لا نعني بجيلنا الـحاضر جيل العالم الـحاضر، بل جيلنا نحن السوريين، هذا الـجيل الغريب في هذا العصر. يـمكن تشبيه جيلنا الـحاضر بجماعة شذّت عن سنّة الارتقاء، وصارت تـمشي على أيديها بدلاً من أرجلها وتنظر إلى تـحت بدلاً من الأمام، ولأنها لا تقدر أن ترفع رؤوسها وتنظر إلى ما حولها لا تستطيع إدراك غرابة حالها، ولأنها لا تـجد حالها غريبة تأبى التصديق أنه يجب عليها أن تـمشي على أرجلها، وترفع رؤوسها لتتمكن من الإحاطة بشؤون عالـمها ومن تعيين أغراض أسمى من الأغراض الـحقيرة التي تدب وراءها.
إنّ أكبر عيوب جيلنا الـحاضر، أنَّه جيل وقح وكثير الفوضى. وسبب الوقاحة وشدة الفوضى الرئيسي، هو عدم التربية والتأديب. وعدم التربية والتأديب يؤول إلى رفض الإصلاح ومقاومة الـمصلح، وإلى احتقار الـمثل العليا وقواعد الاجتماع والاستهزاء بالتقاليد الصالـحة كما بالتقاليد الفاسدة.
تـجري في أعمال مجتمعنا اليومية حوادث تدل على هول الـمدى الذي بلغته الوقاحة ومقاومة الإصلاح، ورفض الـمبادىء الاجتماعية الصحيحة، وتبرهن على مدى قبول أفراد هذا الـجيل هذه الـحالة الغريبة، الـمنافية لقواعد الاجتماع الصحيح والـمعاكسة لتقدم الـمجتمع الإنساني وصحته وسلامته.
يطلق أب لأبنائه تصرّفهم بحرّية لا حدَّ لها، رغبة منه في تعويدهم الـحرية (وهذا غلط صادر عن نية سليمة وعدم تبصّر بالعواقب) ثم يسلّم ابنه البكر رأسماله، ومركزه الاجتماعي ويجعل نفسه خادماً لـمصلحة ابنه فيتجوّل في الولايات ضارباً في مدنها وقراها ليوصل إسم إبنه التجاري وبضاعته إلى جميع التجار الذين يـمكن الاتصال بهم، وعندما يعود إلى عائلته يجري على عادة النهوض باكراً في الصباح، والذهاب إلى الـمتجر لفتحه وإدخال الـمستخدمين، وتسييرالأعمال ريثما ينهض ابنه، صاحب الـمتجر القانوني، متأخراً بسبب سهره الليالي في أفراح الاجتماعات الليلية، ويأتي إلى الـمحل ليصرّف الأمور تصريف السيد شؤونه الـخاصة.
ويكون الأب حزيناً في نفسيته لظلمة حياة شعبه وتعاسة وطنه، ومتعطشاً إلى نهضة يقدر أن يؤمن بها ويخدمها بكل قواه وتبزغ، أخيراً، شمس النهضة السورية القومية الاجتماعية ويجد الأب الـمفكر الـحزين ضالته ومنتهى أمله، فيعتنقها بكل قواه ويناضل من أجل فوزها ويساعدها بـما يتيسر له، ولا يؤذي تقدم محل ابنه الذي كان يجب أن يكون محله هو. فتنقم زوجته وابنه عليه لأنه «يتهور في الـحزب» ويصير الابن يشكو من «إسراف» أبيه ويلجأ إلى تـحديد تصرفاته، وينتهي الأمر بأن يقول له: «ليس لك شيء في محلي، ولا تدخل بيتي ما دمت في الـحزب» فيضطر أبوه إلى مغادرة بيته.
لم يكن، عند كثير من الناس، تصرّف الابن غريباً ووجدوا غريباً تصرّف الأب الذي فضّل أن يترك بيته بسلام على أن يلغي شخصيته بالكلية ويتنازل عن عقيدته ورجولته وحرية تصرفه وعمله، حسب تفكيره الـمختمر، لـمصلحة أمته التي لا يفقه لها ابنه معنى.
