عندما رأت الزوبعة أن تردَّ على ترهات صاحب جريدة السائح وتكشف القناع عن حقيقة ما صارت إليه تلك الـحلقة التي عرفت باسم «الرابطة القلمية» في نيويورك لكي لا تظل جماعات كثيرة منخدعة بها، وكان ذلك أمراً ضرورياً جداً ليس فقط للنتيجة الـمباشرة، بل لـما يـمكن أن يتلوها من النتائج التي تكون النتيجة الأولى الـمباشرة تـمهيداً ومقدمة لها، ورد على الإدارة كتابان من رفيقين متقدمين في الصفوف القومية فيهما ما يـمكن أن يُعَدَّ فصلاً جديداً من فصول الـحملة على هذه الأبحاث. وإلى القارىء ما ورد، في هذا الصدد في أحد هذين الكتابين:
«عندما بدأت الزوبعة بنشر الأبحاث القيّمة الأخيرة، التي أخذت فئة «الرابطة القلمية» مثالاً آخر لتجار الأدب السوري شعرت أنه من واجبي تقديـم رأيي الـخاص وما أسمعه من الأوساط السورية عما يتعلق بهذه الأبحاث.
«وبديهي أنّ إعجابي بهذه الدروس لا يفوقه إعجاب ليس لأني صرت أفهم أنّ معظم أمراضنا الاجتماعية، وبالتالي السياسية، تعود أسبابها إلى هذه الفئة الـمـنحـوسـة، فقـط، بـل لأني أؤمـن إيـماناً حياً بثقابة نظر الزعيم وسهره على الـمصلحة السورية وخبرته في معالـجة الداء.
«وإذا قدمت رأيي ونقلت أقوال سواي فما ذلك إلا لأني أعرف أنّ حضرة الزعيم يريد أن يعرف كيف تنزل هذه الـمقالات على مختلف طبقات شعبه فيعالج فيهم عدم الإدراك حتى يكون تفهمهم للأمور تاماً كما يلزم.
«أعود فأقول إنّ إعجابي بهذه الدروس لا يناله وصف، ومقدرة حضرة الزعيم على استخراج العبر، حتى من الأمور التي ظاهرها بسيط، تـجعلني أن أقول ويل لـمن لا يفهم سعاده وطوباك يا سورية إذا تفهّم بنوك تعاليم سعاده وعملوا بها.
«لكن ما أشعر به، يا زعيمي، هو أنّ هذه الأبحاث الـمتتابعة أظهرت الكثير من أمراضنا وصرنا نكاد لا نرى من سورية غير وجهها العليل. أفليس لسورية وجه حي؟ أين هو وكيف نراه؟
«نحن نعلم ونؤمن أنّ رسالة سعاده هي رسالة بنيان وحياة لا رسالة هدم وموت. ومع علمنا أنه لا يقوم جديد موضع قديـم دون دكّ هذا، نشعر أنه من الأحسن أيضاً أن نتحـدث عن البنيـان الـجديـد، القائم على أسـاس لا تدكه هستيرية «القروي» ولا بلاهة الـحداد، ولا سفالة وانحطاط أبي ماضي.
«لقد قال لي أحدهم - «إذا كان الشعب السوري كله على هذا النمط، والظاهر أنه كذلك، فماذا ترجون من هذه الأمة وأي مستقبل تنشدون لها؟ ألستم تقتلون أوقاتكم بدون أمل ورجاء؟»
«وأنا أشعر أنّ الأمة ليست كلها «على هذا النمط» وأنّ في النهضة القومية براهين متعددة على ذلك. لكن أين هذه البراهين والـحوادث والـجماهير من الشباب الـحي الناهض لا نقدمها للمهاجرين حتى نبعث فيهم الأمل بـمستقبل أمتهم. لـماذا لا نعطيهم من صور الـحياة السورية ما يحبّب إليهم الـحياة السورية؟
«إنّ آخر ما طلع به «الـمعتدلون» هو أنّ مبادىء سعاده مـمتازة، وشخصية سعاده مـمتازة، وتنظيم سعاده مـمتاز، وإخلاص سعاده وتضحيته وسعيه لا غبار عليها، لكن الشعب لا أمل فيه. وبعض هؤلاء العلاكين يستشهد بأقوال الزوبعة لأنهم لا يرون في الشعب السوري غير الفئة الـمنحطة التي تـحاربها الزوبعة.
