يا بني وطني![1]
أيها السادة،
يسرّني أن أشعر بأني غير مضطر إلى إجراء معاملات رسمية والـحصول على أجوزة مرور لكلامي الـموجّه إلى بني قومي الفلسطينييـن أولاً، بـمناسبة إحياء النادي الفلسطيني الذي نحتفل الآن بافتتاحه. وأعتقد أني أحصل على موافقتكم جميعاً إذا قلت إنّ ما كان وطناً واحداً لأمة واحدة لا يزال حتى الآن وسيبقى في الأدوار الآتية وطناً واحداً لأمة واحدة. فسوريانا ستظل سوريانا نحن - سورياكم أنتم وسورياي أنا.
ولكن مـما يؤسفني ويؤسفكم أنّ هذه الـحقيقة السارة ليست إلا حقيقة نظرية، حقيقة تكاد تكون وهمية بالقياس إلى الفعل، فإني أخشى أن تكون سوريانا آخذة في الانزلاق من أيدينا الـمتفرقة. ففي الـجنوب تتراجع الـخطوط السورية أمام الـخطوط اليهودية، وفي الشمال تتقلص الـحدود السورية أمام الـحدود التركية، وسورية الـحقيقية صائرة إلى تفاؤل مصطنع لا يجدر إلا بقوم لا يعرفون من النهضة إلا هبّات متقطعة غير ناضجة أهدافها، وتخيلات لا عملية يغرّهم لـمعان سرابها.
نحن الآن بيـن حقيقتيـن: الأولى نظرية نفسية نفرح لها، والثانية عملية واقعية لا نتمالك من أن نأسف لها. وغيري كثيرون يرون الكلم أفضل من الكلام، لأنه أهون. فلهؤلاء أن يتلوا قصائد في الـخيالات الذاتية ولكن قصائدهم ليست جديرة بـمجتمع لا يريد أن يفقد الـمعنى الفكري صلة بالواقع. هذا هو الـمجتمع الذي أحب أن أكون في عداده، وهذا هو الـمجتمع الذي أنزل عند إرادته.
يا بني قومي،
إنّ الأمـم ليست أمـماً بالنسبة إلى تخيلاتها وأحلامها، بل بالنسبة إلى حقيقتها وإلى ما تـحقق. فكل كلام لا يشتمل على الـحقيقة بعينها، إنـما هو هذر غير مجدٍ، ولعل نصيبنا نحن السورييـن من الهذر أوفر نصيب، فقد تخيلنا كثيراً وتوهمنا كثيراً وتغنّينا بأمجاد التخيلات وأكثرنا من الإشادة بعظمة الأوهام. والعالم يسمع عجيجنا الـمقلق، ولكنه لا يرى طحننا الـموهوم. أفما آن لنا أن نفهم أنّ الأمـم تبتدىء تاريخها بأعمالها، وأنه لا تستطيع أمة أن تفاخر إلا بتاريخها هي نفسها؟
وبعـد فمـاذا فعلنـا من أجـل تاريخنـا العـام؟ من أجـل تـاريخي وتاريخكم؟ مـاذا فعلنـا؟
إذا لم نقم بشأن تاريخنا فلا شأن لنا في التاريخ. والأمة التي لا شأن لها في التاريخ لا شأن لها بيـن الأمـم.
إني أخاطبكم بهذه اللهجة ويقيني أني أخاطب رجالاً يرفضون الاعتقاد بغير مذهب التاريخ الـمستقل، فالتاريخ الـمستقل هو أساس الاستقلال لكل الأمـم. وإذا كنا نطمح إلى الاستقلال في تدبير حياتنا كما نريد فالواجب يدعونا إلى الاستقلال بتاريخنا، وإذا كنا نريد أن يكون لنا كيان محترم بيـن الأمـم وجب علينا نحن دون سوانا أن نقوم بتنفيذ هذه الإرادة وتـحقيق هذا الكيان. وهذا هو بدء التاريخ.
