أيها الـمسؤولون،
إن أول ما يتبادر إلى الذهن عند تأسيس أي مشروع حيوي اجتماعياً كان أو سياسياً، هو الـمال وكيفية تأمينه. بل نـجد أن الـمال يدخل عند البعض في صلب كل مشروع فيعتبره عنصراً تأسيسياً يتوقف على مدى وجوده، وجود هذا الـمشروع أو عدم وجوده. وقد يبدو لأول وهلة أن هذه النظرية نظرية صائبة فإن كان الـمال كان الـمشروع والعكس بالعكس بل لو قيل لنا أن مشروعاً ما تأسس دون الـمال لوجدنا في هذا القول ضرباً من الغرور والـمبالغة الـمفتوحة.
بل لو دُعي أحد منا إلى الإشتراك في تأسيس مشروع ما ولدى سؤاله عن الـمال الـمحتم وجوده للمشروع أجيب أن مشكلة الـمال تـحل فيما بعد لقال أن هذا الـمشروع مشروع خيالي وأن تأسيسه مستحيل، يحتاج إلى أعجوبة ونحن لسنا في زمن العجائب، إنـما يوجد حزبكم خالق النهضة القومية اجترى هذه الأعجوبة فأسس أعظم مشروع في هذه البلاد إلا وهو مشروع بناء الأمة، مشروع الـحزب القومي حيث تـجسد الـخيال في قالب مادي مكوّن من عناصر الفكر والروح دون أن يكون الـمال عنصراً تأسيسياً فيه بل جعل تأمين وجوده نتيجة محتومة لاندفاع القوى النفسية والروحية التي أطلقها من مكامنها، فأصبح الـمال لأول مرة في تاريخنا غير مشترك في التأسيس بل متفرعاً عن التأسيس نفسه، فهل وجد هذا الـمال؟
وقبل أن نـجيب على هذا السؤال يجدر بنا أن نستعرض أمامنا ولو بصورة موجزة ظروف الـحزب الـمختلفة فنبدأ بالظرف السري ثم الظرف الـجهري إلى ظرفنا هذا.
الظرف السري
تأسس الـحزب سنة 1932 وأخذ ينمو رويداً رويداً ومع هذا النمو بدأت حاجاته الـمالية تظهر شيئاً فشيئاً وفي الوقت نفسه ابتدأت الاشتراكات الشهرية ترد إلى عمدة الـمالية وهي لا تتجاوز عشرات الليرات. فلم تكن كافية لسد الفراغ الـمالي مع أن الصرف كان مقصوراً على ثلاثة أبواب هي التنقلات والـمطبوعات الـحزبية بـما فيها القرطاسية وأجار مكتب واحد، فنشأت من جراء ذلك أزمة مالية تداركها بعض أعضاء الـحزب بتضحياته الـخاصة إلى أن انكشف أمر الـمؤسسة القومية وهي على هذه الـحال من الفقر الـمالي حتى أنه جاء في التقرير الربعي سنة 1935 ما يلي:
أما بخصوص الـمالية فإن الدخل ضئيل إلى درجة أنه لا حاجة إلى ذكره، ونشأ أيضاً أول دين على خزانة الـحزب لم يسدد حتى اليوم.
الظرف الجهري
في هذا الظرف الـجديد أصبحت الـحاجة الـمالية أشد وأقوى إذ أنه مع انكشاف أمر الـمؤسسة القومية والإقبال العظيم عليها وتوسعها في مناطق البلاد كلها إبان الاضطهاد والـملاحقة لم يكن بالإمكان تنظيم الإشتراكات الشهرية بصورة مستمرة. ويجب أن نقسم هذا الظرف الـجهري إلى قسمين: ظرف قبل الـحرب وظرف الـحرب نفسه. وظرف قبل الـحرب ينقسم إلى قسمين أيضاً قسم من سنة 1935 من يوم انكشاف أمر الـحزب إلى أواخر سنة 1937 والقسم الآخر من هذا التاريخ إلى يوم إعلان الـحرب.
القسم الأول من ظرف قبل الـحرب:
قد اشتهر هذا الظرف بالـملاحقات الشديدة وبذهاب مئات من القوميين إلى مختلف السجون وهنا نشأت أزمة جديدة وهي الـحاجة الـملحة لإعالة عائلات كثير من هؤلاء القوميين ومحاولة الترفيه عن القوميين الـمسجونين أنفسهم الذين لم تكن إمكانياتهم الـمادية تساعدهم على ذلك فنشأت فكرة التبرعات والقسائم لعائلات مستورة. هذه الأزمة الـجديدة زادت استحكام الأزمة القديـمة فخرج الـحزب من هذا الظرف القاسي وكثير من أعضائه يعاني الأمرين من الوجهة الـمالية ولكن بصبر وثبات مدهشين، إنـما الديون على خزانة الـحزب تراكمت والأزمة الـمالية على ما هي عليه.
