عن التنظيم الـمكتبي
يا رجال النهضة!
أيها الرفقاء!
الوثيقة الـحزبية!
هذه الورقة البسيطة مهما كان نوعها- أرسالة كانت، أم تقريراً أم قراراً أم تذكرة أم مذكرة- هذه الورقة التي تـحمل في زاويتها العليا اليمنى إسم الـحزب، ما هي؟ وما قيمتها في الـمؤسسة؟ وما هو أثرها في العمل الـحزبي؟ وكم يجب أن يكون مقدار اهتمامنا بها ومحافظتنا عليها؟ هذا هو الـموضوع الذي عليّ أن أحدثكم به اليوم!
أمامي الآن ورقة من هذه الأوراق التي كانت تكتب بين الـجدران وضمن الأبواب والنوافذ الـمغلقة، وتنقل في غضون الليل بتكتم وتـحفظ شديدين، هذه الورقة التي كان بعض الـجبناء يصرف الساعات لاختلاق الأعذار والـمبررات لـمنع وجودها أو لإتلافها حين الاضطرار لوجودها.
أمامي واحدة من هذه الأوراق، لا شك أنها مرت في أيام جهاد طويلة حتى استطاعت الإفلات من الـحرق أو الغرق أو التلف. لقد أصابها الوهن وأصفرت من طول هذا الـجهاد، ولكنها حافظت على الرغم من كل ذلك، على بقية من رمق الـحياة تـمكنها من القول لنا أن فلاناً الفلاني عُيّن في مثل هذا التاريخ من عام 1936 مديراً لأحدى الـمديريات في منفذية بيروت- أي منذ ثماني سنوات.
ففي خلال هذه السنوات الثمانية، ما هي التطورات التي مر بها الرفيق الـمذكور في هذه الورقة. هل نـجح في مهمته التي عُين لها فسُلِّم سواها وغدا يرتقي إلى أن أصبح من قادة الـحركة البارزين بعد أن كان قائداً لوحدة من وحدات الـحركة؟ أم أنه فشل وتراجع وبقي من الـمنسيين أو الـمهملين لعدم كفاءته ومؤهلاته؟ لسنا نعرف شيئاً من هذا بـموجب الأوراق الـمحفوظة لدينا!
إنني شخصياً أعرف أن الرفيق الـمذكور عُيّن في عام 1936 مديراً في منفذية بيروت وأعرف جميع التطورات التي مر بها منذ ذلك الـحين. وزميلي عميد الداخلية الـحالي يعرف ذلك أيضاً. وربـما عرف ذلك كل الرجال الـمركزيين وعرفوا إلى أين وصل هذا الرفيق في تطوره الـحزبي...ولكن هل يكفي هذا؟ هل يكفي أن يسجل تاريخ التطور الإداري في ضمير بضعة من قادة الـحركة القومية؟ لنفرض أن هذا الرفيق تغيّب عن البلاد مدة من الزمن كان في خلالها مواظباً على إيـمانه بالعقيدة التي لم تسمح له ظروف حياته الـمادية بخدمتها، هل تضيع الـجهود الناجحة التي يكون قد بذلها في الـخدمة ولا يعرف عنه شيء إلا بشهادة بضعة من الرجال الشفهية؟
رب قائل يقول أن السنوات الـماضية التي مرت بها الـمؤسسة كانت سنوات اضطهاد وتشريد منعتنا من تسيير الـحركة السير الـمنتظم الذي نرغبه!
أجل! أنني أقول مع هذا القائل بأن السنوات الـماضية كانت سنوات عاتية عصفت بنا فيها رياح الاضطهاد والتشريد فأصبح هم كل منا الـخلاص بنفسه! ولكنني أقول أيضاً أن الأوراق الـحزبية بالنسبة للحركة لها من الأهمية ما للأشخاص الـحزبيين، وأن الـمحافظة عليها ضرورية كضرورة الـمحافظة على هؤلاء الأشخاص! لأن الأشخاص يحملون العقيدة، والأوراق تـحمل تاريخ الـجهاز الذي يحمي هذه العقيدة. إنـما الأوراق الـحزبية بـمثابة الهيكل الـحي لتطور الـجهاز الذي يحمل هذه العقيدة ويبقي عليها وينقلها من طور إلى طور ومن جيل إلى جيل. والأشخاص عرض زائل ولكن الـجهاز الذي يـمثلونه هو العنصر الثابت الدائم!
