا فازوا به كان ذلك من أشد الأخطار تهديداً لسورية ووحدتها ومستقبلها.
في أول خطاب ألقاه الزعيم في الوطن بعد عودته من الـمغترب وكان ذلك في أوائـل سنة 1933 وفي حفلة افتتاح نادي الطلبة الفلسطينيين في الـجامعة الأميركانية، قـال إنّ سورية تواجه خطرين مداهمين الواحد في الـجنوب والآخر في الشمال. الأول هو الـخطر اليهودي والثاني هو الـخطر التركي. وكان الزعيم أول سياسي سوري شرح وضعية سورية هذا الشرح، والأيام ترينا صدق نظرته وصواب رأيه وحسن خطته.
الـخطر اليهودي على سورية يستفحل وبعد هذه الـحرب سيكون شديد الوطأة وصعب الرد. والـخطر التركي أيضاً يقوى ويستفحل، فإن الـمطامع التركية تتجه إلى سورية أولاً، لأن سورية مجزأة ومفككة الأوصال، ويسهل التلاعب بـمآرب فئاتها اللاقومية العاجزة.
إنّ حالة سورية بعد هذه الـحرب ستكون صعبة جداً. والذين يتغنون الآن «باستقلال» لبنان والشام هم على ضلال.
لا إنقاذ لسورية، ولا شق طريق لـحياتها وارتقائها إلا بالـحركة السورية القومية الاجتماعية ومبادئها ونظامها. فهل يستيقظ وجدان الغافلين ويقلع أصحاب الغوايات عن النكايات والـمماحكات الشخصية، ويحوّلون قواهم للقيام بـمجهود قومي واحد يخضع لنظام واحد تذوب فيه العنعنات والعنجهيات ولا يبقِ إلا الإرادة الاجتماعية، أن نحيا وندافع عن وطننا وحقنا؟
ألا يريد أغنياؤنا أن يفهموا أنّ ميدان الـحركة السورية القومية الاجتماعية هو الـميدان الذي يليق أن يتباروا فيه بالسخاء والغيرة فيكسبون شرفاً لا يـمكن أن يكسبوه بتلك التبرعات الـمرائية التي يبذلونها للحكومات والبلدان العديدة من أجل الشهرة الشخصية أو من أجل زيادة منافعهم الـمادية؟
إنه لا يـزال في إمكـاننا أن نعـدّل مجرى الأمور لـمصلحة أمتنا وحياتها ومستقبلها، والـخطة لذلك مرسومة ولكن ينقصنا شيء جوهري هو: أن نلبي الواجب دائماً ونخضع للنظام دائماً، هو أن نسحق محبة ذواتنا ونحيي محبة جنسنا ووطننا.
[1]معاهدة فرساي التي أنهت حالة الـحرب التي نشبت عام 1914 بين الـحلفاء وألـمانية. وقد عقدت اتفاقية الصلح في 28/6/1918 بعد إعلان الهدنة في 11/11/1918، وأصبحت الـمعاهدة نافذة منذ 10/1/1920، وكان إنشاء عصبة الأمـم وميثاقها جزءاً من الـمعاهدة.