في العدد الأول من هذه الـجريدة عالـجنا تـحت هذا الباب مسألة الـمؤتـمر الإسلامي في لندن وعرضنا للأسباب السياسية العليا التي حملت بريطانية على عقده.
وفي العدد الـماضي من سورية الـجديدة نشرت هذه الـجريدة تـحت عنوان «ما وراء مؤتـمر لندن» بسطاً في هذا الـموضوع للمجلة الـمصرية الـمصور ينطبق كل الانطباق على رأي سورية الـجديدة في الـمقال الأول.
ويرى القارىء في ملخص برقيات هذا العدد، خبراً عن النتيجة التي وصل إليها مؤتـمر لندن، فيما يختص بـمسألة جنوب سورية وهذه النتيجة تعادل فشل الـمؤتـمر وقطع الأمل من التسوية مع السوريين. ومع ذلك وعلى الرغم من إعلان فشل الـمؤتـمر في الصحف، واعتبار الرأي العام أنّ الفشل قد وقع، فإننا محمولون على الاعتقاد أنّ مؤتـمر لندن لم يفشل سوى فشل ظاهري متعلق بـمسألة جنوب سورية الشكلية، وليست مسألة فلسطين في هذا الـمؤتـمر أساسية بل شكلية. أما فيما يختص بالـمسألة الأساسية من الـمؤتـمر، فليس هنالك أخبار تدل على مصيرها الأخير، ولكن يـمكن القول إنّ الأعمال لا تزال سائرة لتحقيقها مـما يدل على حصول تفاهم بين الفرقاء ذوي الـمصلحة لـمّا ندرِ مدى قوّته وتفاصيله.
إنّ بقاء الأمة السوريـة مدة طويلة من الزمن فاقدةً لـمنظمة قومية تـجمع صفوفها حول عقيدة شخصيتها ومصالـحها وإرادتها، عزلها كل تلك الـمدة عن الشؤون السياسية العليا وجعل أمرها فوضى وشؤونها مشاعاً، فلا مركز لصحافتها تعتمد عليه في إظهار رأي الأمة ووجهة النظر الـموافقة لـمصالحها، فتراها مقسمة بين وجهات النظر العربية والـمصرية والعراقية من جهة ووجهات النظر الفرنسية والبريطانية والتركية، فضلاً عن وجهات النظر الـمحلية من الـجهة الأخرى. وسياسيوها الذين هم من طراز العهد البائد غارقون في سياسة الضيعة الضيقة النطاق، الـمنحصرة في الشؤون الفردية الغافلة عن شؤون السياسة الكبرى، التي تقرر مصالح الأمـم ومصائرها. فأصبحت الأمة السورية فاقدة السياسة الـخاصة بها تعتورها السياسات التي تغزوها من خارجها. وولدت هذه الـحالة ذهنية خاصة، مبلبلة ، مستسلمة ترى الاستسلام أمراً طبيعياً سهل الأخذ به وظهور الإرادة القومية في الـمسائل الداخلية والإنترناسيونية شيئاً باهظاً، مرهقاً. فلما ظهرت الـمنظمة السورية القومية كانت حادثاً غريباً مستهجناً عند هذه الذهنية الغريبة، التي بلغ بها الاستسلام حد السخرية من الشخصية القومية، من نفسها.
وبقدر ما تؤدي هذه العقلية إلى الاستهتار بالشؤون والـحوادث القومية الصادرة من قـلب الشعب، لأنها عقلية العجـز الشاعر بضعفه، تـحمل على اعتبار الشؤون والـحوادث الـخارجية وتقديرها تقديراً كبيراً.
هكذا نشأت فكرة التطبيل للمؤتـمر الإسلامي في مصر من غير فهم لكيفية الاستفادة منه لـمصلحة الأمة السورية ومن غير تفكير في الدوافع التي دفعت إلى استدعاء عقده. فلم يكن هنالك شخص واحد خارج الـمنظمة القومية سأل نفسه هذا السـؤال: ما هي الأسبـاب التي حملـت مصر على تغييـر سيـاستها فتهتم الآن هذا الاهتمام الـمباشر الفجائي بالـمسألة الفلسطينية، بعد أن كانت راضية عن الازدهار اليهودي في فلسطين حتى أنها أرسلت من يـمثلها في تدشين الـجامعة العبرية في القدس؟ ولا من يسأل: أصحيح أنّ رجال الدولة الـمصرية وسياسييها والرأي العام الـمصري كانوا يجهلون خطـورة الهجرة اليهودية إلى فلسطين وأنّ الإدراك جاءهم فجأة، بهذه الصورة السريعة الـمدهشة، فنرى الدولة الـمصرية تهتم مباشرة بثورة سنة 1936 ثم تتابع اهتمامها في الثورة الـحالية فتتدخل هذا التدخل السياسي الواسع ويدعو أحد سياسييها إلى عقد مؤتـمر إسلامي للنظر في مسألة فلسطين ثم تُسلّم القضية إلى غيره من السياسيين الذين يذهبون إلى لندن لـمتابعة العمل؟
الـحقيقة أنّ عقد الـمؤتـمر الإسلامي في مصر كان حادثاً سياسياً خطيراً لم تستغربه العقلية السورية الـمائعة الـجارية في مجرى كل دعاوة خارجية. ولكن الـمراقبين في الأوساط القومية أخذوا يدرسون ظواهره ويستقرئون حوادثه ويتتبعون اتـجاهاته.