إنّ الذين درسوا تاريخ الدولة الرومانية، وآخرين غيرهم، يذكرون العبارة الشهيرة «هنيئاً للأمة التي لا تاريخ لها»، ولكن ما أبعد هذا القول عن الـحقيقة. فليس لأمة لا تاريخ لها منزلة محترمة وحقوق معترف بها عند الأمـم الأخرى. ولا تتوهموا أنّ أمة ما تستند إلى تاريخ غير تاريخها وتنجح في اكتساب حقوق مستمدة من ذلك التاريخ. فلا يحق لأمة أن تطالب إلا بنتيجة عملها هي نفسها.
من مرويات الطيب الذكر قاسم أميـن حكاية نـجد فيها مثلاً ينطبق كل الانطباق على القول الآنف. والـحكاية أنّ قاسم أميـن كان يتنزه وبعض أصدقائه فمرّوا ببستان أو حقل يشتغل فيه عاملان، وإذا بحية تخرج من حائط قريب وتنساب قرب العامليـن. فلما رآها أحدهما طرح معوله من يده وفرّ هارباً، أما الثاني فأقبل عليها وما انفك يضربها بـمعوله حتى أجهز عليها. حينئذٍ عاد العامل الأول الذي كان قد وقف بعيداً ينتظر نتيجة الـمعركة، واقترب من الـحية ببطء وحذر حتى إذا تأكد له موتها تناول خشبة كانت ملقاة على الأرض ورفع الـحية عليها وطفق ينادي «هاي! هاي! قتلناها! قتلناها!» ويـمكنكم، أيها السادة، أن تتصوروا استهزاء الـمشاهدين بهذا العامل الذي ادّعى لنفسه نصيباً في تاريخ رفيقه وحاول إيهام الناس أنّ له حقاً في مشاطرة العامل الآخر الفخر بقتل الأفعى. وبقدر ما في موقف هذا العامل من دواعي الهزؤ والسخرية يوجد في موقف العامل الثاني من دواعي احترام النفس التي تولّد احترام الآخرين. إنّ العامل الثاني لم ينتظر مساعدة رفيقه ولم يقل «ماذا أفعل منفرداً؟»، بل تناول معوله وأقدم بعزيـمة صادقة وثقة بالنفس تامة وكان الفوز نصيبه.
ونحن الآن في حالة أشد خطورة من حالة ذلك العامل الشجاع تـجاه الأفعى. إننا واقفون أمام الأفعى ذات الـمئة رأس. فأي الـمثليـن نتخذ، أمثل العامل العديـم الثقة بالنفس الهارب من وجه الأخطار والصعاب، أم مثل العامل الشجاع الشديد الثقة بنفسه الذي لا يتردد في استخدام مواهبه في ما يعرض له من شؤون الـحياة وصعابها غير معوِّل في كل ذلك إلا على نفسه أولاً.
أقول إننا الآن أمام الأفعى ذات الـمئة رأس، لأن الأخطار التي تهدد كياننا وعمراننا من الشمال والـجنوب والغرب والشرق كثيرة وعظيمة. ويترتب علينا الآن وفي هذه الساعة، أن نقرر الـموقف الذي نريد أن نتخذه، واختيارنا لن يكون إلا بيـن موقفيـن فقط: إما موقف من لا يريد أن يتحمل مسؤولية تقرير مصيره فهو يجبـن أمام كل حادث وأمر، وإما موقف من يريد الاحتفاظ بحق تقرير مصيره لنفسه فهو يصمد لكل حالة ويقوم بأعباء مسؤولياته غير راغب في مشاركة غيره إياه هذه الـمسؤوليات، لأنه يعلم أنّ مشاطرة الـمسؤوليات تؤدي حتماً إلى مشاطرة الـحقوق ومشاطرة الـحقوق تنفي الاستقلال وتنفي الـحرية.
كثيرون غيري يقولون لي ولكم «أنظروا! إنّ الأفعى الهائلة قد مدّت رؤوسها العديدة إلى كرومنا وحقولنا، فلنستغث أو فلنهددها بـمجيء جيوش عديدة من بعيد تسحق رؤوسها، أو فلنهرب من وجهها لأن «العيـن لا تقاوم الـمخرز».»