القسم الثاني من ظرف قبل الـحرب
إن أبرز ما في هذا الظرف هو حصول الـحزب على فترة راحة ومشروع جريدة النهضة. وهنا دخل عامل جديد في حياة الـحزب الـمالية هو اشتراكات فروع الـحزب في الـمهاجر الـمختلفة، فتناسب هذا الدخل الـجديد مع هذا الظرف الـجديد وأصبحت الإدارة الـمالية منظمة تنظيماً أخذت تكفل رويداً رويداً دخلاً شهرياً ثابتاً من الإشتراكات فخفّت الأزمة القديـمة قليلاً ولكت تغير الـحال الذي كانت فاتـحته تعطيل الـجريدة إعادة الأزمة إلى ما كانت عليه من الـحدة بل زادتها بديون جديدة تسببت عن مشروع الـجريدة فعاد الـحزب يتخبط في عجز مالي لم ير له مثيلاً من قبل، هذا مع الاعتبار أن حاجات الـحزب الـمالية ارتفعت ارتفاعاً هائلاً فأصبحت أبواب الصرف متفرعة تفرعاً كبيراً من تنقلات إلى أنحاء البلاد جميعها وطبع الإذاعات والكراريس الإذاعية والقرطاسية لكل الدوائر الـحزبية وإنشاء الـمكاتب والقيام بالإجتماعات الشعبية العامة وتـحقيق مشروع الـجريدة وتسديد بعض الديون القديـمة إلخ...
ظرف الحرب
هو أقسى وأفظع ظرف مرّ به الـحزب فبينما كانت مدة الـملاحقات في الـماضي لا تتجاوز الأشهر أصبحت في هذا الظرف تعد بالسنين زد على ذلك انقطاع الدخل الـمادي الوارد من اشتراكات فروع الـحزب عبر الـحدود إلا القليل جداً منها فواجه الـحزب مشكلة مالية جديدة لم يعرفها من قبل وهي عدم تـمكن الاتصال الـمستمر بكل الفروع لصعوبة الـمواصلات من جهة وتضييق الـخناق من جهة أخرى مع وجود أكبر عدد من العاملين في السجون والـمعتقلات أو في حالة الفرار.
وفي هذا الظرف أيضاً لعبت التضحيات الـمالية الشخصية دوراً كبيراً في إنقاذ ما يجب إنقاذه فكانت تسدد النفقات الكثيرة.
ظرفنا الـحاضر
وقصارى القول أن الـحزب يخرج إلى ميدان العمل القومي وهو يحمل عبئاً مالياً موروثاً من الأزمات الـمتتالية بسبب ظروف الـحزب الاستثنائية الكثيرة مع العلم أن حاجاته الـمالية اليوم هي أكثر بكثير من حاجاته الـماضية إذ أن عليه أن يسد الفراغ الذي أوجدته هذه الظروف السابق ذكرها فهو في حاجة إلى الـمال لتنظيم الإدارة والإذاعة بصورة خاصة وإلى ترتيب الـمكاتب السياسية التي أصبحت ضرورية جداً بالنسبة للعهد الـحاضر وإلى طبع قرطاسية الـحزب الإدارية والـمالية وإلى تأمين الاجتماعات الشعبية العامة مـما يـمكن التعبير عنه بكلمة أبسط وهي أن الـحزب في حاجة إلى ما لا يقل عن الأربعين عضواً يتفرغون للعمل الـحزبي بكليتهم، هذا ما عدا تسديد الديون القديـمة مع تأمين الاتصالات بفروع الـحزب كلها الـمنتشرة في أرجاء وطننا وهذا يعني أن الـحزب في حاجة إلى دخل شهري لا يقل عن 3000 ليرة وهذا لضمانة استمرار العمل الـحزبي كما يليق به. بينما الدخل اليوم لا يقرب الألف أما السبب في ذلك فعدا عن ضعف بعض الـمناطق مالياً، الـموجة التي غمرت الـمناطق الـحزبية على أثر حصول الـحزب على حرية العمل وهذه الغمرة وإن يكن لها ما يبررها فقد أثرت تأثيراً محسوساً على الأعمال الـمركزية إذ أن مبالغ كبيرة «تـحولت إلى أعمال محلية- كان لا بد منها، وهنا نشأت أزمة جديدة فوق الأزمة الـمزمنة الـمستحكمة بسبب الاختلاط الذي حدث في فهم القانون الـمالي وهذا ما سأشرحه في النقطة التالية.
