الـمقدمة
عندما نقف اليوم ونلقي نظرة إلى الوراء نراجع بها تاريخنا الـحزبي في السنوات الـخمس الـماضية، ونستعيد ذكريات حوادثها الـمضطربة العنيفة، ثم نعود ونستعرض ما قام به الـحزب من أعمال في غضون السنة الـحالية، لا يسعنا إلا أن ننحني بإحترام وبتقدير أمام صفات الـمقاومة والصلابة والـمثابرة التي عبر عنها حزبنا بقوة بارزة وبتصميم أكيد، في أثناء الـمحن والـمعارك التي خاضها ثم في أثناء إعادة تنظيم صفوفه ورفع معنوياته.
فإن أمر استمرار هذه الفضائل بصورة أعم في حياتنا العملية والفكرية، يشكل بلا ريب شرطاً أساسياً لنجاح القضية القومية وتغلبها على كل ما يعترضها من مصاعب وأزمات. غير أنه يبقى هنالك خطر واحد يكمن لنا وهو خطر استرسالنا بالتصور أو بالاعتقاد أن قيماً سامية كالتي ذكرت، وافرة الوجود في معين الأخلاق والطبائع القومية، فيقودنا هذا التصور أو الاعتقاد إلى اطمئنان في غير محله إلى أننا نسنطيع الإعتماد على هذه القيم واللجوء إليها كل ما دعت إلى ذلك الـحاجة. فلإظهار الـخطأ في تفكير من هذا النوع لا أعتقد أننا بحاجة إلى الإتعاظ بـما حدث عند غيرنا من الأمـم في ساعات تخاذلها وتراجعها، لأننا نـجد في تاريخنا الـخاص وبتجارب أمتنا ما يكفي لينذرنا بصورة قاطعة بأن الفضائل التي أشرت إليها ليست غريزية في مجتمعنا. فقد نحرم منها، ويـمكن أن تغيب عنا لفترات طويلة من الزمن أن لم نبن لها قلعة حصينة تـحتمي بها ضد عواصف التخاذل والتفكك الإجتماعي- قلعة تكون بـمثابة معسكر نعد فيها قوى هذه الفضائل للإنطلاق والهجوم في الظروف الـموافقة لتحطم تيارات الإنحطاط والـجبن الكامنة دائماً في الطبيعة البشرية.
أهمية الفرد الفذ
قد تستغربون، لأول وهلة، هذا البحث العام النظري الذي لا يـمت في ظاهره إلى غرض هذا الـمؤتـمر باعتباره مؤتـمراً إدارياً يعالج القضايا والنواحي الإدارية الـمادية أو الـجافة من حياتنا الـحزبية. ولكن بصفتكم مسؤولين في الـحزب فإنكم حماة للقلعة الـحزبية، وبصفتكم مؤتـمنين على حراسة مداخلها والذود عن كل النقاط الأساسية والـحيوية في جهازها الدفاعي العام، لا بد لكم من إدراك الغاية التي من أجلها تعملون، ومن فهم خطورة مسؤوليتكم خصوصاً وأن فهماً عميقاً شاملاً للأهداف العليا التي من أجلها تعملون، ضروري لتزويدكم بتلك القوة الدافعة، لكي تتابعوا عملكم وتـجعلوه يتوافق في كل تفاصيله توافقاً تاماً مع غايته الأساسية.