ما أحقر هذه الروح التي لا ثقة لها بنفسها، وما أحقر هذه الأقوال التي لا تـجدر بقوم يطمحون إلى مثل الـحياة العليا. ما أحقر هذه الـجماعة التي لا ترى فرصة إلا انتهزتها لتثبت لي ولكم أننا جميعاً لا نصلح للقيام بأعباء تاريخنا. ليست صفوف هذه الـجماعة هي الصفوف التي يفتخر الـمرء بالانضمام إليها، وإذا استسلمت الأمة إلى أقوال هؤلاء الـجماعة فجدير بها أن يأتي غيرها للدفاع عن وطنها ويحصل على حقوق التصرف به وتقرير مصيره، وأن تقنع هي بـموقف العامل الذي وقف وسط هزؤ العالم وسخريته منادياً «هاي! هاي! قتلناها! قتلناها!» هذه هي الأخلاق العالية والهمم الشماء التي يريد فريق من هذه الأمة أن نتحلى بها.
لو شئت تـحليل هذه الروح السقيمة لـما وجدت صعوبة كبيرة في تتبع آثار الروح اليهودية القديـمة فيها. فهذه النغمة التي يرددونها على مسامعنا كل صباح ومساء هي ذات النغمة التي كان يرددها أنبياء اليهود عند كل خطر وفي كل نكبة. وهذه نبوءات عاموس وأرميا وإليشع وحزقيال وغيرهم الذين كانوا يهددون أعداء اليهود بـمجيء قوات «من الشمال» تسحق صور وصيدا ودمشق. خصوصاً عاموس الذي أظهر حقداً عظيماً على دمشق لأنها غزت دولة بني إسرائيل واكتسحت جميع أرضها واستردت منها أكثر الـمقاطعات غير اليهودية التي كان اليهود قد بسطوا سلطتهم عليها. وفي أكثر نكباتهم كان الإسرائيليون يهددون أعداءهم بيهوه الذي سيمد ذراعه فوقهم ويسلط عليهم أمـم الشمال أو أمـم الـجنوب.
لا أتـمنى لنفسي ولا أتـمنى لكم هذه الروح. لا أتـمنى لنفسي ولا أتـمنى لكم هذا العجز الباهر.
أنا وأنتم ملاّكون، أكثرنا، إذا لم يكن كلنا، أصحاب أراضٍ أو بيوت. وإنّ هذه الأراضي التي نـملكها هي وطننا الـخاص وليس لأحد غيرنا حقوق فيها. ونحن الآن أمام تـجربة صعبة يترتب علينا أن نبرهن فيها عمّا إذا كنا نستطيع الاحتفاظ بحقوقنا في وطننا والـمحافظة على وطننا، وهذا يعني أنه مطلوب منا نحن لا من غيرنا أن نـجيب على سؤال حقوقي من الـخطورة بـمكان، وهو: هل هذا الوطن هو وطننا نحن حقيقة، وهل حقوقنا فيه حقوق ثابتة مستقلة تخوّلنا استغلاله لـخير مجموعنا فقط إذا شئنا ذلك؟ فإذا كنا نريد أن يكون جوابنا بالإيجاب وجب علينا أن نثبت بالواقع أنّ ما نـملكه هو تـحت مطلق تصرفنا العام الـمستقل عن كل إرادة خارجية، وهذا يحتم علينا العمل بـموجب مبدأ اجتماعي أساسي، هو الـمبدأ القومي الذي يقضي بأن تكون الأمة مطلقة التصرف بأرواحها وأرضها التي تـملكها ضمن حدود جغرافية معيّنة.