«من بإمكانه أن يتحدث للسوريين عن نهضة سورية القومية ويذكر لهم الـحوادث والأسماء أكثر من الزوبعة؟ من بإمكانه أن يدل الـمهاجرين على نبض سورية وقلبها وعقلها غير الزوبعة؟ لـماذا لا نقدم لهم أكثر من هذه الأبحاث والدروس والصور؟
«هذا رأيي وبعض ما أسمعه في الأوساط السورية أقدمه بعامل الإخلاص فقط ليكون زعيمي مطّلعاً على كل شيء. وإذا كنت غلطاناً فإني من كل قلبي أحب أن لا أبقى على غلطي.»
لو لم يكن هذا الكتاب من أحد الـمسؤولين عن بعض الفروع والذين يُنتظر من روحيتهم شيء فعلي لتقدم الـحركة لكان الأرجح أن يكون الزعيم قابله بتلك الابتسامة الهادئة الـمحيرة التي وصفها وصفاً جيداً صاحب الصحافي التائه [إسكندر الرياشي] في سلسلة الـمقالات الروائية التي نشرها في جريدته في بيروت على أثر ظهور أمر الـحزب السوري القومي، وأجاب عليه مثنياً على روحية الكاتب ودقة نظره ومعتذراً عن تطويله في الأمور التي انتقدها الكاتب بهذا الأسلوب اللطيف.
ولولا طول أناة الزعيم، والكتاب من أحد الـمسؤولين، لكان الأرجح أن يكون جوابه هكذا:
«حضرة الرفيق والصديق الـمحترم
«إني أشعر أنّ الإدارة الإذاعية وغيرها من الشؤون، كالـمسائل النفسية العامة والعملية، أصبحت تـحتاج لـمقدرة فوق مقدرتي ولنظر أبعد من نظري، فأقترح عليكم، أن تختاروا مديراً لهذه الأمور يحل محلي. متعهداً لكم وله أني أجعل فكري وقلمي رهن إشارته وأن أتفرغ لـجميع الأعمال الكتابية التي يكلفني القيام بها على قدر ما تترك لي أعمالي الـمعاشية من الوقت للقيام به. فأكتب في كل موضوع يأتيني أمر أو توجيه للكتابة فيه. وأقبل تعيين عدد الـمقالات التي يجب أن تكتـب في كـل موضوع، ولا أتدخل في شيء من أمور الطباعة والنشر والتوزيع، ولا أحمل شيئاً من مسؤولية النتائج والعواقب الناتـجة عن سياسة الإدارة الإذاعية، وأتـحمل تـجاه الـمراجع العليا مسؤولية كل عبارة أكتبها وأقبل كل تعديل تشير به هذه الـمراجع. فإذا لاقى اقتراحي هذا قبولاً عاماً كنت سعيداً بالرضى العام عني وبارتياح ضميري لعمل الصالح للقضية. وتفضلوا بقبول جزيل احترامي وسلامي. ولتحيى سورية.»
لكن الزعيم لم يعمل بأحد الوجهين وكتب إلى الـمسؤول صاحب الكتاب لافتاً نظره إلى واجباته الـمهملة وإلى أغلاطه النظرية، متحملاً بصبر هذه الـجهود الإضافية التي يكلفه إياها الرفقاء، وسببها عدم إحاطتهم بالـموضوع، وقلة اختبارهم في الأعمال النظامية، وعدم إلـمامهم بشيء من أشياء «الـمتدلوجية» والتنظيم في الـحركات العمومية.
وإننا نعود إلى هذه النقاط ونعالـجها من جديد ونشرحها على صفحات الزوبعة، لتكون دروساً نظرية وعملية مفيدة ولاكتساب الوقت، فلا نعود إلى كتابة كتب خصوصية في هذه الـمسائل، تستغرق مثل الـمجهود الذي يقتضيه إنشاء مقالات الزوبعة ويكون فيه إرهاق لقوى فرد واحد يقوم بأعمال لا يـمكن ولا يفيد الفائدة اللازمة أن يقوم بها فرد واحد.