والآن بعد هذا العرض الـموجز ننتقل إلى السؤال:«هل وجد هذا الـمال؟» فأجيب نعم وكلا. نعم، لأن الـمال وجد وكفل استمرار العمل الـحزبي وإن كان بناء على جهود أفراد، إن بديونهم غير الـمستوفاة حتى اليوم أم بإنفاق ما يـملكون حتى آخر رمق. وكلا، لأن الـمال اللازم لتحقيق مثل الـحزب العليا وأهدافه النبيلة لم يتيسر بعد وهذا ما يحتاج إليه الـحزب في مرحلته الـجديدة.
القانون الـمالي
يتضح جلياً من أول نظرة نلقيها على القانون الـمالي أن هناك اشتراكين اشتراكاً مركزياً واشتراكاً محلياً.
الإشتراك الـمركزي
هو الإشتراك الذي يدفعه العضو إلى محصل الـمديرية والذي يرسل إلى ناظر الـمالية في الـمنفذية ومنه إلى الـخزانة العامة حيث يبقى من حق الـمركز بناء على موازنة مبنية على طلبات اعتماد صادرة عن الدوائر الـمركزية وموافق عليها من قبل الـمجلس الأعلى.
الإشتراك الـمحلي
هو الإشتراك الذي يدفعه العضو إلى محصّل الـمديرية والذي يرسل إلى خازن الـمنفذية يبقى من حق مركز الـمنفذية بناء على موازنة مبنيه على طلبات اعتماد صادرة عن دوائر الـمنفذية وموافق عليها من مجلس الـمنفذية وفي حال عدم وجود مجلس الـمنفذية يوافق عليها مؤقتاً من قبل مجلس العمد بواسطة عمدة الـمالية.
إذاً تبين لنا أن هنالك خزانتين في الـحزب خزانة مركزية وخزانة محلية للمنفذية لكل منهما مهمة خاصة مستقلة في إدارتها وهنا يأتي سؤال طالـما ردده الكثيرون من الـمسؤولين والأعضاء وهو: ألا يحق أن يكون للمديرية خزانة خاصة بها؟، وعليه أجيب «نعم أنه يجوز ولكن علينا أن نـميز بين هذه الـخزانة للمديرية وبين الـخزانتين الـمركزية والـمحلية. فخزانة الـمديرية تنشأ مع كل مشروع يراد تـحقيقه في الـمديرية ويـمكننا أن نسميها خزانة الـمشاريع فمشروع الـمديرية يجب أن يكون مبنياً على موازنة تفصيلية مقررة في جلسة رسمية لهيأة الـمديرية ومصادق عليها من قبل الـمنفذ العام في جلسة رسمية في هيئة الـمنفذية التي تعطي علماً وخبراً لعمدة الـمالية التي يجب أن تكون مطلعة على كل الشؤون الـمالية في الـحزب إن مركزية أو محلية للمنفذية أو للمديرية. وعندما يصبح الـمشروع في حيز التنفيذ عندئذ يكون للمشروع خزانة هي خزانة الـمشاريع في الـمديرية وهي دائرة تـحت إشراف محصل الـمديرية. ولكن أموال هذه الـمشاريع في الـمديريات مستقلة عن الأموال الـمركزية أو الـمحلية. وهي أموال خاصة بهذه الـمشاريع فقط ولا يجوز صرفها إلا لهذه الغاية.
مؤسسة الـمعونة القومية:
هذه الـمؤسسة هي الـمؤسسة الـخيرية في الـحزب فهي التي تهتم بجمع التبرعات للخير فيصرف هذا الـمال في سبيل الـمرضى والـمحتاجين بطرق مستورة. ولهذه الـمؤسسة رئيس أو رئيسة تعاونه لـجنة إدارية مركزية مؤلفة من ناموس وخازن وأعضاء عند اللزوم وكذلك في كل منفذية لـجنة مصغرة عن اللجنة الـمركزية. إن هذه الـمؤسسة عملت قليلاً في الـماضي بسبب الظروف الـمعروفة ولكن ابتداء من العام الـجديد آمل أن تنتظم أعمالها. وسيعمم قانون هذه الـمؤسسة في أول فرصة مـمكنة.
وبعد هذا الشرح الآن قد يقول قائل «كثرت الواجبات الـمالية على عاتق العضو ونحن في زمن حرب فما العمل؟» وعلى هذا القول أجيب «إن قليلاً من الدقة في التنظيم يؤمن هذه الأشياء كلها فمثلاً: إن من يدفع ليرة اشتراكاً مركزياً يستطيع أن يدفع ربع ليرة علاوة كإشتراك محلي ومن يدفع نصف ليرة يقدر أن يدفع عشرة غروش علاوة ومن يدفع ربع ليرة بإمكانه أن يدفع خمسة غروش زيادة عنها» أما بخصوص الـمعونة القومية فبإمكان كل مديرية أن تضع صندوقاً صغيراً في مكتبها وفوقه هذه الفقرة من القسم «وإن أقدم كل مساعدة أتـمكن منها إلى أي عضو عامل من أعضاء الـحزب متى كان محتاجاً إليها» وتترك هذه الـمسألة لروحية العضو واندفاعه. وهكذا تبقى أموال الـحزب منظمة تنظيماً بديعاً مخصصة للدوائر ذوات الإختصاص.
