إلى السيد جميل شوحي الـمحترم
سانتياغو - شيلي
أيها الـمواطن العزيز،
وقد كدت أقول أيها الرفيق، كما أحببت لك، ولكني رأيت لهجة كتابك الأخير لا تفسح الـمجال لهذا الاستعمال، مع أنّ ما ورد في مقال الزوبعة لا يـمنعه. فأنت، قانونياً، لا تزال عضواً في الـحزب، ولكنك اخترت اللهجة الـحرة استناداً على ما ورد في الزوبعة، ولست أرى بأساً في مجاراتك في هذه اللهجة.
إن اللهجة الواردة في كتابك الـمذكور الـمؤرخ في 29 أكتوبر/تشرين الأول 1943 تـجيز الإهمال الكلي، ولكني اخترت الـجواب لإصلاح بعض اعتقادات سوّلت لنفسك بناء أحكام عليها. وأبدأ من حيث بدأت أنت.
الأمانة في الرواية: تقول «حيث لا يوجد أمانة في الرواية ويكثر التحريف والـمبالغة بقصد التزويف (أي التزييف) لا مجال للجدال مع نفس الكاتب العارف بالـحقيقة. والـحقيقة هي تـحاريري الـموجودة عندكم الـمسندون عليها الـمقال ويكفي أن تراجعوها حتى تروا أين فيها قولي إنني (أحتاج للمواظبة في سبعة محافل)». وأقول إني راجعت رسائلك ووجدت أنه يوجد غلط في عدد الـمحافل فهي ثلاثة بدلاً من سبعة. وهذا نص كلامك في كتابك إليّ الـمؤرخ في 5 أكتوبر/تشرين الأول 1942 «العَرْقُولَة الأولى التي صادفتني هي عدم تـمكني من الانسحاب ولا من عمل من الأعمال العديدة التي هي على عاتقي في الـجمعيات الأخرى. فأنا أمين صندوق جمعية استر ثورز تشيلي، ومدير في الكولوكو ناد لكرة القدم، ورئيس حلقة أصدقاء الثقافة العربية، وعضو عامل وشرفي في الكوريو ده بومبيوس، وأخ مؤسس في ثلاثة محافل ماسونية كل منها يجتمع في يوم، الخ.» وإذا رأيت أنّ الغلط في عدد الـمحافل يعتبر «عدم أمانة وتـحريف بقصد التزويف» فلا يكلّف كثيراً تصحيح هذا الغلط في الزوبعة وإيراد نص كلامك وأخذ صورته بالزنكوغراف. ومع ذلك فإني أشك كثيراً في أنّ أهل النظر والإدراك الصحيح يوافقونك على أنّ هذا الغلط العددي البسيط يجيز لك استعمال هذه التّهم الضخمة، «عدم الأمانة في الرواية وتـحريف بقصد التزييف» وشتّان بين مرارتي منك ومرارتك مني.
تذكيرك ببعض النقط: تورد في تذكيرك أشياء تناقضها عبارات في رسائلك السابقة إليّ. فأنت تقول في كتابك الأخير: «تـمنعت (أي عن الدخول في الـحزب) لا لعدم اقتناعي بجودة مبادئه بل لـمعرفتي الـحقيقية بانتهاك قواي وعجزي عن خدمته كما تقتضيه الأحوال والظروف.»