في الدرس الـمنشور، في العدد السابق، إشارة إلى سوء نتائج صرف وقت طويل وجهود كثيرة في هذه الـمراسلات الـخصوصية في مسائل يجب أن يترك النظر فيها لصاحب الشأن الأعلى. ولكن الرفقاء الـمراسلين يكلفون الزعيم شرح خططه ونظرياته لهم تكليفـاً. فعبـارة صاحب الكتاب الذي أثبتنا منه الفقرات الـمتقدمة «وإذا كنت غلطاناً فإني من كل قلبي أحب أن لا أبقى على غلطي» توجه إلى الزعيم دعوة للجواب على رأي الكـاتب وانتقـاداته الـموضوعة في قالب تساؤل. وفي كتاب آخر للكاتب نفسه يتحـدث الـمـراسل عن صديق ورفيق له يرى رأيه في هذه الـمسائل أنه قال له: «إنّ حضرة الزعيم يرى ما لا نراه في هذه الأمور ولا شك في أنه سيشرح لنا نظريته.»
إذاً الرفيقان الـمكاتبان يعتقدان أنّ الزعيم يرى ما لا يريانه هما في هذه الأمور، فلماذا هذه الـمناقشة الـحارة والـمطالبة الـمستعجلة بالشروح والتفاصيل لهما، من غير نظر في الظروف الـحرجة الـمحيطة بـمكتب الزعيم الـخالي من نواميس وكتبة تتوزع عليهم الأعمال الكثيرة الواجب القيام بها لسير الـحركة؟
نفترض أنه يوجد في البرازيل ستة أو ثمانية أشخاص من نوع هذين الرفيقين، يحبّون أن يبدي لهم الزعيم رأيه ويشرح نظرياته في كتاباته وخططه وسياسته، وأنه يوجد مثل هؤلاء أربعة في الأرجنتين، وثلاثة في شيلي، وخمسة في الـمكسيك، وستة في الولايات الـمتحدة، وواحد في الأكوادور، وواحد في جزائر الكنار، يريدون مراجعة الزعيم ومناقشته في الشؤون الإذاعية أو غيرها، مـما هو من صلاحيات الـمراجع العليا، فكم هو العبء الذي يلقى على دماغ الزعيم الـمعروف عنه أنه غير بخيل في الكتابة إلى رفقائه؟ هذا فضلاً عن طائفة الـمكاتبات الـخصوصية التي ترد الزعيم في شؤون ومسائل أخرى، وفضلاً عن الرسائل الإدارية والـمقابلات الشخصية التي يجب أن يتسع لها وقته، وفضلاً عن إنشاء الزوبعة وإدارتها عملياً وغير ذلك كثير من الـمسائل التي يزحم بعضها بعضاً في مكتب الزعيم.
نعود إلى الفقرات التي نقلناها من كتاب الـمراسل الـمسؤول. فبينما الكاتب يضع شكوكه في صواب اهتمام الزوبعة بأمر «الرابطة القلمية» وانتقاداته لنهج الزوبعة الإذاعي في شكل «معلومات» لا يتمالك من حض الزوبعة على تغيير نهجها وإعطائها التوجيهات التي يحسن بها العمل وفاقاً لها. والواضح من مجمل آراء صاحب الكتاب أنه لم يستصوب إيضاح الزوبعة حالة «الرابطة القلمية» في نيويورك وأنه يظن أنّ من الواجب عليه تنبيه الزعيم إلى هذا الغلط ولفت نظره إلى مبلغ الـحاجة إلى الأبحاث التي تكشف عن عظمة مستقبل سورية في الـحركة السورية القومية الاجتماعية. والظاهر أنّ الكاتب لا يريد أن يكلف نفسه حساب أنه لا بد أن تكون عند الزعيم أسباب موجبة، وأنه إذا كان الأمر كذلك فمبدأ الثقة والروحية القومية العالية يوجبان عدم تعكير خطط الزعيم بكثرة الأسئلة. أما الـمعلومات فليست هذه طريقة إيرادها. فالشيء الوحيد، من باب الـمعلومات، الذي ورد في الفقرات الـمثبتة آنفاً هو قول «أحدهم» «إذا كان الشعب السوري كله على هذا النمط، والظاهر أنه كذلك، فماذا ترجون من هذه الأمة وأي مستقبل تنشدون لها؟ ألستم تقتلون أوقاتكم بدون أمل ورجاء؟» وهو وارد في معرض الاستشهاد على صحة رأي صاحب الكتاب في ما كان الأفضل أن تعنى به الزوبعة من الأبحاث.
