منذ وضعت الـحرب العامة أوزارها، وسورية تتململ وتتشنج. ولكن تشنجاتها ظلت تشنجات جزئية موضعية. فهي لم تكن إرادة أمة، بل آلام أمة. والذين يراقبون تطور الأمة يرون أنها فقدت كثيراً من مادياتها ومعنوياتها.
مصاب الأمة هو في أنّ عدداً من الـمكتسبين نفوذاً من العهد البائد نصّبوا أنفسهم متزعمين «وطنيين» قاموا يعالـجون شؤون الوطن ضمن نطاق محلي ضيق فما تـجاوز أفقهم حدود الإمكانيات الـمحلية. ولم يكن لهم إدراك سياسة سوى السياسة الاعتباطية، التي هي مجرّد انعكاس عن الظروف وظواهر الأمور والأمر الواقع.
وقد أحدثت هذه السياسة الاعتباطية الانعكاسية سلسلة من الأعمال «الوطنية» الـجامحة لم تأتِ بنتيجة غير الـخسارة الـمادية والـمعنوية. فالسياسة في الشام بُنيَت على إثارة الشعب في كل ظرف ودفعه إلى أعمال عنف غير موزونة ولا محسوبة نتائجها. فخربت بيوت الـمئات والألوف، وشلّت حركة التجارة الـمنظمة، وتأخرت الصناعة والأعمال الإنشائية، ولم يحصل من كل ذلك نتيجة سوى معاهدة رُبحت ووطن تـمزق.
في فلسطين اتُّبعت السياسة هذه عينها ولكن بصورة أقلّ تناسباً. ولا بد من الاعتراف بأن الـمحاولات السورية الأولى في فلسطين كانت ناجحة ضد اليهود، ولكن هذا النجاح، ككل نـجاح غير منظم، كان موقتاً، وآخر ما قامت به فلسطين هو الثورة الـماضية، التي أعطت النتائج التالية:
1 - إيجاد مرفأ خاص باليهود في تل أبيب.
2 - تـجرّؤ اليهود على مهاجمة قرى ومزارع سورية.
3 - تـمركز القوات البريطانية في النقاط الاستراتيجية.
4 - فَقْد الـموسم السنوي.
5 - الـجرحى والقتلى.
6 - مشروع التقسيم.
ولـمّا انتهت الثورة وجاءت البعثة الـملكية للبحث في أسبابها أعلنت «اللجنة العربية العليا»[1] مقاطعتها لها ثم عادت فعدلت عن هذه الـمقاطعة عندما أدركت ضرر الـمقاطعة. ولكن دفاع الـمتزعمين السوريين كان واهياً جداً من الوجهة الـحقوقية.
الظاهر أنّ بريطانية ماضية في تنفيذ سياستها في فلسطين. وهذه السياسة مبنية على أخذ مضمون وعد بلفور بعين الاعتبار والنظر إلى اليهود نظرة الـمعترف بحقهم في الوطن السوري.
ولـمّا كانت اللجان الفلسطينية لم تدرس جيداً خطط هذه السياسة ومـمكناتها العملية ولم تَسْعَ لتخطيط سياسة ثابتة يصحّ التمشي عليها، إذ الفكر السياسي خاضع لاعتبارات السياسة الاعتباطية فقط، كانت النتيجة أنّ الظروف هي التي تعيّن الانعكاس وأنّ السياسة القومية في فلسطين بقيت سياسة انعكاسية.
إنّ الوطنية عاطفة نبيلة، ولكن سياسة التضحية يجب أن تكون مخططة تخطيطاً دقيقاً، وسفك الدم ضروري متى كان وفاقاً لـخطة دفاعية موزونة واضحة أهدافها العملية ومحسوبة مبرراتها التنفيذية. أما سفك الدم عن جهل للنتائج فنتيجته خسارة الأرواح وضياع الثروة والوقت.
ليت العاملين في السياسات الـمحلية يدركون الـحاجة إلى سياسة قومية تـحفر خططاً عميقة في حياة الأمة وتكون اتـجاهاً ثابتاً.
قـد ذرّ قـرن الثـورة من جديـد في فلسطـين فعسـى أن تـكون أقـلّ ضـرراً من الثـورة السابقـة.
[1] «اللجنة العربية العليا لفلسطين» تشكّلت إثر مؤتـمر عُقد في مقر اللجنة القومية بالقدس في 25/4/1936، برئاسة الـحاج محمد أمين الـحسيني ومـمثلين عن الـحزب العربي الفلسطيني وحزب الدفاع الوطني وحزب مؤتـمر الشباب وحزب الإستقلال وحزب الإصلاح وحزب الكتلة الوطنية ومـمثل عن الـمستقلين.