رفيقيّ العزيزين فؤاد وتوفيق بندقي،
أخيراً وجدت فرصة للكتابة إليكما. وقد كان بإمكاني ذلك قبل الآن بترك أمور هامّة مستعجلة. ولكن ترك هذه الأمور يكلف القضية، وتكليفكما يظل أهون من تكليف القضية.
إنّ اتصالكما الـمباشر بـي كان لازماً منذ مـدة طويلة، خصوصـاً بعد الـمخـابـرة التي قمت بها مع الـمجلس الذي عيّنته لإدارة شؤون الـجريدة العملية فيما يختص بصفة الـجريدة وخضوعها التامّ لتوجيهات الـمراجع العليا. ولو أنكما قبلتما حينئذٍ الـمخابرة الـمباشرة بدلاً من توسيط الرفيق توما [توما] تارة وتارة الرفيق جورج [بندقي] لكانت العقد التي نشأت في أثناء سير الـجريدة انحلّت من زمان بدون حصول أزمة.
أضع أمامي الآن كتابكما الأخير والأول الـموجّه منكما الـمؤرخ في 18 يناير/كانون الثاني الـماضي، وقبل أن أتناول النقاط الواردة فيه وملاحظاتي على سير سورية الـجديدة في العهد الـماضي، أريد أن أثبت هنا تقديري العادل لـمروءتكما وإقدامكما على تأميـن صدور سورية الـجديدة من الوجهة الـمادية، فهذا العمل غير النادر الـمثيل في الـمجتمعات الواعية لشخصيتها ومصالحها العامة كان شيئاً كبيراً يدل على عزيـمة عالية وروحية مـمتازة.
ولهذا السبب حملت لكما في قلبي تقديراً كبيراً، وكنت في الـمواضع الـمناسبة أذكركما على سبيل القدوة الـحسنة. وكنت أتوقع نشوء علاقات شخصية بيننا تسهل لي توجيهكما إلى أفضل ما يـمكنكما العناية به وتـحقيقه في سبيل القضية، وتفسح الـمجال لامتزاجكما امتزاجاً أدق بالـحركة القومية ومواضيعها ومثلها العليا وبسياستها وأعمالها. ولكنكما[...]
إني قدّرت أسباب التحفظ في ذلك الوقت، فقد أسفت لفوات فرصة ثمينة لتوثيق اتصالكما بـمركز الـحركة القومية، ولم يقلل موقفكما شيئاً من تقديري لعملكما.
أخيراً نشأت العقد التي أشرت إليها آنفاً وسببت أزمة الـجريدة التي انتهت بوضعكما الأعباء الـمادية عن عاتقيكما. ومن الأمور الـحسنة التي تركتها هذه الأزمة أنكما أدركتما ضرورة الاتصال الـمباشر بـمركز الـحركة وعدّلتما تـحفظكما القديـم.
والآن أذهب إلى النقاط الواردة في كتابكما. وأولها قبول الرفيق جورج تولي إدارة شؤون الـجريدة، الأمر الذي تعدّانـه غلطاً منه وغلطاً منكما بقبوله. فأنتما تعلمان أني تركت لكما الـخيار في اقتراح الـمدير الذي تريانه موافقاً، لتكون مسائل الـجريدة الـمالية حاصلة على رضـاكما واقتناعكمـا. وماليـة الـجريـدة يجب أن يقوم عليها شخص أمين مختبر. وكل قصدي أنا من توليـة جورج هذه الشـؤون كان تأميـن الوجهة الـمالية والوجهة الـحقوقية التي تتطلبها قوانيـن البلاد، ولم يكن قط لتأميـن أعمال واسعة تقتضي وقتاً ومقدرة وخبرة وسهراً. ولـمّا كـان بعض هذه الشـروط متوفـراً في الرفيق جورج وكان شرط الإخلاص والأمانة، الذي هو أساس جميع الشروط متمماً، قدّرت أنه يـمكن سد نقص الشروط الأخرى كالوقت والـخبرة بالـمساعدة التي يقدر أن يؤديها في هذا الصدد الـمحرر الذي كنت عازماً على، وطلبت، استقدامه من الوطن ليتولى إدارة شؤون الـجريدة الكتابية وصلاتها الاجتماعية. ويذكر الرفيق فؤاد أني صرحت له قبيل سفري، يوم ذهبت للنزهة في الـمصيف خارج الـمدينة وبحضور الرفيق توما، أني لست راضياً عن السيد رشيد شكور ليتولى تـحرير الـجريدة، وأني سأطلب محرراً لها من الوطن. وحالـما تـمكنت من الاتصال بالـمركز في الوطن طلبت اختيار بضعة أشخاص ترسل إليّ أسماؤهم مع الـملاحظات اللازمة لأعيِّـن واحداً منهم، ولكن جاء نشوب الـحرب ووضع الـمراقبة على الكتب وملاحقة رجال إدارة الـحزب مانعة من تـحقيق هذا القصد. فكانت العاقبة أنّ شكور لم يـمكث طويلاً، ولم يكن كفؤاً للعمل، وحالت الـحرب دون قدوم من هو كفؤ، ووقع الرفيق جورج تـحت عبء ثقيل. فالواقـع، إذن، ليس غلطاً من الرفيـق جورج ولا منكما، بل من الظروف التي لم يكن لنا منها مهرب غير ترك العمل بالـمرّة والانتظار، ولا أخالكما تـجهلان العواقب الوخيمة للحركة من وراء الترك والانتظار.