في رأي إدارة الزوبعة، من حيث هي مؤسسة مهمتها ليست منحصرة في تقديـم الإنتاج الفكري القومي الاجتماعي وأخبار الـحركة القومية الاجتماعية، بل تتعداها إلى «شق الطريق للفكر القومي الاجتماعي وإزالة الـحواجز القائمة بين هذا الفكر والشعب.» إنّ الكاتب ليس على صواب في رأيه، لا نظامياً ولا فكرياً.
لو تـمعّن الـمنتقد في الـحركة القومية الاجتماعية كلها وكيفية نشوئها وتغلبها على الصعوبات وحقق في خطتها، لوجد أنّ السبب الرئيسي، في كل ذلك، عائد إلى هذه الـحقيقة الواقعية التي أصبحت قاعدة - إنّ نظريات الزعيم وخططه، فضلاً عن تعاليمه، كانت كلها مخالفة لـما كان منتظراً ومقبولاً أو معقولاً عند غيره فجاءت نتائج تلك النظريات والـخطط فوق ما كان منتظراً ومعقولاً. وهذا برهان كاف لتأييد رأينا أنه كان الأفضل للمنتقدين والـمجادلين لو اكتفوا بأخذ النتائج والاستفادة منها لتقوية الـحركة، بدلاً من التوجه إلى الزعيم بهذه الروحية الـمشككة، التي ليست روحية الـجندي تـجاه القائد، ولا روحية التلميذ تـجاه الـمعلم، والتي تكاد تقلل ثقة الزعيم بالعناصر العاملة معه وتكاد تثبط عزيـمته.
إنّ من يقول: «إني أؤمن إيـماناً حياً بثقابة نظر الزعيم وسهره على الـمصلحة السورية وخبرته في معالـجة الداء» لا ينتظر منه أن يبدي فيما يلي من كلامه هذه الشكوك، بل ينتظر منه أن تكون ثقته غير متزعزعة، وأن يعلم أنه لا بد أن يجيء بعد الدك والهدم البناء والتشييد. أما متى يكون ذلك وبعد كم درس وكم مقالة فأمر يتعلق بالتقديرات التي هي عند الزعيم شيء وعند غيره شيء آخر؟ وما هي الضرورة الـملحّة للعجلة في إنشاء الأبحاث الأساسية عن الـحلول الاجتماعية والاقتصادية التي تقدمها النهضة؟ هل يظن الكاتب أنه لو نشر الزعيم سلسلة مقالات، نفترض أنها عشرون أو خمسون مقالة، لَبَعثَ في الـمهاجرين الأمل بـمستقبل أمتهم ونهضوا يؤيدونها ويعززونها روحياً ومادياً، ويتبرعون لها بالأموال حتى تفوق ما يتزلفون به من الـمبالغ الـمالية إلى دول مهاجرهم، فتنشأ مؤسسات الإذاعة العديدة بـمختلف اللغات، وتتعين الـمقادير الـمالية لتغطية نفقات السفراء والوفود والسعاة، وتفتح الاعتمادات الكبيرة لـمختلف أنواع التجهيز، ويتمكن الزعيم من تـحويل كل قواه إلى الـمسائل السياسية الكبرى، في هذه الظروف الـمليئة بالصعوبات وبالـممكنات، ويجهّز مكتبه بالنواميس والكتبة، ويتمكن من تنظيم الـمؤتـمرات في الـمهجر لوضع أفضل البرامج العملية والقيام بأعظم الـمساعي للاستفادة من الظروف ووضع القضية السورية في الـمساق الإنترناسيوني؟