ها إن العواصف التي كانت تهب على واضع تاريخ أمتنا الـجديد فتبعثر بين الـحين والآخر الصفحات التي يكون قد كتبها، ها أن العواصف قد خمدت أنفاسها! ها أن زوبعتنا الـجديدة قد نـجحت في بعث التيار الـجديد الذي يجب أن يجرف أمتنا! ففي هذا الاستقرار النسبي الذي حزناه لم يعد من موجب قط لوجود الفوضى في إدارتنا، لا سيما القسم الـمتعلق بالتنظيم الـمكتبي.
انتدبت عمدة الداخلية بعض الرفقاء الـمركزيين في الشهر الـماضي لتفتيش الـمناطق ورفع تقارير عنها تستفيد منها اللجنة التحضيرية لهذا الـمؤتـمر. وقد جاء في تقرير واحد من هؤلاء الـمفتشين أنه عندما طلب الأوراق من أحسد النواميس سلمه رزمة من الأوراق الـملفوفة دون تنظيم والـمربوطة بخيط.
وقد طلبت شخصياً، في أثناء تفتيشي لإحدى الـمنفذيات الأوراق من ناموس الـمنفذية، فمد يده إلى جيبه وسحب تعميماً وارداً من إحدى العمدات ونسخة خطاب كان قد ألقاه في اجتماع لإحدى الـمديريات وقال لي أن ذلك هو كل ما يـملكه من أوراق.
وفي أول أكتوبر الـماضي أذاعت عمدة الإذاعة بياناً وطلبت من الـمسؤولين في الـمناطق تقارير عن توزيعه وعن الأثر الذي أحدثه، فكم مسؤول منكم أجاب على هذا الطلب؟
وفي كثير من الـمناطق لم يعثر الـمفتشون على ورقة واحدة تدل على استمرار العمل الـمكتبي.
وسألت أحد نظار الإذاعة عن أعماله وطلبت منه نسخ التقارير التي رفعها إلى عمدته فكان جوابه أنه يلقي خطباً ارتـجالية في اجتماعات الـمديريات فلا يحفظ الـخطب، ويعالج روحية الأعضاء حسب الظروف وبواسطة الاحتكاك الشخصي والـجدل حول الـمواضيع، ولا يرفع التقارير.
أنني أردد هنا ما قلته سابقاً: أن الـمسؤول الـحزبي عرض زائل ولكن الـجهاز الذي يـمثله هو العنصر الثابت الدائم!
إن الـمسؤول الـمركزي عندما يستمع إلى أحد الـمسؤولين في الـمناطق الذي يسرد له أخبار منطقته يأسف أو يغتبط أو يحزن أو يسعد لهذه الأخبار، ولكن تأثراته هذه تبقى شخصية بحتة ولا تتخذ شكلاً عملياً له نتائجه إلا متى سجلت في تقرير أو رسالة. وعند ذلك ينظر فيها الـمسؤول صاحب العلاقة ويدرسها درساً موضوعياً عملياً ويعالـجها معالـجة مفيدة.
صفتان للمسؤول الـحزبي من الوجهة الـمكتبية، يجب أن يتقيد بهما: صفة التسجيل وصفة التنفيذ. والأولى تتضمن أخذ العلم بكل حدث وكل تطور يـمس أو يتعلق بسير الـحركة على حقيقته الـمجردة وينقلب في هذه الصفة إلى آلة سينما ناطقة. تسجل بأمانة الـحقائق بصورها وأصواتها دون ما تعليق. وبصفته الثانية ينقلب إلى الفكر الـمتحرك الـمسؤول الذي عليه أن يحدد موقفه ويعين نوع الإجراء الذي عليه اتخاذه بناء على الـحقيقة الـمبنية في التسجيل. ويجب أن ينقل هذا التسجيل إلى أي مفتش أو مسؤول صورة واضحة متسلسلة لكل قضية من القضايا الـحزبية منذ بدئها حتى انتهائها وإغلاقها باتخاذ تدبير نهائي بشأنها، لأن العمل الـحزبي سلسلة متواصلة الـحلقات يجب أن لا تقطع مهما كانت الظروف والأسباب، ويجب أن تظهر بأمانة إلى كل شخص جديد في الإدارة إلى أين وصل العمل وأين يجب عليه أن يبدأ.