أعتقد أن كثيراً من آرائي واستنتاجاتي الاجتماعية، الواردة في هذا البيان، معرضة للإنتقاد من الناحية العلمية الاجتماعية، لـخروجها عن نطاق التحديدات الفلسفية العلمية الـمتبعة. أنني أقر وأعترف بتقصيري هذا وعدم تقيدي بـمنطق العلم الـمجرد، ذلك لأنني أكثر ثقة بالـمنطق الذي تولده معركة الـحياة أو معركة العمل الـمتواصل. لقد أعطتني هذه الـمعركة الدليل القاطع على قيمة الفرد وأهميته في نـجاح أي عمل أو مشروع عام، كما أنها أثبتت لي أن القيم الفكرية والـمثل العليا والـمبادئ السامية، هي أشياء غير مـمكنة الوجود إلا بجهود الفرد ولا يعبر عنها سوى الفرد الفذ الذي يستطيع وحده أن يجسمها بأعماله وبتصرفاته في الـحياة. وللتدليل على صحة ما أقول إسمحوا لي أن أنقل لكم الصورة التي كنت أتخيلها أمامي والتي كنت ألـمسها بنفسي للحالة الـحزبية في كل مرة كنا نخرج فيها من معركة سياسية عنيفة. ولذلك أرجو أن ترافقوني في تصور لوحة كبرى رسم عليها ما يلي:
يظهر أمامكم مشهد مروع لساحة قتال يخيم عليها سكون وهدوء الـموت بعد انتهاء ملحمة هائلة. ولكن ترون بين ركام الـخراب والدمار والتقتيل، أفراداً قلائل أقوياء كالعمالقة، مهمشي الوجوه، ممزقي الثياب، تسيل منهم الدماء. ومع ذلك ارتسمت على وجوههم علامات الغضب والأنفة والعزم الـمتعصب لـمتابعة القتال. فتسألون ماذا يعمل هؤلاء الأفراد في هذا الـمكان الـموحش الذي لا يقطنه إلا الـموت؟ من الطبيعي أن يتبادر لأذهانكم أنهم أشقياء أتوا لسرقة ما بقي سليماً بعد هذه الـمعركة، خصوصاً وأنكم لاحظتم أن قسماً منهم يحمل أمتعة والقسم الآخر يفتش عن أشياء بين الأنقاض. ولكن عندما تقتربون من اللوحة وتـمعنوا النظر فيها تـجدون أن ما يحمله هؤلاء ليس إلا بقايا لتماثيل بديعة من الرخام، ويظهر من طريقة نقلها مدى اهتمامهم بها ومحافظتهم عليها، كما أن القسم الآخر جاد بالتفتيش عن تـماثيل أخرى بجد واهتمام ظاهر. فيزيدكم هذا الـمشهد دهشة واستغراباً، لأنكم لا ترون العلاقة بين وجود التماثيل الرخامية وموضوع اللوحة التي تـمثل مشهد السكينة الـمخيمة على ساحة قتال بعد هدوء الـمعركة. ثم ما هو قصد الرسام في وضع هذه التماثيل بين أيدي جنود كان بالإمكان أن يهتموا بالتفتيش عن غير تـماثيل محطمة. وبينما نحن على وشك الإنتهاء من درس هذه اللوحة الغريبة، يسترعي انتباهنا مشهد آخر يظهر لنا في أفق اللوحة، وهو مشهد لـجماهير غفيرة، عندما ندقق في وضعها نـجدها مهرولة ومنهزمة، همّ كل فرد منها دفع من أمامه ليسرع في الفرار ويتخلص من جو ساحة العراك هذه، هذا ما نراه في اللوحة الـمذكورة، وبقي علينا أن نكتشف الـمعاني والأفكار التي أراد الـمصور أن يرمز إليها في لوحته. فنبدأ باستيضاحه، مظهرين له استغرابنا لوضعه بعض الـمشاهد التي لا تنسجم مع الظاهر العام للصورة ولذلك نرجوه أن يشرح لنا الفكرة التي أراد أن يبرزها، فيجيب قائلاً:- أنكم أسأتـم فهم الفكرة التي تـمثلها لوحتي، أن آثار الـمعركة التي ترونها أمامكم ليست آثار معركة حربية عادية، بل أنها تـمثل مشهداً أعم وأعظم من الـمعركة الـحربية الـمألوفة، هي معركة الـحياة اليومية، هي الـمعركة التي تستخدم الـحرب وفنونه لـخدمة أغراضها العليا الرفيعة. إن الـمشهد بكامله يرمز إلى الـمعركة اليومية الـمعقدة والـمتواصلة التي تدور رحاها بين عناصر القوة والشجاعة والفضيلة، وعناصر الرذيلة والشر والرياء في مجتمعنا البشري. ثم يتابع الرسام قائلاً، لقد مثلت عناصر الـحق والفضيلة بالأفراد القلائل الذين صمدوا وتـحملوا ما تـحملوه بعد قتال عنيف وسيطروا نهائياً على ساحة القتال، كما أنني مثلت عناصر الرذيلة والرياء، بالـمجموع الكبير من القتلى الـمطروح على الأرض. أما التماثيل التي استغربتم وجودها في هذا الـمكان فإنها تشكل في الواقع محور الـموضوع في لوحتي.