إنّ معنى الأمة والاستقلال القومي هو أن نكون أنا وأنتم مالكيـن أرضاً نعدّها وحدة عامة نقرر كيفية تصرّفنا بها واستغلالها بـملء حريتنا بـموجب الوحدة القومية التي سببها اتـحادنا جميعاً في حياة واحدة على أساس وحدة وطنية جغرافية. هذا هو معنى الأمة في أساسه، ومن هذا الـمعنى تُستمد الروح القومية التي ترمي إلى خير الـجماعة والروح الوطنية، وفيما سوى ذلك فزيادات تنظر الأمة في قبول ما هو في مصلحتها ولا يتضارب وحريتها وسيادتها على نفسها ووطنها، وفي رفض ما ليس لها فيه مصلحة منها.
أيها السادة،
إننا أمة بكل ما في الكلمة من معنى، ولنا وطن واحد هو تراثنا وأملنا الوحيد لتحقيق حريتنا ومُثُلنا العليا. فيجب علينا أن نكون يداً واحدة في تقوية وحدتنا والـمحافظة على هذا الـميراث الذي خلَّفه جدودنا لنا نحن لا لغيرنا. إنّ مصلحتنا هي وحدتنا الداخلية الـخاصة التي تكسبنا عصبية قومية تكفل بقاء حقوقنا لنا، وتولّد فينا نهضة تـجعلنا جديرين بالتمتع بجمال هذا الوطن النادر الـمثال وخيراته، ولا تظنوا أنّ جميع أمجاد الفتوحات توازي الـحرية القومية الـمقدسة في هذه الـجنات التي تـجري من تـحتها الأنهار. إنّ مقام مضيق ثرموبيلي في الـخلود لأرفع وأمجد من كل فتوحات الإسكندر، لأن مضيق ثرموبيلي يـمثّل التفاني في سبيل الـحرية القومية الـمقدسة، أما فتوحات الإسكندر فنكبات أخرّت تقدم الـمدنية. وإنّ معركة ميسلون لأعظم وأمجد الـمعارك التي شهدتها هذه البلاد في التاريخ الـحديث، لأنها تـمثّل روح أمة حية وترمز إلى مُثُلها العليا. إنها أول معركة نظامية يقوم بها في التاريخ الـحديث جيش سوري بقيادة قائد سوري من أجل حرية سورية.
إنّ معركة ميسلون تـمثل مبدأ جديداً في حياة سورية الـجديدة الـمتنبهة. إنه مبدأ العمل الـجدي لا مبدأ الهرب من الـمسؤوليات ثم ادعاء نصيب في ثمرة الـجهاد. إنها الدليل القاطع على أنّ سورية قد صممت على أن تكوّن تاريخها بنفسها وأن تـحصد ما تزرع وتـجني مـما تغرس.
يقول الـجبناء لكم ولي: إنّ سورية صغيرة فهي لا تتمكن من صيانة كيانها والدفاع عن أرضها. أنظروا إلى ميسلون تروا الدليل على صحة ما نقول.
إنه الـجبـن يتكلم فلنحترم الـجبـن قليلاً، وإن كان الـجبـن لا يستحق الاحترام، ولنردّ على هذا القول الهراء وإن كان هذا القول لا يستحق الرد.
أقول إنّ معركة ميسلون أعظم دليل على أنّ سورية تتمكن من صيانة كيانها والدفاع عن أرضها. إنّ في معركة ميسلون قوة سحرية مخزونة ولكنها قوة فاصلة في حياة الأمـم، هي قوة الإرادة العجيبة، هي قوة إرادة أمة حية، وما تستطيع إرادة أمة حية تـحقيقه فشيء لا يحلم به الـجبناء.
إنّ معركة ميسلون تـمثّل جزءاً يسيراً جداً مـما تستطيع الأمة السورية عمله مجتمعة. وإنّ قوة الأمة كلها ومبلغ حنكتها وأساليبها لم تكن مـمثلة تـمثيلاً صحيحاً في ميسلون، فميسلون لم تكن سوى اختبار ضروري لتحسيـن أساليب عمل الأمة. إنّ ميسلون هي بدء تاريخ الأمة السورية الـحديث لا نهايته. والذين لا يفهمون هذه الـحقيقة لا يفهمون شيئاً من حياة الأمـم وموتها، ولا يفهمون شيئاً من معاني التاريخ.