وفي كتابك إليّ عينه الـمذكور آنفاً تقول في غير موضع واحد: «إني لا أعرف القنوط ولا اليأس ما دمت لا أستند إلا على حقائق راهنة... وبهذا الاعتراف أسحب كل ما كتبت لك سابقاً عن انحراف صحتي ولم تكن تلك الـمعلومات إلا علامة الضعف الـمخجل الذي شعرت به في تلك الدقيقة. وأنا سوف أحاول بكل الوسائط أن لا يعود يتسلط عليّ ولا ثانية ما دمت حياً..»، وثق أيها الأخ الـمواطن أني صدّقتك حين أبديت عجزك الصحي، ثم عدت فصدّقتك حيـن سحبت كلامك السابق في هذا الصدد. ولكن لم يـمض على كتابك الـحامل هذه العبارات القوية، الـمبشرة بـمستقبل حسن للعمل القومي من قِبلك، سوى ما يزيد أياماً قليلة عن الشهر الواحد حتى ورد كتاب استقالتك مؤرخاً في 18 نوفمبر/تشرين الثاني وفيه تقول في مستهله: «.. ومن الضروري أن أطلعك على هذه الـحالة وهذا العجز رغماً عن محاولتي إقناع نفسي أولاً وظني الـحصول على القوى اللازمة بجمع ما بقي في خبايا روحي وقلبي من الـحماس الوطني والإيـمان الـحار في مواطني أيام الصبا. والآن أدركت أنّ كل هذا لم يكن إلا صدى اللاشيء. وإنني قد شعوذت على نفسي وبحسن قصد كذبت عليك». ثم تقول «قواي كلها مبعثرة، وإيـماني ضعيف متراخ إلى اللانهاية، وروحي ومخيلتي مؤخذتان بنقاط وخيالات، بـما أنها خيالات هي وهمية وأنا مؤخذ ومولع اليوم بالـخيالات والأوهام البعيدة عن هذا العالم، الخ.» هذا النقص الأخير غير الـمقتصر على الـحالة الإرادية أو الـجسدية والشامل الـحالة الروحية عينها أزال الثقة، التي كانت آخذة في الازدياد بعد مظهر النشاط الروحي السابق، وذهب بكثير من التقدير لك، الذي أردت من كل قلبي أن يعلو يوماً بعد يوم، وأن لا ينحصر ضمن حدود تشيلي.
إني أفهم الآن من كتابك الأخير، حالة أنت مسؤول مناقبياً وقانونياً عن كتمان تفاصيلها. وهذه الـمسؤولية تستحق الإحالة على الـمحاكمة بدعوى «كتمان معلومات» عن الـمراجع العليا يجلب كتمانها أضراراً غير قليلة.
لم أتوانَ قط في تنبيهك إلى ضعف بهجت [بنوت]، وخشيتي من عدم أمانته في الـمسائل الـمالية، ولكنني وضعت تنبيهي بصورة لطيفة، لأني لم أكن أعلم إلى أي حد يريد أن يتمادى في خروجه على الأصول. وأنا من هنا رفضت إعطائه وكالة الزوبعة كما طلب، لأنه مع أمانته للعقيدة والـحزب، لم يبرهن عن كفاءة عملية وأخلاقية في تصرفاته الـخصوصية ومعاملاته. ولو أنك استشرتني أو أطلعتني على مساعدتك التجارية له أو عزمك عليها، لكنت أبديت لك رأيي صراحة في أمره وفي هذه الـمسائل بصورة عامة، لكي تكون هنالك قاعدة تتّبع تصون الـحقوق الفردية وتـحفظ النظام الـحزبي وتفصل بين قواعد العمل القومي الاجتماعي والأعمال الـخصوصية. وكثيراً ما صرّحت في شروحي الكلامية لليميـن الـحزبية أن نص الـمساعدة فيها لا يشمل الـمساعي التجارية ومضارباتها. فالرفقاء غير مكلفيـن إلا بـمساعدة الرفيق الـمحتاج الـمساعدة الـممكنة في إطعامه إذا كان جائعاً وفي تدبير نفقة انتقال إذا كان ذلك لغاية تـحسين الأحوال، وفي إيوائه بعض الوقت إذا لم يكن له مأوى وكانت حاجته إليه ماسّة.
أما من كان عالة على الـمجتمع فتنظر في أمره مؤسسات خاصة، ومن أراد الـمغامرة التجارية فليس أحد مكلفاً بدفع ثمنها عنه وحمل مسؤولياتها. وكنت أضرب مثلاً عقلية كثير من الـماسونييـن في هذا الصدد الذين يتخذون الـماسونية وسيلة للحصول على مساعدات مالية للتجارة وعلى تأييد في الـمحاكم وغير ذلك. إني بصفة شخصية ألومك على عدم إطلاع الزعيم على حالة بعض الرفقاء. وكتمانك مهما كان سببه الشخصي، لا يبرر تـجاه خير الـحركة وسلامة العمل القومي. وهذا عيسى حلبي قد صار هنا في بوينُس آيرس وعدم معرفة أمره يسهِّل له أن يلعب مثل الدور الذي لعبه معك في تشيلي. ولو أنك أطلعت الزعيم حالاً على هذه الأمور لكان دبّر وضع حد لهذه الـمسائل الشائنة الضارة بالقضية. ولا أوافقك على قولك: «وعندما أدركت أنّ وجودي بالإدارة يجلب أضراراً أدبية جمة على الـحزب بقطع النظر عن الأضرار الـمادية لي، قدّمت لكم استقالتي.»