إن هذه التماثيل الـجميلة الفتانة التي أدركها الفكر الراقي وصنعتها اليد الفنانة ترمز إلى مثل الـحياة العليا ومبادئها السامية. غير أن هذه الـمثل العليا والـمبادئ السامية هي في نظري معرضة للمصير نفسه الذي تعرضت إليه التماثيل الـمحطمة لأن الـمثل العليا والـمبادئ السامية في الـحياة كالتماثيل غير قادرة على الدفاع عن نفسها، فهي جميلة وفتانة ككل إنتاج فني راق، وتتجسد بها أهداف ومقاصد هي غاية في النبل والسمو ولكنها مع كل هذا سريعة العطب والتشويه تتحطم وتتبعثر في أثناء معركة الـحياة العنيفة، فيأتي في النهاية، وبعد هدوء الـحالة، هؤلاء الـجبابرة القلائل الذين نـجوا من أخطار القتال وشرعوا بعد انتصارهم في لم وجمع ما حطمته أيدي الشر والرذيلة من مثل عليا ومبادئ سامية. أما الـجماهير الـمهرولة الـخائفة الظاهرة على الأفق البعيد، فتمثل هزيـمة الغوغاء، فإن كل همها هو الابتعاد عن الـمعركة فتعيش دائماً وأبداً على هامش الـحياة بعيدة عن أخطارها وأهوالها.
هذه هي العبرة التي أراد أن يعطينا إياها هذا الرسام الـمجهول لـحقائق الـحياة. أراد أن يزيل من فكرنا أن القوة من حيث هي قوة، والفضيلة من حيث هي فضيلة، موجودتان في الـمثل العليا والـمبادئ السامية، فقد أثبتت معركة الـحياة أن القوة والفضيلة هما من صفات الأفراد الأحياء وليس للـمبادئ السامية سوى مزية الـجمال الرائع الذي نراه في التمثال، وهي تـحتاج إلى قوى الأفراد الـمعنوية والـمادية للدفاع عنها ووضعها في الهياكل الـمقدسة التي تليق بها.
أنني قد شددت كثيراً على إظهار قيمة الفرد في عمل الـمؤسسات العامة، ذلك لأن إيضاح أهميته له، هو شرط أساسي لـمساعدته على تقدير خطورة مسؤوليته ولتمكينه من تكوين فكرة عن الأضرار الهائلة التي يـمكن أن تلحق به وبـمجتمعه من جراء عدم فهمه للدور الهام الذي يلعبه في الـحياة ولتقصيره بالتالي في تـحمل أعباء مسؤولياته.
صفات الفرد القومي
أعتقد أن البحث حول أهمية الفرد الأساسية في التعبير عن الـمبادئ السامية وإعطاء مثل الـحياة العليا قيمها الـحقيقية، قد تطور إلى درجة أصبح معها من الـممكن أن نتحول إلى النقطة الثانية في التسلسل الـمنطقي وهي إظهار الصفات والـمزايا التي يجب أن يتحلى بها الفرد الذي يعتزم أن يؤدي رسالته كإنسان راق متمدن والذي يدرك ويصمم أن لا يكون وجوده في هذا العالم قائماً على الصدفة، بل يشعر أن مجرد وجوده يترتب عليه تـحمل الـمسؤوليات التي فرضها سير الـمدنية. لذلك وبـما يختص بالقوميين الـمسؤولين منكم الذين يشعرون هذا الشعور والذين يريدون هذه الإرادة، فإنهم يحتاجون، علاوة عن إدراك مسؤولياتهم الإنسانية العامة، إلى إدراك مسؤولياتهم القومية الوطنية أيضاً، ذلك بواسطة تقدير دقيق لـما سيقتضيه عملهم من الـجهود والقوى، فلن يكتفوا، لـمواجهة مسؤولياتهم القومية هذه، بالإعتماد فقط على الـمعدن الذي وهبتهم إياه الطبيعة، بل يستعدون أيضاً لتربية فضائل أخرى في أنفسهم، تتناسب قيمتها مع خطورة القضية القومية التي أخذوا على عواتقهم العمل لها وتـحقيق أغراضها. لذلك أصبح من الـمحتم علينا، لـمعرفة الـمزايا الـخاصة التي تتوجب تربيتها في أنفسنا، أن نتعرف بدقة تامة إلى طبيعة حركتنا القومية والـمشاكل والصعوبات الـمقدرة الوقوع في عملنا الـحزبي العام.