ومع أننا إذا نظرنـا في تصرّف الابـن ووجدناه مسرافاً ينفق على السهرات والـملاهي والأصحاب بلا حساب. وينفق في الأسبوع الواحد على هذه الأمور الباطلة أضعاف ما ينفقه أبوه في ثلاثة أشهر أو أكثر على قضية أمته وبلاده، وإذا فحصنا كيف صار الابن تاجراً صاحب إسم تـجاري ومتجر وعملاء وزبائن، ووجدنا الفضل في ذلك كله للأب ورأسمال الأب ومركز الأب الأدبي والاجتماعي، فإننا نرى أنه يصعب كثيراً على الناس أن يقولوا هذا عقوق لم يسمع به من قبل وانقلاب في الأمور لا يـمكن أن يؤول إلى فلاح.
لا يرى الناس في هذا الـحادث ومثله أنّ الـحالة مقلوبة عن وضعها الطبيعي، ولا يقولون إنّ من حق الأب الـمفكر الـمختمر أن يراقب تصرفات ابنه وإسرافه ويقيّد تبذيره في أمور لا فائدة للمجتمع فيها ولا للعائلة ولا للصحة الـجسدية والنفسية، وإنّ الابن يخطىء كثيراً في غمط حق أبيه والتطاول على منزلته وحريته وكرامته ومحاولة تـجريده من حقوقه الـمدنية والسياسية وتقييد أفكاره وتصرفاته في أمور يجهلها الابن كل الـجهل. كلا، لا يرى الناس شيئاً مقلوباً ولا حالة شاذة، بل يلومون الأب كيف يقبل «الاختلاف مع أولاده من أجل حزب.»
كل الـمبادىء والقواعد الاجتماعية والعائلية تصير تـحت الأقدام متى قام قائم الانفلات من الـمبادىء والقواعد والنظام.
الـمسألة للذين يجهلون قيمة القومية والوطنية وشرف الـجنس هي مسألة تافهة تتلخص في هل يكون الـمرء مع عائلته أو خارجاً عنها. فلا حق رجولة وأبوة هناك، ولا حرية أخلاق ولا مبادىء عدل، ولا نظام حقوق وواجبات. وكل من يذكر أفراد العائلة بفساد خطتهم تـجاه رب العائلة هو غلطان ورجل سوء.
كما تـجري حوادث عقوق من الأبناء نحو الآباء، تـجري في مجتمعنا حوادث ظلم من الآباء على الأبناء. والنهضة القومية قد سجلت حوادث كثيرة ظلم فيها آباء أبناءهم وحاولوا حرمانهم من حق الشخصية وحرية قبول أفكار وتعاليم جديدة لـجهل الآبـاء، غير الـمتعلميـن وغير الـمتنـوريـن، حقيقـة تلك التعاليم وأهميتهـا. وكثير من الرفقاء القوميين الاجتماعيين اضطروا لـمغادرة بيوتهم والانشقاق عن آبائهم من أجل الاحتفاظ بحقهم في النمو الشخصي وقبول الـمبادىء والتعاليم الـجديدة الرامية إلى إنشاء مجتمع أفضل ورفع الـحياة إلى مستوى أكمل وأجمل.
جميع هذه الـحوادث التي يـمكن أن نعدّد منها ولا نستطيع عدّها كلها ترينا جهالات جيلنا بأقبح صورها وأغرب حالاتها.
في جيلنا فوضى غريبة، ليس فقط في الأفكار والـمعتقدات السياسية، بل في الأوليات الاجتماعية والـمبادىء الـمناقبية. وفيه غلظ وقسوة وجهل ورعونة وإنكار للحق العام والـحقوق الشخصية. ومن غريب أمره أنه لكثرة تفشي الاستبداد الفردي فيه يرفض الإصلاح ويتّهم الـمصلح بالطغيان والظلم وغير ذلك من العيوب التي يـمارسها هذا الـجيل كل يوم، ولا يراها عيوباً ويرى العيب في محاربتها ومحاولة إزالتها.
التخبط يشمل كل فئة من فئات جيلنا الـحاضر. واصطدام النهضة القومية الاجتماعيـة الـمنظمـة بهذه النفسيـة هو حادث طبيعي. ومهما يكن من أمر هذا الاصطدام وشدّته فهنالك حقيقة أساسية لا يـمكن إنكارها ولا يحسن تـجاهلها وهي: أنّ هذا الـجيل سيذهب أما النهضة فستبقى.
متى انتصرت النهضة السوريـة القوميـة الاجتماعيـة انتصارها النهائي نشأت أجيال سورية جديدة بـمناقبها وأخلاقها، وحلّ التقدير والاحترام والـمحبة للحقوق والرجولة والـحرية محل الاحتقار والازدراء والكره لهذه الأمور السامية.