قلت إننا أمة بكل ما في كلمة الأمة من معنى. وإذا أردتـم شهادة عالم كبير أوردت لكم شهادة أحد كبار العلماء الـمفكرين هو أرنست رينان وإليكم ما حدد به الأمة قال:
)Une nation résulte du mariage d’un groupe d’hommes avec une terre(
أي أنّ الأمـة تتـولـد من زواج جماعة من البشر ببقعة معيّنة من الأرض. وإنكم تلاحظون هنا استعمال رينان لفظة «جماعة من البشر». فهو يقصد الـجماعة البشرية بصرف النظر عن أصولها، ولو قصد غير ذلك لقال «جنس» أو «سلالة» من البشر بدل «جماعة». فليس شرط الأمة أن تنتسب إلى أصل معيّـن بل شرطها الاجتماع في حياة واحدة وأرض واحدة. وهذا نحن. ولكننا، ويا للأسف، لا نزال نقيم وزناً كبيراً للاعتقاد بالأصل، ولم يفدنا شيئاً تكرارنا قول القائل «إنـما أصل الفتى ما قد حصل»، وقول البطل الذي أمدّت حياته الأدب العربي بأجمل رواية في مظاهر الفروسية الباهرة القائل:
«وبسـاعــدي ومهنــدي نـلـت العـلـى
لا بـالقـرابـة والعـديـد الأجــزل»
فعنترة كان ابن لقيطة، أسود الـخلقة ولم يـمنعه ذلك من أن يسمو بخلاله على أسمى أقرانه ذروة في النسب.
قال الشاعر الإنكليزي الكبير تنيسون «إنـما السكسون والنورمان والدنيمارك جميعهم نحن»، وهو يعني أنّ أمته تشترك في هذه الشعوب فهي ليست من واحد منها، بل منها جميعاً. أما نحن فلا نزال نختلف ونتخاصم من أجل تعييـن مصدر واحد ننتسب إليه، فالبعض يريدنا أن نعتقد أننا فينيقيون فقط، وبعضنا الآخر يريدنا أن نؤمن بأننا عرب فقط، وآخرون يريدوننا أن نسلّم بأننا آراميون فقط، والـحقيقة أننا نحن جميع هؤلاء وأنّ لنا وراثة مشتركة بيـن هذه الشعوب جميعها. وهل يضيرنا أن يكون فينا آراميون، وهم قوم نظّموا شؤون الـمعاملات في الشرق الأدنى، وحاربوا اليهود ونكلوا بهم تنكيلاً أبقى في قلوبهم كوامن أخذت تتفجر من فم عاموس بالدعاء بهلاك دمشق التي بناها الآراميون وجعلوها عاصمتهم ومنها دافعوا عن سورية ضد الأشورييـن دفاعاً عظيماً.