وإنّ من أهم ما يجب ملاحظته في صدد هذا الـمؤتـمر والاتـجاه الـمصري الـجديد أنّ الاهتمام الـجدي بهذا الشكل بـمسألة جنوب سورية كان بعد النزاع الشديد بين الـملك وحزب الوفد والـحكومة التي ألّفها هذا الـحزب، وكان من ورائه سقوط حزب الوفد من الـحكم وانتصار سياسة الـملك وإنشاء حكومة جديدة تسير بـموجب هذه السياسة. وهي حكومة اتهمها الوفديون بأنها لا تـمثل الشعب الـمصري.
ومـما يجدر ملاحظته أيضاً أنّ حزب الوفد لم يشترك في الـمؤتـمر الإسلامي الذي دعا إليه محمد علي علوبة باشا، عملاً بالسياسة الـملكية، كما يقال. وقد أوضحت الصحافة الوفدية أسباب إحجام الوفد عن الاشتراك في الـمؤتـمر وقالت إنّ أغراضه الـخفية هي متابعة السياسة التي أقصت الوفد عن الـحكم وتـمثيل الأمة الـمصرية. وهذه السياسة هي سياسة تقوية الـملكية والاتـجاه نحو الـخلافة.
وتقدِّر الأوساط السورية القومية، أنّ هذه السياسة توافق الـمصلحة البريطانية وسياستها في شرق الـمتوسط، ولا بد أن يكون لبريطانية شأن كبير في بعثها وتوجيهها. وإنّ ما حدث في الـمؤتـمر في مصر وما عقبه في لندن يحمل على الاعتقاد بصحة هذه التقديرات. فلقد كان من الظواهر الهامّة في مؤتـمر مصر الهتاف لـجلالة الـملك فاروق «بخليفة الإسلام» في الـحفلة الافتتاحية وما تلا ذلك من الإذاعة والـمظاهرات التأييدية «للملك الصالح» والـخطب والـمقالات والنشرات الرامية إلى إثارة النعرة الدينية وجعل النظرة الدينية - السياسية تسيطر على الـمؤتـمر. وقد اجتهد أصحاب الدعوة في إكساب الـمؤتـمر الـمصري صفة دينية عامة فوجهوا الدعوة إلى مسلمي رومية وأفريقية وآسية، لأن القصد من إثارة مسألة الـخلافة، حسب وجهة النظر البريطانية، هو أن تصبح الـخلافة قوة سياسية يـمكن أن تؤثر على مجرى الأحوال الإنترناسيونية فتصبح مصر اليوم البريطانية في العالم الإسلامي ما كانته تركية قبل الـحرب.
ويدور في الأوساط السورية القومية السياسية أنّ الـمهارة البريطانية عرفت كيف تستخدم القضية الفلسطينية لتغطي الـمشروع الـخطير القائم وراءها. وقد تـحققت وجهة النظر هذه في مؤتـمر لندن الذي هو أهم عمل سياسي بريطاني في العالم الإسلامي. وإذا كانت الـمسألة الفلسطينية لم تسفر عن شيء في هذا الـمؤتـمر، غير ربح الوقت وتعليل الآمال فليس في الـجو السياسي ما يدل على أنّ غاية الـمؤتـمر الباطنة أصيبت بالفشل، بل على العكس، هنالك أدلة بأن هذه الغاية تنمو وتأخذ فاعلية أوسع.
ولا يخفى على بريطانية ما للشعب السوري من التأثير فلم يغفل أصحاب الـمؤتـمر عن مسألة إرسال وفد يذيع لهذه السياسة الكبيرة باسم العروبة، فأرسل وفد السيد محمد جميل بيهم والسيد الغوري إلى أميركة، كما أرسل في إبّان الـحرب وفد لكح ومردم إليها.
والآن أيـمكننا تلقيب مؤتـمر لندن بالـمؤتـمر الفاشل الناجح؟!