ونشوب الـحرب بهذه السرعة والـجريدة في طور تأسيسها عطّل إمكانيات كثيرة، ومنع موارد، وأحدث خسائر كثيرة، وأوقف الـمنهاج العملي الذي كان مقرراً. ولا ننسى حادث توقيفي في سان باولو والـجريدة لم يصدر منها غير عددين والثالث تـحت الطبع. في ذلك الوقت كان موقفكما قوياً يصح أن يحسب في عداد الـمواقف القومية الـجميلة. ولكن شكور لم يكن كفؤاً، كما ذكرت آنفاً، ولم يكن هنالك غيره. وقد عطّل توقيفي إمكانيات كثيرة للحركة والـجريدة. ومـما لا شك فيه أنّ الـمشاريع الـجهادية، كمشاريع حركتنا، لا يـمكن أن تكون كالـمشاريع العادية تـحسب كل شاردة وواردة فيها وتتعيـن من قبل. فنحن في دور الـجهاد وللجهاد صدماته ومفاجآته.
مع كل ما يـمكن اعتباره في باب سير الـجريدة على غير ما كان منتظراً منكما، أي عندكما، لا أجد سبباً أو مبرراً لتدخّلكما أو تدخّل أحدكما، الرفيق فؤاد، في سياسة الـجريدة والتوغل بهذا التدخل حتى نقطة القبض على سياسة الـجريدة وإهمال الـمراجع العليا ومقاصدها وتوجيهاتها، الأمر الذي كانت له نتائج سيئة، معنوية ومادية، على الـحركة القومية. فقد صدرت في الـجريدة مقالات وصور كثيرة إذاعية، أصدرت تعليمات مكررة بوجوب توقيفها لأنها ليست من سياسة الـحزب ولا يجوز أن يحمل الـحزب مسؤوليتها. ووصل هذا الشذوذ إلى أوجه بالتدخل لـمنع نشر مقالات هاني بعل [«جنون الـخلود»] التي صدرت تعليمات صريحة بوجوب نشرها.
هذا الـموقف لم يكن معناه التدخل في مسألة بعض الـمقالات فقط، بل كان معناه اعتراض خطط الزعامة وتوقيف تنفيذ الأوامر العليا، وبالتالي العبث بالسلطة الـحزبية وخرق النظام وهو خرق لليميـن التي يؤديها السوري القومي حين دخوله الـحزب. فهذه الـمسألة خطيرة جداً جداً. وكان في الإمكان تـجنب إبلاغها هذه الدرجة من الـخطورة لو أنكما، أو أحدكما، كتبتما إلى الزعيم نفسه رأساً وأبديتما رأيكما له في الأمر،مع عدم توقيف التنفيذ،إذ لا يجيز القانون والعرف القوميان لأي عضو أن يوقف تنفيذ أوامر الزعيم، حتى ولا أوامر مرجع أعلى مختص. ولو أنكما أجّلتما النشر، على مسؤوليتكما،عدداً واحداً ريثما يأتي جواب الزعيم لكانت الـمسألة تكون محمولة،لأنّ هذا التصرف كان يتضمن الرجوع إلى الزعيم. ولكن التوقيف الباتّ الـمجرّد الذي جرى اتخذ صفة ودرجة لا يسمح النظام القومي بالإغضاء عنهما، وإلا صار القانون لغواً والنظام مرادفاً للفوضى.