ألا يظـن الكـاتب الانتقـادي أنه بعـد أن يـكتب الـزعيم خمـسين مقالـة في الـمسائل الاجتماعية والاقتصادية سيسمع «أحدهم» يقول - «الآن شبعنا من حلولكم الاجتماعية والاقتصادية فأخبرونا عن نظرياتكم الـحربية. وبعد كتابة خمسين مقالة في النظريات الـحربية يقول «أحدهم» - «هاتوا الآن ما عندكم من الوجه السياسي»، وبعد كتابة عدد من الـمقالات يقول «أحدهم» «أخبرونا الآن عن تـجهيزاتكم الكيموية»، ثم يأتي «أحدهم» قائلاً - «وما هي نظرياتكم في الفلك وفي تأثير الأشعة الكونية على الأجسام ونـموها»، ثم يذهب «أحدهم» ويجيء «أحدهم» قائلاً - «ما الفائدة من جميع هـذا النظـام البديـع وتوحيد هذه الـمواهب السورية الكبيرة وبريطانية وأميركانية ستعطيان سورية لليهود إذا ربحتا الـحرب. وإذا لم تربحا وانتصرت ألـمانية وإيطالية فلا شك أنّ مصير سورية سيكون في قبضة إيطالية أو إيطالية وألـمانية معاً؟»
ألم يسمع الناس أنّ للزعيم مؤلفاً هاماً اسمه نشوء الأمـم فهل يهتمون بالاطلاع عليه؟ ألم يقرأ الـمهاجرون في سورية الـجديدة وفي الزوبعة من الأبحاث والـحوادث الباعـثة الأمل ما كان يكفي قليل من مثله لتحريك حتى اليهود؟ وإذا كان «أحدهم» ميت الوجدان وعديـم النخوة وفاقداً قوة التمييز إلى حد أنه لا يدرك أنّ وجود حركة جديدة آخذة في هدم نفسية قديـمة عامة بكاملها هو في حد ذاته، دليل قاطع على أنّ الأمة ليست «كلها على هذا النمط» وأنّ فيها روحاً جديداً يريد أن يقضي على هذا النمط الزري.
ألم يكن الأجدر بـمنتقد الزوبعة أن يقول لذلك «الأحدهم» - «حطِّط عن جحشك» ودع الشعب والـحكم على الشعب لـمن له ذلك وأجب عن نفسك أأنت ميت أم حي؟ مع الأحياء أنت أم مع الأموات؟» بدلاً من أخذ قول ذلك «الأحدهم» حجة على مواضيع الزوبعة؟
إنّ تغييـر عقلية شعب أو مجموع من شعب لا يكون بترك بعض الـمواضيع والاهتمـام بـمواضيع أخرى في جريدة تصدر مرتين في الشهر فقط، يكتب فيها صاحبها وكاتب آخر، وتأتيها كتابات شعبية بين الفينة والفينة. إنّ تغيير عقلية شعب هو عملية طويلة. وفي الـمنظمات يجب أن تكون الـمعالـجة منظمة، فمتى رأت الإدارة العليا وجوب هدم حاجز وجب على كل عضو من أعضاء الـمنظمة القيام بنصيبه من عملية الهدم ليتم ذلك سريعاً ويكون كاملاً لا قيام له بعده. ومتى رأت الإدارة العليا أنه يجب بناء جدار أو حاجز وجب على كل عضو أن يقوم بنصيبه من عمل البناء، فواحد يأتي بالطين أو السمنت وآخر يأتي بالـحديد وغيره يقتلع الـحجارة وغيره يقطعها وغيره يشذبها وغيره ينحت أطرافها وغيره يجر العربة وآخر يرفع الأثقال وآخر يقدم الطعام، وكل ذلك بنظام في خطة مرسومة. أما أن يقوم فرد واحد بالتخطيط وبالهدم وبالتعمير والآخرون يساعدونه بالآراء والانتقادات والنصائح والتمنيات، بينما الـمعاكسون يهاجمون ذلك الفرد ويرمونه بالافتراءات ويطعنون فيه عند مئات من الناس يصغون السمع لأولئك الـمعاكسين، فافتراض صادر عن عقلية يجب أن تتغير بعد لتصبح أصلح للقيام بنصيبها من النهضة.