فاستقالتك لا تضع حداً لأضرار أصحاب الضرر بالـحزب، وكتمانك الأسباب الـحقيقية يزيد الضرر وإمكانياته ويضاعفه. والزعيم أحق أن يطّلع على هذه الأمور قبل «كثيرين هنا» أي في تشيلي، لا بل كان الأوْلى كتمانها عن الرفقاء وباقي الناس ريثما يكون اطّلع عليها الزعيم وأعطى تدابيره في صددها. ويغلط من يظن أنه يجب «أن لا يعكّر خاطر الزعيم» بـمثل هذا الـمسائل لأنها خطرة في حالة جيل كجيلنا وفي فرع ينشأ حديثاً ويحتاج إلى أساس متيـن. والزعيم أوْلى من أي موظف كان بـمعرفة هل الاستقالة خير دواء لـمعالجة داء. وكان الإخلاص والنزاهة يقضيان بوضع الـمسألة في يد الزعيم فتكون درساً وقاعدة.
إذا كنت ضعفت وقلّ إيـمانك، أو زال، تـجاه هذه الـحوادث، فماذا كنت تفعل لو كان حلّ بك جزء يسير مـما أعانيه باستمرار. أتعلم أنّ «رفقاء» هنا أرادوا أن يـمنعوا الزعيم من الزواج، وأعلنوا الـخروج عليه لأنه تزوج؟ أبلغ سمعك وقاحة وإهانة للصفات الإنسانية أعظم من هذه . وهنا أيضاً حدثت حوادث كالتي ذكرتها وتضرر منها بعض الرفقاء والأصدقاء، ولكننا لم نتخلّ وعالـجنا الـحالة وتغلبنا عليها. والضرر كان معظمه ناتـجاً عن عدم إطلاع الإدارة على الـحوادث الـجارية. وكنت أتوقع أن لا يترك رجل مثلك مسؤولياته الـجديدة ويدع الفوضى تتفشى، خصوصاً وأنت تقول إنك خبرت الشعب وفهمته.
وأعود فأقول إني كنت أتوقع منك، وأنت كاتب، وقد أدركت خطورة القضية وقيمة مبادئها، أن تعمل للإيـمان الـجديد كما كتبت إليك، ولكنك فضّلت متابعة كتاباتك في مسائل أخرى. إنّ «مذكراتك» قد تكون الـمؤلَّف الوحيد الذي يستحق أن تخصص له عناية أولية في مشاريعك الكتابية. ولكن بعد اعتناقك الـمبادىء القومية الاجتماعية، صار ينتظر أن يصير تفكيرك منطبقاً على جوهرها ومثلها وغاياتها وأن تظهر روحها في كتاباتك.
أما ما يقوله الناس في سبب مقال الزوبعة[1]، فهو من طبيعة الأقاويل التي يـمكن بسهولة تـمحيصها وإظهار صحيحها من مفاسدها. وفي كتابك إليّ يوجد قول يغنيني عن الإسهاب في هذا الـموضوع وهو: «لا يوجد عمل ولا كتابة ولا قول في العالم مهما كان نبيلاً لا يقبل التحويل من حسن إلى سيّئ باستعمال التحريف والـمبالغة. النيّات تقدر على كل شيء عندما تخلو من النزاهة والأمانة والـجرأة.» فأنا أوافق على القسم الأساسي من هذا التعبير، ولكني أقول إن تشويه الـحقائق لا يغلب الـحقائق نفسها. خصوصاً متى وجدت نفوس ترغب في الـحقيقة وتصمم على رفع الـحق وخفض الباطل. ولا أظن أنّ رجلاً واحداً صحيح الإدارك يعتقد أنّ زعامة الـحزب السوري القومي الاجتماعي قامت «بحرق البخور والـمديح والإطراء على مذبح الزعيم» لا بالإنشاء والـجهاد والتضحية والـمقدرة. أما الأموال فكان يـمكن أن تتدفق على الزعيم تدفقا لو شاء الزعيم أن يكون من نوع الـمتزعميـن الذين خبرتهم الأمة. وأما السفر إلى تشيلي فليس رغبة خاصة بأنطون سعاده في هذه الظروف، ولا طلباً لـمنفعة خصوصية. فالـمنافع الـخصوصية موجودة لأنطون سعاده هنا وفي كل مكان، ولا تـحتاج إلا إلى تنازل أنطون سعاده لقبولها. ولتحيى سورية.