إنّ جعل سياسة الـجريدة خاضعة لكما، أو لأحدكما، كانت محاولة خطرة معناها محاولة وضع سياسة مختصة بفرد أو فردين في محل سياسة الحزب، أو جعل هذه السياسة الفردية سياسة الـحزب نفسه، وقد لا يكون هذا قصدكما. وقد يكون الرفيق فؤاد وَهَم أنه يدرك جيداً سياسة الـحزب وموقفه إلى حد لا يحتاج معه إلى مراجعة مرجع عال والتقيد بتوجيهاته. وهذا غلط كبير يرمي العمل به بـمؤسسات الـحزب السوري القومي إلى الأرض.
وبهذا الـمقدار من الـخطورة أو أكثر، التصدي لـمنع تنفيذ أوامر أعلى مرجع تنفيذي وتشريعي في الـحزب السوري القومي لـمجرّد أنكما، أو أنّ أحدكما، لا تريان رأي الـمرجع الـمذكور. فلو تساهل مكتب الزعيم في هذه القضية وترك لكما وللكثيريـن، الذين ينظـرون إلى أنفسهم نظركما إلى أنفسكما في الذكاء والـمقدرة، الـحرية والـخيار في تنفيذ ما تشاؤون وإهمال ما لا تشاؤون، أكان بقي شيء من معنى السلطة في الدولة السورية القومية؟ وعلى افتراض أنّ مقدرتكما ومواهبكما واطلاعكما موازية لـمقدرة الزعيم ومواهبه واطلاعه فتبقى هنالك مسألة السلطة التي توجب عليكما مراجعته، لأنه إذا لم تكن مقدرة الزعيم إلا بنسبة مقدرتكما، على الأقل، فهو قادر أن يرى ما تريانه إذا عرضتما ذلك عليه، على فـرض أنه لم يتنبه له من قبل. وإذا كان أحد يعدّ نفسه أكفأ من الزعيم لتسيير سيـاسة الـحزب والقيام بأعباء سلطته، لاعتقاده أنّ الزعيم، ما أخذ الزعامة إلا صدفة إذ لم يكن الأكفأ منه موجودين حين تقرير مسألة الزعامة ولـمن يجب إسنادها، فهذه الـمسألة يـمكن أن تعرض على مجالس الـحزب للنظر فيها من أساسها لكي تـجري الأمور بصورة قانونية وضمن النظام. وهذا أفضل كثيراً لـمستقبل الدولة القومية، من كسر النظام بتجاهل وجود السلطـة أو بعدم اعتبار هذه السلطة التي هي سلطة حقيقية كما يجب أن تكون.
لا أريد بـما تقدم، أن أقول إنّ تصرّفكما كان مبنياً على هذه الأفكار، ولكن أريد أن أقول إنّ ما حدث من قبلكما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بـمسائل الأسس الـحقوقية والنظامية للحزب السوري القومي، وأريد أن أقول إنّ هذه الأمور لها خطورة كلية ويجب التفكير بها جيداً في كل ما له مساس بوجود الـمنظمة القومية وشخصيتها، أما قولكما في صدد ما ذكرته في كتابي السابق إليكما من أني سأنتظر انقضاء أزمة سورية الـجديدة لأتـمكن من إعطاء الـجهود الـمبذولة قيمتها الصحيحة: «فنقول إنّ هذا التقدير قد أخذناه صفعاً على وجوهنا من الرفيق جبران مسوح» فهو قول ليس في محله. فكتاب الرفيق جبران مسوح إليكما لم يكن سوى جواب كتاب منكما إليه اشتمل على أمور لم تكن منطبقة على الحقيقة وعلى الأصول، كقولكما إنكما سرتـما بالـمبادىء القومية قبل معرفتكما بأمر الـحزب السوري القومي، وإنكما اشترطتما عليّ كيفية تسيير الجريدة وغير ذلك. وقد خاطبتما الرفيق جبـران مسـوح كما لو كان طفلاً صغيراً أو تلميذاً عليكما بقولكما إنكما «تسامحانه» على تدخّلـه في أمر الدفاع عن سلطة الزعيم الذي هو حق لكل قومي حسب يـمينه، بدلاً من أن تشكراه على غيرته والثقة بحسن نيتكما التي جعلته يوجه كتابه الأول إليكما. وكل ما ورد في كتابكما إلى الرفيق مسوح قد أجابكما عليه نقطة نقطة باطلاعي وموافقتي. ولكن جواب الرفيق مسوح هو جواب الرفيق مسوح لا أكثر ولا أقل، أي أنه لا وجه يجيز لكما القول إنكما أخذتـما «التقدير صفعاً على وجوهكما من الرفيق مسوح» فتقدير الزعيم هو التقدير الذي يعطيه الزعيم نفسه ولا يكون بكتاب من أحد غيره لأحد.