وإنّ نفسية الـمهاجرين لا تتغير بسرعة بـمقالات فيها براهين وحوادث وجماهير من الشبـاب الـحـي الناهض البعيد في الوطن. فهذه الـمقالات قد قرأوا عشرات منها ومروا بها ونسوها. ولكن معدل السـرعة يـمكن أن يزيد بـما يظهره القوميون، وخصوصاً الـمسؤولون من نشاط في محاربة الدعاوات الفاسدة في أوساطهم، وفي لمّ شمل القوميين الاجتماعيين والتذاكر والتناقش في الدروس التي أعطيت في مناسبات كثيرة، لترسخ في الأذهان وتتحول إلى قوة مقنعة.
أما الزعيم، صاحب الدعوة ومؤسس التعاليم، فقد أعطى حتى الآن أشياء أساسية كافية لقيام النهضة، بدليل أنها قامت عليها. وهو ليس للمهاجرين فقط وإن يكن الآن موجوداً في الـمهجر بحكم الظروف الغالبة، بل لـجميع الشعب. ليس للجيل الـحاضر فقط، بل للأجيال الـمقبلة أيضاً. وعمله الفكري يجب أن لا يكون إلا ضمن هذه النظرة. وفي الشؤون الـحاضرة يجب أن يكون عمله في الـمسائل والقضايا الكبرى الـمتعلقة بـمصير النهضة والشعب. فما يكتبه الزعيم يجب أن يكون في الـمسائل الأساسية وكتابة ذلك في جريدة ليس كطبعه في كتاب وتوزيعه بعشرات الألوف. ثم إنّ الكتابة في الـمواضيع الأساسية لا يـمكن أن تـجري في هذا الـجو الـمشوش الـمضطرب الذي لا استقرار فيه لا مادياً ولا روحياً. وحين انصراف الزعيم إلى الـمسائل الكبرى والقضايا الـحيوية يجب أن يعوّل على صحيفة أخرى وعدد من الكتّاب على الأقل يعنون بـمقاومة معكري الـماء ومفسدي الشعب.
إنّ الكتاب الأول من نشوء الأمـم ألّفه الزعيم في فترة السجن. وهو بين أيدي الناس يعمل عمله في تغيير العقلية العامة والنظرة إلى الأمور الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وكان الزعيم قد أعد الـملاحظات الرئيسية لكتابه الثاني في نشوء الأمـم وهو الـمختص «بنشوء الأمة السورية» وقد سرقت هذه الـملاحظات والـمراجع من سجل دعوى الـحزب في الـمحكمة، أفيظن الـمنتقد أنه من السهل الوصول إلى مجموعة الـحقائق والـملاحظات للعودة إلى تأليف الكتاب الثاني الذي تدعو إليه حاجة عظيمة، وأنه يـمكن الزعيم العمل في هذا الكتاب وهو مرهق بالأعمال. ولم يوجد من يكفيه مؤونة الرد على ترهات أصحاب «الرابطة القلمية» ولا صحف ولا كتاب للعناية بشؤون الشعب وبالـمعارك السياسية وتـحطيم الـخصوم بينما الزعيم منصرف بكليته، في جو مريح، لـمعالجة القضايا الكبرى والنظر في الـمسائل الأساسية وتهيئة الأبحاث التي يـمكن أن تتناولها الأجيال فتغيّر نفسية الشعب وترقيها جيلاً بعد جيل.