وهم الذين بسطوا نفوذهم حتى أصبحت لغتهم لغة الـمخابرات والـمفاوضات الدولية الرسمية في الشرق الأدنى. وهل يضيرنا أن يكون منا الفينيقيون، وهم كانوا أفعل عامل في ترقية الـمدنية الـحديثة بـما نشروا من معارف وصناعات وكتابة. وهم الذين حفظوا البحار وحافظوا على سلامة الـمواصلات البحرية، ومنهم خرج محاربون بحريون من الطراز الأول، ومنهم خرج أعظم نابغة حربي في كل العصور وفي كل الأمـم وصار حجة ضد القائليـن إنه ليس بيـن السامييـن نبوغ بالـمعنى الصحيح، هو هني بعل أو هنيبال الذي ابتكر خططاً حربية لا تزال مثالاً ينسج على منواله قواد الـحروب الـحديثة، وصار اسمه مثالاً للشجاعة والبطولة كما كان شبحاً يرعب رومة في إبّان صولتها، حتى صار القول «هني بعل على الأبواب!» مثلاً يضرب لكل خطر مداهم. ففي خطاب ألقاه موسوليني منذ بضعة سنيـن في الـمجلس الإيطالي جواباً على مناورات فرنسة ويوغوسلافية قال «إنّ إيطالية لن تخاف شيئاً فهني بعل ليس على أبواب رومة.» والـحقيقة التي يذكرها الـمؤرخون هي أنّ خطط هني بعل في معركة كاني الشهيرة التي سحق فيها أعظم جيش أرسلته رومة لـمحاربته، هي التي عوّل عليها أركان حرب الـجيش الألـماني في وضع خططه الباهرة في الـحرب العظمى. وهل يضيرنا أن يكون بعضنا عرباً، والعرب برهنوا بفتوحاتهم وما أدوه للمدنية من خدمات على أنهم شعب له مزايا تـمكنه من القيام بأعباء الـمدنية متى وجد في محيط صالح، فالعرب في الأندلس كانوا من أهم عوامل ترقية الـمدنية في العلوم وإطلاق حرية الفكر حتى أصبحت اللغة العربية لغة العلم في الشرق والغرب. وكثير ما يـمكن التحدث به عن العرب وأكثره معروف عندكم.
يا بني وطني،
إننا جميعنا من هذه العناصر لا من أحدها، إن رمتم الصحيح، فهل نستمر على سماع هذه الأصوات الـمتنافرة في كل مشروع يهمّنا جميعاً: «نحن عرب. نحن فينيقيون. نحن آراميون» ألا يكفينا أن نكون سورييـن شرفاء متحدين لدفع الشر والسعي إلى الـخير؟ أفلا نستطيع أن نزيل هذه العوامل الـمفرقة ونقول، كما قال تنيسون «نحن نـمثل مزيجاً راقياً من هذه العناصر الكريـمة وهو مزيجنا الـخاص الذي به صرنا نحن ما نحن.»
أذكر بهذه الـمناسبة قولاً فاه به الشيخ عبدالـحميد سلام، أميـن الفتوى في حفلة «جمعية الإخاء» في الـجامعة الأميركانية قال ما معناه، لست أذكره حرفياً «متى عرف الإنسان كيف يقوم بواجب الأخوّة نحو الإنسان استغنى الـحق عن الأديان.» وأنا أقول: «إنّ الأمة التي تنشىء نهضتها على الأخوّة القومية الـحقيقية الـمتولدة من الاشتراك الفعلي في الـحياة الواحدة في الوطن الواحد، أمة تستغني بالانتساب إلى حقيقتها عن الانتساب إلى أوهامها»، فالأوهام تزول ولا يبقى إلا الـحقيقة.
إننا أمة ليس لأننا نتحدر من أصل واحد، بل لأننا نشترك في حياة واحدة في وطن واحد يحتم علينا أن نكون إخواناً قومييـن متحدين في هذه الـجامعة الوطنية، التي قلَّ مثيلها، من أجل كرامتنا نحن وحقوقنا نحن ومصالـحنا نحن ووطننا نحن. والـحقيقة، يا إخوان، أنّ وطننا من أهم مـميزاتنا. فالسوري لا يـمكنه أن يشعر أنه في وطنه إلا في سورية: بلبنانها البديع، وسهول وهضاب فلسطينها الـخلابة، وأودية وأنهر وغياض شامها. فالسوري لا يـمكن أن يشعر أنه في وطنه متى كان في الصحراء أو في مصر. ولا تصدقوا، أيها السادة، عبارات الـمجاملات السياسية التي لا تغيّر شيئاً من الواقع. ولا تصدقوا ذوي الأغراض السياسية الـخفية الذين يقولون لكم إنّ أفضل ما يـمكنكم فعله هو أن تضحّوا سيادة أمتكم على نفسها ووطنها من أجل إنشاء دولة ضخمة، يكون أصحاب الـحل والربط فيها، من غير السورييـن، وتتبع سياستها غير ما تراه الأعيـن السورية. إنّ السياسة هي التي يجب أن تضحّى على مذبح القومية، ولا معنى لأي دولة إلا إذا كان وجودها لتحقيق السيادة القومية الصحيحة، والسوريون يجب أن تكون دولتهم منهم لتحفظ سيادتهم على أنفسهم ووطنهم وليتمكنوا بواسطتها من تـحقيق مثلهم هم العليا.