كتبت لكما كل ما تقدم ليس لأفتح باباً للمناقشة والأخذ والرد. فالنتيجة التي وصلت إليها بنيتها على الاهتمام بكل ما هو حسن وكل ما هو سيّئ من الأعمال التي قمتما بها أو تدخلتما فيها. وكما أنّ تقديري لـحسن صنيعكما الأول الذي أشرت إليه في بدء هذا الكتاب لم يضع غشاوة على عيني تـجاه الأغلاط الوخيمة التي صدرت منكما فيما يتعلق بسياسة الـجريدة وبوضعها النظامي، كذلك لم تـمنعني هذه الأغلاط من إبقاء تقديري السابق لعملكما الأول والكبير في محله.
وإني أخاطبكما بصراحة الثقة بالعدل والـمحبة. وبهذه الصراحة أقول إنّ النتيجة التي أعطيها هي نتيجة نهائية من قبلي وفي كل ما يتعلق بنظام الـحزب السوري القومي، وهذه النتيجة هي: إنّ منزلة العمل الكبير الذي قمتما به كجندييـن في النهضة القومية تظل في علوّها لتشهد بحيوية عناصر أمتنا، فلا يزعزعها شيء غير جعل هذه الـمنزلة وسيلة أو مستنداً لـخرق حرمة النظام القومي، وكسر السلطة القومية، وإنزال مؤسسات الـحزب عن منزلتها، وتـجريدها من حقوقها وصلاحياتها. وإنّ الأغلاط التي صدرت وذكرتها في هذا الكتاب قد تكون بسيطة في ذاتها، ولأول وهلة، ولكنها مسّت أساس النظام القومي. وقد ظهر أنكما لم تقصدا أن يكون لها هذا الشأن. واعترافكما بهذه الأغلاط لا يقلل شيئاً من منزلتكما في الـحركة القومية. ونزولكما عند أحكام الزعيم وإرادته لا يصغركما، بل بالعكس، يكبركما أكثر ويجعلكما قدوة في الـخضوع للسلطة الـمعبّرة عن إرادة الـمنظمة القومية كلها. وهذه القدوة تـحتاج إليها الـحركة القومية الناشئة في جيل يعدّ كل فرد من أفراده نفسه بـمقام الشعب كله.
وقد قلت لكما وأعيد القول إنّ ما وجدته في نفسيكما من همّة عالية وتلبية لـمقررات الـمنظمة القومية يجعلني أثق بإمكاني الاعتماد عليكما في تأييد النظام القومي ومؤازرة مشاريع الـحركة القومية الـمعبّرة عن إرادة أمتنا وحقوقها.
ضمن هذا الإطار القومي الـجميل، لا يوجد مشكل خصوصي أو شخصي لا يـمكن حلّه بـما يتفق مع ظروف الـحالة الـخصوصية وسلامة الـمنظمة القومية، فكل أمر قد تريان فيه إمكانية إلـحاق أضرار بالغة بـمصالـحكما يـمكنكما مخابرتي رأساً به، واثقيـن من أنكما تخابران أخاً محبّاً لكما غيوراً على مصالـحكما وسمعتكما غيرته على أقرب الناس وأحبهم إليه.
وأوصيكما بـمؤازرة الرفيق [وليم] بحليس ونصحه في كل ما لكما خبرة فيه من شؤون الـجريدة والعمل للحركة. وآمل أن يستمر اتصالكما وتتوثق علاقتكما أكثر، فيصبح التفاهم أقوى وتكون النتيجة أحسن وأكبر. وأتـمنى لكما التوفيق في شؤونكما الـخصوصية وخدمتكما القومية.
عسى أن تكونا والعائلة بخير. إقبلا سلامي القومي. ولتحيى سورية.