وضع التقارير
وهنا لا بد لي من التطرق إلى بحث عامل أساسي في الإدارة الـحزبية هو «الـمقرر» أي عندما يكون الـمسؤول مقرراً. ففي التقرير فن قائم بذاته يحتاج إلى كثير من الأمانة والدقة وملاحظة التفاصيل والدقائق، لأن الـمسؤول حين يكون مقرراً عليه أن يصبح كما جاء سابقاً، آلة لاقطة للصوت وللصور لا يفوتها شيء مـما يجري أمامها. وهو إلى ذلك يقوم بـمهمة نقل الـحوادث كاملة إلى قارئ التقرير الذي عليه أن يحكم بموجبه، أي بـمعنى آخر: إن الـمقرر يجب أن يتمكن من نقل قارئ تقريره إلى مكان الـحادث، أو الأمر الـمقرر عنه، فيسمع بأذنيه ويرى بعينيه. فلرب أمر بدى للمقرر بسيطاً غير ذي بال، فأهمله في تقريره، كان العنصر الأساسي بنظر الـمسؤول الـمقرر له لعلاقته بأمور أساسية فاتت الـمقرر أو لم يكن مطلعاً عليها خروجها عن حدود صلاحيته.
والآن لأقم معكم بـملاحقة معاملة حزبية تتعلق بعضو من الأعضاء ولنتبع هذه الـمعاملة من دائرة إلى دائرة في الـجهاز الإداري الـمكتبي ولنر كيف تتطور وأين نـجد آثارها.
القضية تتعلق بعضو من الأعضاء في مديرية ما أصابه اليأس وغدا انهزامياً يدعو رفقائه القوميين إلى التخاذل مجرباً إقناعهم بأن القضية القومية قضية فاشلة حتماً لعدم صلاحيتها ولعدم ارتكازها إلى أسس صحيحة.
إن أول أثر لهذه القضية يجب أن يكون حتماً في الـمديرية التي هو تابع لها، فنجد في «ملف التقارير الواردة» تقريراً من أول عضو حادثه هذا العضو الفاسد بالـموضوع يسرد فيه تفاصيل حديثه معه ويقول فيه أنه لاحظ تفسخاً في روحية هذا الرفيق ثم نـجد في «ملفات مذيع الـمديرية» نسخة عن هذا التقرير محالة إلى الـمذيع ومذيلة بـملاحظة من الـمدير يجيء فيها أنه يرجو من الـمذيع معالـجة روحية هذا العضو والتقرير عنها في جلسة هيئة الـمديرية. وبعد ذلك نـجد في وقائع أول جلسة لهيئة الـمديرية بعد تاريخ التحويل بلاغاً يعيطه الـمدير إلى أعضاء هيئة مديريته وسؤالاً موجهاً إلى الـمذيع عما فعله في القضية وجواباً من الـمذيع بأنه استدعى العضو الـمذكور وحادثه فوجد منه تخاذلاً شديداً وميلاً إلى الابتعاد عن الـحركة، وربـما وجدنا كلاماً على لسان الـمحصل يقول فيه أن العضو الـمذكور تـمنع عن دفع اشتراكه دون أن يقدم عذراً مشروعاً يقبله الـمنطق. وبعد الـمداولة يصدر الـمدير قراراً بإهمال العضو والتعميم على الأعضاء بعدم الإتصال به وطلب إعداد تقرير عن الـحادث من قبل الـمذيع الذي كلف بالأمر لرفعه إلى الـمنفذية. ولو فتشنا بين أوراق ناموس الـمديرية لوجدنا في سجل القرارات بلاغاً موجهاً إلى الأعضاء بقرار الـمدير وطلب عدم الإتصال بالعضو الذي نحن بصدده، وقد وقع عليه جميع أعضاء الـمديرية.