هل سأل الـمنتقد نفسه - كيف يعيش زعيمي، وكيف يعمل، وكيف يـمكن أن يعطي شعبه كل ما يريد إعطاءه، وما هي واجباتنا لتسهيل عمل الزعيم ومساعدته على تنفيذ خطته؟
هذه الأسئلة هي التي يجب أن تـمرّ في مخيلة من «يؤمن إيـماناً حياً بثقابة نظر الزعيم»، وتوجيه الـجهود في هذه الناحية هو أكبر مساعدة فاهمة يـمكن أن يقدمها الـموظف أو العضو البسيط للزعيم في خططه وعمله، تدميرية كانت أو تعميرية. هذا ما ينتظر أن يشعر به من يقول - «ويل لـمن لا يفهم سعاده وطوباك يا سورية إذا تفهّم بنوك تعاليم سعاده وعملوا بها.» ولكن يظهر أنّ كل هذا الإيـمان العظيم تزعزع لدى جمود اللامبالين وسفسطة السفسطائيين حتى صار الزعيم يحتاج لتوجيهات تدله على أنّ لسورية وجهاً آخر، وأنه يحسن إظهار هذا الوجه وترك الأبحاث الـمتتابعة التي أظهرت الكثير من أمراضنا!
من هو الذي أكد للمتسائل الـمنتقد أنّ الزعيم لا يريد أن يهتم إلا بهذه الأبحاث. وإذا كان الزعيم يريد أن يطرق مواضيع أخرى يحتاج لها القوميون الاجتماعيون وبقية الشعب، فهل يحتاج لتوجيهات بعض الرفقاء وإرشاداتهم ليقوم بذلك؟ ألم يرَ الـمنتقد كيف ابتدأت سلسلة مقالات جنون الـخلود وكيف انتهت؟ ألم تبتدىء تلك السلسلة بشكل حملة تهديـمية للمكانة الأدبية الزائفة ظن جميع الذين لا يعرفون طبيعة تفكير هاني بعل أنها ستقف عند حد التهديـم، حتى لقد وردت كتابات تقول قد طال البحث والناس يتساءلون متى ينتهي؟ ثم ألم يحدث الانتقال الذي لم يكن ينتظره أحد من التهديـم إلى التنظيف والتخطيط والبناء، فإذا هناك بحث فلسفي اجتماعي أجمع الـمتنورون والـمفكرون على أنه أشد ما تـحتاج إليه الأمة لتخرج من تخبطها النفسي والاجتماعي والسياسي، ووردت الزعيم تـمنيات كثيرة بالتبرع لطبعه وكادت تصير هذه التمنيات مشروعاً عملياً، حتى إذا طلب تـحويل هذا الـمشروع إلى مشروع آخر أعظم فائدة لأنه يسهل زيادة الـمعلومات والأخبار والأبحاث عن النهضة القومية الاجتماعية ويـمكن من طبع كتب كثيرة في الـمستقبل، وهو ما يتمناه على الزعيم صاحب الانتقاد التوجيهي على أبحاث الزوبعة، وقف كل شيء بانتظار تطور ظروف الـحرب ولا يزال واقفاً. ونعني بهذا الـمشروع الآخر مشروع إنشاء مطبعة خاصة بـ الزوبعة ليزداد صدورها ويضاف إليها بعض الـمنشئين الذين يعهد إليهم ببعض الـمواضيع والأبحاث الفرعية ليبقى لرئاسة الإنشاء الاهتمام بالـمواضيع الرئيسية.
إنه لـمن أسهل الأمور الاتـجاه نحو الزعيم بالـمطاليب الكثيرة، التي لا تُـحصى، كلما حدث نقص أو تقصير أو شلل في وسط من أوساط الـحركة في الـمغترب. ولكن هذه الـمطاليب البعيدة عن الوضع وعن اللازم لا تسبب غير التشويش والإزعاج وألم النفس وزعزعة الثقة وسوء التفاهم، لأنها ليست في محلها وغير متفقة مع النظام ولا مع روحية النظام القومي الاجتماعي. إنّ الـمسؤولين والـمهتمين في الـحزب السوري القومي الاجتماعي يتعرضون لسماع سفسطات وتـمنيات كثيرة. فيجب أن يكون لهم مبلغ كاف من متانة الأخلاق والرصانة لاستبقاء رباطة الـجأش والثقة برسوخ خطط الزعامة وانتظار النتائج باطمئنان وهدوء أعصاب، وإلا جلبوا على الـحزب والقضية أضراراً كثيرة لا يـمكنهم تقديرها، ولات ساعة مندم.