إن حركة إصلاحية شاملة كحركتنا، تنوي تقويض أنظمة مجتمعنا الرثة، العقيمة، والـمتجمدة، لتقيم مكانها مجتمعاً فتياً قوياً متجدداً، يجد غذاءه الروحي في جمال ونبل مثله العليا السامية العادلة، هي حركة يكتب لها، خصوصاً في بادئ الأمر، سلوك طريق وعرة شاقة، ملأى بالصعوبات والـمفاجئات. إذ أنه من طبيعة التقاليد والأنظمة الاجتماعية، وبصورة خاصة تلك التي تتمتع برسوخ متأصل، ثبتتها ووطدت أركانها الأجيال الغابرة، من طبيعة هذه التقاليد والأنظمة وما يلاصقها من قوالب فكرية جامدة، أن لا تتنازل عن مركزها في الـحياة، وأن لا تزول إلا بعد معركة عنيفة فاصلة, فإما أن تنتصر وتـمدد زمن سيطرتها وإما أن تسحق فتزول ليحل محلها ما هو أصلح وأنسب. فهي لذلك مستعدة دائماً أن تنازل أعداءها وتسحقهم بدون رحمة أو شفقة، وكل من يجرؤ على مناقشتها وانتقادها في صلاحية أنظمتها وامتيازاتها وحقوقها الـمكتسبة.
فإن عوامل الزمن والقدم قد أوجدت حولها هالة من الاحترام والقدسية يجعل انتقادها أو مجرد البحث بشأنها كفراً يستحق عقاباً قاسياً لا هوادة فيه. فقد أصبح إذاً من الواضح أنه سيعترض طريقنا مصاعب جمة وأخطار عديدة قبل وصولنا إلى غاياتنا القومية، وتـحقيق إصلاحاتنا الاجتماعية وبلوغ أهدافنا البعيدة. وخلاصة القول، عليكم أن تأخذوا علماً بصورة أكيدة، أن مبادئكم القومية لن تتحقق، كما أن مثلكم العليا لن تغرس في الـمجتمع القومي، دون أن يكلفكم ذلك خوض معركة شديدة قاسية من أجلها.
لذلك أيها الـمسؤولون، يجتاز حزبكم ظروفاً غير عادية ولا يـمكن التغلب عليها إلا بـمجهود متفوق. إن هذا الـمجهود الـمتفوق يقتضي منكم أن تتصفوا بالـمزايا الـحزبية التي تـمكنكم وحدها من مجابهة القوى الرجعية، فهاجمتها وسحقتها في النهاية. ولنر الآن ما هي الصفات التي يجب أن تتحلوا بها للقيام بأعباء مسؤولياتكم على أفضل وجه:
1-إن أول ما يقتضيه هذا الـمجهود الاستثنائي هو أن تضعوا أنفسكم في جو نفسي وفكري يتوافق مع ذهنية الكفاح والعراك. إن الـحياة الهنيئة الهادئة القانعة قد انتهى عهدها للمسؤول في الـحزب القومي لأنه يعتبر عاراً عليه أن يرضى بحالة أمته هذه.
-2إن الـمسؤول يجب أن يكون مخلصاً أشد الإخلاص لـمسؤوليته. ولا يكون ذلك فقط بإتـمام واجباته الـمكتبية والشكلية، ولكن بإظهار اهتمامه وإشباع كل قضايا وأمور مسؤوليته درساً وإمعاناً بشكل يقتنع وجدانياً أنه قدم كل ما يستطيع تقديـمه للمصلحة الـحزبية. فيقتضي ذلك استعداداً من قبله للإنتباه دائماً إلى كل شاردة وواردة وأن لا يدع مناسبة تـمر دون أن يسعى للإطلاع على تفاصيل ما له علاقة ومساس بالـحزب وأعضائه. حتى أنه إذا طلب إليه حل قضية أو إبداء رأي استطاع أن يعتمد على معلوماته وخبرته العميقة في معالـجة القضايا الـحزبية، مـما يزيد في احترام الأعضاء له وثقتهم به. هذه هي صفة الـحذر والتنبه في الـمسؤول لكل ما يجري حوله.