وإذا ما انتقلنا إلى الـمنفذية فماذا نـجد؟ إننا نـجد في ملف التقارير تقريراً مسهباً عن تطور الـحادث حتى صدور قرار الإهمال من قبل الـمدير مع نسخة عن هذا القرار. ونـجد هذا التقرير محالاً إلى ناظر الإذاعة مع إشارة من الـمنفذ العام بوجوب الإهتمام من قبل الناظر والإدلاء برأيه واقتراجه بشأن العضو في جلية هيئة الـمنفذية. ثم نـجد في أول جلسة للهيئة بعد تاريخ تـحويل التقرير علماً من الـمنفذ العام يعيطه لهيئة منفذيته، وسؤالاً موجهاً إلى ناظر الإذاعة عما فعله، وجواباً من الناظر بأنه درس قضية هذا العضو وتبين له بأنه قد تراجع عن عقيدته وأصبح عنصراً فاسداً يخشى منه في صفوف القوميين، واقتراحاً بأن يفصل حالاً من قبل الـمنفذ العام لكي يبعد عن الأعضاء وترفع قضيته إلى عمدة الداخلية مع اقتراح طرده نهائياً من الـحزب بـموجب الدستور. ثم نـجد في سجل القرارات الصادرة لدى الناموس قراراً موقعاً من الـمنفذ العام بفصل العضو الذي نحن بصدده فصلاً إدارياً بـموجب الدستور ووجوب عدم الإتصال به ومقاطعته. ونـجد هذا القرار مذيلاً بـملاحظة موقعة من ناموس الـمنفذية تنص على أنه أذيع على سائر دوائر الـمنفذية في تاريخ توقيعه ولو عدنا أيضاً إلى «سجل القرارات الواردة» في كل مديرية لوجدنا نسخة مبلغة إلى جميع أعضاء الـمديرية.
ولننتقل إلى سجلات عمدة الداخلية الـمحفوظة لدى ناموس هذه العمدة، فإننا نـجد هنا إضبارة تـحمل إسم العضو الـمنوه عنه تـحتوي على جميع التقارير والقرارات الـمتعلقة به والصادرة من مديريته ومن الـمنفذية.
ثم نـجد ناموس عمدة الداخلية يعرض هذه القضية في جلسة لهيئة العمدة على العميد ويجري درسها والـمداولة بها فنجد العميد يطلب من الناموس إعداد تقرير كامل عن القضية مع اقتراح بطرد العضو من الـحزب لتراجعه عن مبدأه وقسمه كي يرفع إلى الـمجلس الأعلى.
وفي أول جلسة للمجلس الأعلى نـجد تقريراً مرفوعاً من قبل عميد الداخلية عن العضو واقتراحاً بطرده. ونـجد بحثاً في الـموضوع ربـما استدعي من أجله عميد الداخلية إلى جلسة الـمجلس لإستجوابه، ثم نـجد قراراً من الـمجلس بالطرد.
ولو عدنا القهقرى لوجدنا في «ملف القرارات الواردة» لدى ناموس عمدة الداخلية بلاغاً من ناموس الـمجلس الأعلى يتضمن القرار. ولوجدنا في هذا الـملف في كل منفذية من الـمنفذيات وفي كل مديرية من مديريات الـحزب هذا القرار نفسه مبلغاً إلى كل عضو من أعضاء الـحزب.
وهكذا شأن كل معاملة حزبية يجب أن نـجدها بسهولة في الـملف أو السجل الـمتعلق بنوعها.
ولقد وزعت عليكم عند بدء هذا الـمؤتـمر لائحة بالسجلات والـملفات التي يجب أن تنظم في كل مديرية وفي كل منفذية.
فمن الواجب التقيد بها وحفظها دائماً مضبوطة على التاريخ، محتوية لكل الـمعاملات الـحزبية بانتظام. وبذلك يصبح الهيكل الإداري للحزب سلسلة متماسكة الـحلقات، كاملة التكوين، مكتملة دورة الـحياة، قابلة للنمو والتطور، بذلك يكون لهذا الهيكل جواً ملائماً للحفاظ على العقيدة القومية وتنفيذ الـمثل العليا التي ترغب هذه العقيدة في إطلاقها في جسم الأمة.