منذ نحو سنتين ونيف كتب الأمين فخري معلوف، بعد وصوله إلى أميركانية ببضعة أشهر، إلى الزعيم يقول ما خلاصته
«إني سأضع الاهتمام بتقوية مكتب الزعيم وتعزيزه في صدر أعمالي الـحزبية في الـمغترب، لأن مكتب الزعيم هو مصدر التوجيهات ومدار الـحركة كلها، وبتقويته تقوى الـحركة ويزداد تأثيرها على الرأي العام.»
والأمين الدكتور فخري معلوف هو الآن في مقدمة نوابغ الـحركة السورية القومية الاجتماعية ونوابغ الأمة السورية قاطبة. ونظراً لـمعرفته مقدرة الزعيم وفهمه طريقة تخطيطه وعمله، ولإدراكه أهمية الأبحاث والـمواضيع ومبلغ تعقدها، ولرسوخ روحية النظام فيه لم يرَ أن يقلق راحة زعيمه بالاقتراحات والتوجيهات التكنية. فهو يعلم أنّ زعيمه لا يحتاج لهذه الأمور، وأنه مصدر التوجيهات جميعها. وكل ما اقترحه الأمين معلوف كان تـحويل الزوبعة إلى مجلة، لأنه يقدّر لهذه انتشاراً أكثر في الولايات الـمتحدة، فضلاً عن أهمية أبحاث الـمجلة للحركة وتقدمها الفكري. ولم تصدر منه انتقادات ولا رغبات يعرضها على الزعيم، ليس لأنه يخشى مقام الزعامة، ولا لأنه يظن أنّ الزعيم لا يلتفت إلى هذه الأمور ولا يعتني بها، بل لأنه يثق بـمقدرة الزعيم على فهم الـموقف وإعطاء ما يقتضيه من العلاج.
لـم يتمكن الأمين الدكتور فخري معلوف من تنفيذ عزمه على تقوية مكتب الزعيم وإمداده بالـمال بسبب اضطراره لصرف كل عنايته إلى دروسه الفلسفية التي لم تقف عند أخذ رتبة معلم علوم في الفلسفة، كما كان القصد الأولي، بل تعدت ذلك إلى الدكترة في الفلسفة، ثم إلى التخصص وراء الدكترة وكل ذلك نظراً للتقدير الكبير الذي حازه الأمين معلوف في الدوائر العلمية الأميركانية وسهّل له الارتقاء في علومه. فيا ليت الـمسؤولين الـجدد يتخذون قدوة من كبار رجال الـحركة القومية الاجتماعية ويشاورونهم في ما يرون اقتراحه على الزعيم، أو على بعض إدارات الـحزب العليا، لـخير الـحركة. وليثق هؤلاء وجميع الـمهتمين أنّ النظريات البسيطة الواردة في اقتراحاتهم وتوجيهاتهم لا يـمكن أن تفوت الزعيم، وإذا كان الزعيم لا يعمل بها فلأن له رأياً آخر ليس من الضروري تكليفه شرحه، لأن ذلك، كما يراه الزعيم بكل دقته وتفاصيله، أمر يطول تفصيله ويستغرق مجلداً ضخماً، على الأقل. فلْيُعْنَ كل ذي شأن بشأنه في هذه الظروف، ولا يظنّن أنّ إدارة حركة كالـحركة القومية الاجتماعية، أمر بسيط بهذا الـمقدار، حتى أنّ كل ذكي متنور يقدر على التدخل فيه وإعطاء رأيه وطلب تفصيل أسباب عدم قبوله أو عدم العمل به.
نحن نعتقد أنّ الزعيم يعرف ما تـحتاجه نفسية الـمغتربين، وما يلزم لبناء أخلاق ومناقب جديدة فيهم، إذا كان ذلك مـمكناً في جميعهم، وإلا ففي القسم القابل التجديد منهم، أما الباقون فليهتموا بعضهم ببعض.