بهذه الـمناسبة أذكر لكم عبارة كتبها منذ نحو قرن صحافي كرواتي (من بلاد الكروات في يوغوسلافية) في جرائده وهي «إنّ الشعب الذي لا قومية له هو جسم بلا عظم» ومعنى عبارته أنّ الشعب الذي لا يؤلف أمة ولا تكون قوميته منه هو جسم مشلول رخو قابل الضغط والـجذب والدفع ولكنه لا يستطيع القيام بيـن الشعوب القائمة، فهو أبداً ملقى عند أقدام الناهضيـن. إنّ هذه الصورة التي أظهر بها لويس غاج الشعوب التي لا قومية لها في نفسها هي من أصدق الصور التمثيلية. وهذه الصورة هي التي يريد كثير من السورييـن أن يكون شعبهم عليها شعباً لا قومية له في نفسه، جسماً مطروحاً لا عظم له يقرَّر مصيره بالعوامل الـخارجية الـمرتبطة بإرادة غيره لا بالدوافع الداخلية الـمتحدة بإرادته هو. هم يريدونه شعباً خاضعاً لا شعباً سائداً، غير مدركيـن أنّ هذه الإرادة تصمهم بوصمة انحطاط الـمثل العليا وتدنّي الـمطامح الإنسانية. فقد قال قائل، لا يحضرني اسمه الآن، «ليس في الإخفاق عار ولكن العار في اتخاذ الـمُثُل الدنيئة.» إنّ من مات دون تـحقيق مطالبه العليا الدالة على ما ورائها من نفس كبيرة يُعذَر، ولا يُعذَر من لا تصبو نفسه الهزيلة إلا إلى العيش في ظل الـمُثُل الـمنحطة.
كثيرون هم الذين يحرصون كل الـحرص على أن لا تكون النهضة مقتصرة على سورية بل متناولة كل الأمـم العربية. إنّ هؤلاء ليسوا أكثر حرصاً مني ومنكم على ذلك. ولكن النهضة العربية العامة التي تشمل كل الأقوام العربية لا يـمكن أن تتحقق بالقضاء على قوميات الأمـم العربية، بل بنهوض هذه القوميات وقيام كل أمة بشؤون نهضتها الـخاصة، وحينئذٍ يصبح التعاون في كل ما هو من الـمصلحة الـمشتركة، تعاوناً يحفظ لكل أمة قوميتها ومُثُلها. إذن فلنعتصم بقوميتنا السورية، ولنقم بـما هو مطلوب منا لتحقيق نهضة أمتنا، ولنتّحد في عمل عام منظم وأنا، أيها السادة، أنا العاجز أقول لكم: إنه يـمكننا في خلال خمس سنيـن إيقاف القضية الصهيونية عند حد تأخذ بعدها في التراجع عنه، وفي مدة عشر سنوات يـمكننا إيقاف تقدم غيرنا على حسابنا وحساب وطننا عند حد لا يتعدونه يـمتد على طول خط حدودنا القومية. وهذا العمل يحتاج إلى مثال هو مثال العامل الثاني في حكاية قاسم أميـن، أي إلى القيام بالواجب بدون ضجة ولا غوغاء، وبالاعتماد على النفس قبل كل شيء، كما فعل ذلك العامل فإنه لم يصرف وقته عبثاً في مناداة رفيقه الهارب ليأتي إلى معونته، بل اتكل على ما في نفسه من شجاعة وقوة ونـجح.
وقد قلت في إحدى محاضراتي السابقة وأعيد الآن إنكم سمعتم أنه قيل «إنّ الأعمال بالنيّات» أما أنا فأقول «إنّ النيّات بالأعمال.»