-3شخصية الـمسؤول الاجتماعية: للمسؤولية في الـحزب القومي صفتها الاجتماعية سواء أكان ذلك في أوساط الـحزب نفسها، أو في الـحلقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الـمسؤول. فإن الـمسؤول في الـحزب القومي عليه أن يحافظ على سمعة حزبه العالية، فتكون جميع تصرفاته الاجتماعية والـحزبية مدعاة للإحترام والتقدير. إن الـمحافظة على هذا الـمستوى الاجتماعي، هي مستوحاة من الـمبدأ الذي يعتبر أن الـمسؤول ليس له حياة خاصة منفصلة كل الانفصال عن حياته العامة، ولذلك يجب على الـمسؤول في هذا السبيل أن يضحي بكثير من خصوصياته وملذاته الشخصبة، غير أنه سيجد في التقدير والاحترام الذي سيجلبه تصرفه الرصين الـمتزن، ما يعوض أكثر بكثير عن تنازله عن خصوصياته وأهوائه الشخصية.
-4شخصية الـمسؤول الإدارية: يجب أن تبرز شخصية الـمسؤول بصفته رئيساً لإدارته بـمظهر القائد الصلب الذي لا يتساهل بأمور قيادته لا مع نفسه ولا مع من هم أدنى منه رتبة. ولكي يفرض شخصيته على معاونيه ومرؤسيه، عليه أن يكون بنفسه مثالاً صالحاً في تـحمل مسؤولياته وتنفيذها.
إن القائد الذي لا يراعي هذا الـمبدأ يجب أن لا يستغرب إذاً إهماله هذا إلى تقاعس معاونيه وتـمرد مرؤوسيه لذلك عليه أن يكون دائماً عنوان النشاط والدقة في ترتيب وتنفيذ أعماله الـمكتبية، لأنه يدرك أهمية الفن الـمكتبي والتسجيل في عملية الضبط الإداري العام وإعطاء صورة كاملة صحيحة لواقع الـحال في دائرته كلما طلب إليه ذلك. عليه أيضاً أن يدرب نفسه على الاحتفاظ بـمعلومات مسؤوليته ضمن دائرة عمله. وليس القصد في ذلك مجرد كتم الأسرار، ولكننا نعلم من الاختبار أنه ليس هنالك أي فائدة من طرح الـمواضيع الإدارية للبحث جزافاً أمام أي كان، لأنها مواضيع درس واختصاص ومتابعة. فلا يـمكن الاستفادة فيها إلا من رأي أصحاب العلاقة والذين أشبعوها درساً وتابعوا تطوراتها، كما أنه يعلم أن البحث الغير الـمسؤول مع من هم غير مسؤولين في أمور إدارته وإفشاء الـمعلومات بشأنها يؤدي حتماً إلى عرقلة الـحلول التي يراد إيجادها ويفسد عليه تطبيق سياسته الإدارية العامة في منطقة نفوذه. عليه أن يتذكر دائماً ما قد ورد في قسم الوظيفة بهذا الـمعنى، وإليكم ما ينص القسم بهذا الصدد :«كاتـماً أسرارها (أي الوظيفة)، غير مذيع إلا ما أنا مفوض بإذاعته».
-5شخصية الـمسؤول الـحزبية: أنني أقصد بهذه التسمية التعبير عن شخصية الـمسؤول القائمة على علاقته مع الأعضاء مباشرة ولذلك اقتضى تـمييزها عن شخصيته الإدارية القائمة على علاقته بـمعاونيه وبرؤسائه. فإنه بـمسؤوليته هذه عليه أن يكون حذقاً وماهراً للغاية، فيحافظ على هيبته كمسؤول ويبقى رسمياً وجدياً في معاملاته وعلاقاته بالقوميين وحازماً جداً في تنفيذ أوامره وتعليماته. غير أنه بالوقت نفسه عليه أن ينتبه إلى أن موقفه هذا الـجدي الرسمي، يجب أن لا يؤثر على علاقات العطف والـمحبة بينه وبين القوميين. عليه بكلمة أخرى أن يوفق دائماً بين ضرورة عدم ابتذال شخصيته ومحافظته على صلات الـمودة مع مرؤوسيه في آن واحد. ولكن اتخاذ هذا الـموقف الدقيق الـمسؤول من قبلكم يقتضي جهداً وتصرفاً يوحي الاحترام والتقدير من قبل الغير. فإن التصرفات الـجدية التي تـجلب التقدير والاحترام لا تأتي عن طريق العبوس في وجه الغير وإهمال نواميس اللطف واللياقة.