وبهذه الـمناسبة أريد أن أنبه القوميين إلى ضرورة انتزاع فكرة: هذا الـمال لكم وهذا الـمال لنا، إذ أن هذا الـمال كله للحزب فليس هناك أنتم ونحن. بل خزانة مركزية تصرف أموالها لـحاجات الـحزب بقطع النظر عن هذه الـمنفذية أو تلك وهناك خزانة محلية تصرف أموالها بقطع النظر عن هذه الـمديرية أو تلك.
وليس هنالك تقسيم اشتراكات فهذا الـمال نقسمه بيننا، هذا لكم وهذا لنا، بل هنالك قسمان من الـمال، قسم مركزي مستقل وقسم محلي مستقل كل بإدارته الـخاصة حسب القانون الـمالي.
وبقدر ما تكون هذه الإشتراكات منظمة ومنتظمة بقدر ما تسير أعمال الـحزب بجد ونشاط وأني أعيذ الأعضاء من الفكرة الـمحلية فهم ما وجدوا في الـمؤسسة القومية إلا للقضاء على أفكار من هذا النوع.
العلاج:
نستخلص من كل ما تقدم أن أسباب الأزمة الـمالية في الـحزب هي:
أولاً: صعوبة تنظيم الإشتراكات الـحزبية.
ثانياً: الإختلاط في فهم القانون الـمالي.
ثالثاُ: ضعف إمكانية التسليف لأن الديون الـمتراكمة السابقة لم توف بعد.
إذاً فالعلاج واضح أيضاً بالنسبة لهذه الأسباب الثلاثة الوارد ذكرها.
أولاً: تنظيم الإشتراكات الـمركزية والـمحلية وذلك بتطبيق القانون الـمالي تطبيقاً عملياً دقيقاً بكل إخلاص وعزيـمة صادقة من قبل الـمسؤولين أنفسهم أولاً، وبإفهام الأعضاء هذه القضايا بكل صراحة ووضوح.
ثانياً: لأنكم إذا طبقتم ذلك عليكم وعلى هيئات مديرياتكم وحدها كفلتم للحركة دخلاً شهرياً ثابتاً لا يقل عن الألف وخمسمئة ليرة وأمنتم مبلغاً يكفيكم للمصارفات الـمحلية فتكونون قد وضعتم كل شيء موضعه هذا ما عدا الـمشاريع العديدة التي بإمكان حيويتكم ابتكارها.
وأخيراً أريد أن أقول أن الـمال يجب أن لا يجمع من الشعب في سبيل مشاريع وهمية تخفي وراءها غايات شخصية تبنى عليها الزعامات الفارغة فتكون النتيجة إضعاف الثقة الـمالية في أفراد هذا الشعب. أقول أن الـمال يجب أن لا يجمع ويصرف تـحت ستار دفع الكوارث فمن جمع الـمال بإسم منكوبي الزلازل في تركيا أو بإسم فقراء اليونان أو بواسطة أصدقاء الإتـحاد السوفياتي بينما شعبنا يئن ويتألم.
أريد أن أقول أن النهضة القومية التي تـمثلونها في شتى مناطقكم يجب أن تـحول هذا التيار العاطفي إلى مجاري الـمنطق والعقل في سبيل تـحقيق الـمثل العليا والغايات النبيلة لا في سبيل زلزال أو فقر أو صداقات. فمن الآن وصاعداً أنبّه القوميين إلى عدم اندفاعهم في تأييد أي مشروع من هذه الـمشاريع التي تعرض عليهم.
أيها القوميون: إن من يحس أنه يـمثل خلاصة تاريخ هذه الأمة الـمجيدة.
إن من عزم على إعادة إحياء أمته وبناء مجدها وسؤددها.
إن من وقف نفسه للنضال لتثبيت حقوق أمته القومية في السيادة والاستقلال.
إن من أقسم على تنفيذ غايات الرسالة القومية التي هي أمانة في عنقه.
إن من يريد لأن إرادته هي الـحق والقوة.
إن من قرر وعزم على السير حتى النهاية سيندفع إلى بذل الـمال في سبيل تـحقيق مثل الـحزب العليا وأهدافه النبيلة كما آمن مؤسس حزبكم فكونوا عند ظنه وظن أمتكم بكم فإلى الأمام، إلى الأمام.