لذلك نـجد عندما ننظر إلى جوهر التصرفات الـجدية الرسمية، أن ما توحيه من الاحترام متأت عن تقدير الغير لنشاط الـمسؤول، واحترامه وإخلاصه لعمله، لـمناقبه الأخلاقية ولسهره الـمتواصل وتفقد حالة القوميين التابعين له بحيث يجعلهم يشعرون أنه أخ وصديق لهم في آن واحد، لـمحافظته على رباطة جأشه وهدوء أعصابه في الأزمات وعدم تسرعه وإظهار غضبه في معالـجة القضايا الـمملة. إن مجموع هذه الصفات هي التي تولد الاحترام والتقدير من قبل الأعضاء لرئيسهم الـمحلي، كما أنها تدفعهم لطاعته ومعاونته في عمله عن محبة وبدوافع عاطفية تزيد كثيراً في نتائج الـمجهود الـحزبي وقيمته.
لقد استعرضنا معكم، أيها الـمسؤولون، الصفات والـمزايا التي يجب أن تتسلحوا بها لكي تنجحوا في ثورتكم الاجتماعية القومية، ولكن الصعوبة كل الصعوبة في الـحصول على هذه الأسلحة الـمناقبية والأخلاقية، لأنها ليست من صنع الأيدي ولكنها من صع الإرادة الصلبة الفولاذية التي تزيدها الـمعاكسات مضاء وشدة. لذلك لا بد لكم من الابتداء بـمعركة عنيفة بينكم وبين أنفسكم، لأنه عليكم أن تطردوا من نفوسكم كل بقايا الضعف والتخاذل فتحلوا محلها الصفات القومية الـحقة، تلك التي أصبحت من تقاليد الـحزب القومي.
فسواء نظرنا إلى حالة حزبنا أو إلى حالة أمتنا، مع أنه لا يـمكن التفريق بين هذه وتلك، يعترينا قلق مخيف على مصير بلادنا وما قد يصيبها في التصفية الدولية الـمقبلة. فإنكم تلاحظون ولا شك أنه في وجه التنظيم والـحشد الهائل الذي يغمر جميع أمـم العالم، وفي وجه التنظيم الصهيوني في الـجنوب، ذلك التنظيم الـمسلح الذي بلغ في رقيه ودقته درجة توازي تنظيم أرقى الأمـم، في وجه كل هذه الاستعدادات الـمسلحة للتعدي على وطننا وأمتنا، لم تقابلها الأمة إلا بنهضة الـحزب القومي وتنظيمه لـحمايتها وتخليصها من براثن تلك الوحوش الـجشعة.
إن الصورة لـخطورة مسؤولياتكم قد أصبحت واضحة وجلية، فقد دعوناكم لهذا الـمؤتـمر لكي نستعرض مشتركين الـحالة الـحزبية وإيجاد الـحلول للمشاكل والقضايا الـمعلقة منذ أمد بعيد، ثم ابتكار الوسائل الفعالة لـمعالجتها ووضع الـحزب كوحدة إدارية محكمة التنظيم في حالة تـمكنه من تعهد قضية البلاد، والبر بوعده للأمة:
وفي الـختام، أيها الـمسؤولون، بصفتكم أفراداً عهد إليكم حراسة مصالح مؤسستكم وخدمتها، فإن الحركة القومية وما تشتمل عليه من مبادئ سامية ومثل عليا، تستنجد بهمتكم وبما أقسمتم عليه لإنقاذها من الوقوع فريسة في أيدي العناصر الشريرة فتشوه جمالها وتمنعها من ايحاء رسالتها النبيلة إلى أمتنا.