باشرنا في العدد الثاني والـخمسين من الزوبعة، العناية بناحية جديدة من الدروس القومية الاجتماعية وفاقاً للأسلوب الـمباشر. ولكننا اضطررنا لقطع الكتابة في هذا الـموضوع التوجيهي الهامّ لنفسح الـمجال لـمواضيع أخرى وللنظر في بعض الأعمال الـجديدة العارضة. وإننا نعود الآن إلى النقاط الـموضوعة تـحت الـمعالـجة.
قلنا في مقال العدد الـمذكور إنّ بعض الاقتراحات والانتقادات التي وردت إدارة الزوبعة من بعض القوميين الاجتماعيين الـمهتمين بشؤون الـحركة القومية الاجتماعية كانت اقتراحات وانتقادات اعتباطية. ولإيضاح هذا الوصف العام بدقة نقول إنّ الذين أوردوا تلك الاقتراحات والانتقادات لم يبنوها على درس عام لنفسية الـمجموع وحاجاته. وهذا ما عنيناه بقولنا إنّ الـمنتقدين ليسوا من أهل الاختصاص. فالذين اقترحوا أو أشاروا بعدم ذكر أسماء أشخاص حين درس حالة مجموعنا وصعوبات الـحركة القومية الاجتماعية والسموم الفكرية التي يبثها أهل الفساد والرجعة والنفاق يريدون، على ما يظهر، أحد أمرين: إما أن «تترفع» الزوبعة عن تناول أشخاص لا قيمة ثابتة لعلمهم أو أدبهم، ولا مكانة مكينة لهم عند الوجهاء أو عند فئة قليلة من الـخاصة، وإما أن تقتصر الزوبعة على ما تـحتاجه الـخاصة فقط وترك حاجة العامة الكبرى بدون عناية. فنتناول هذين الوجهين كليهما.
«الترفع» في مثل الـمواضيع والـحالات التي عرضت لها الزوبعة قد يكون معناه أن نعصب عيوننا ونلتفت ذات اليمين وذات اليسار ونقول: «لا يوجد إيليا أبي ماضي[1]ولا يوجد عبد الـمسيح حداد ولا يوجد رشيد الـخوري[2]، الخ». والـحقيقة أنّ هؤلاء الأشخاص ومئات من أمثالهم موجودون. والذي ساعدهم على أن يوجدوا ويكونوا أحجار عثرة في سبيل الـحركة القومية الاجتماعية ومفسدين لأذهان قسم كبير من عامة السوريين الـمغتربين وعدد غير قليل من شبه الـخاصة، هو تركهم وشأنهم وعدم الدلالة على أغلاطهم في حينها فاكتسبوا مع الأيام صيتاً ما كان يكون لهم لولا الإهمال والفوضى اللذان استغلوهما إلى أقصى حد. فأبو ماضي، مثلاً صاحب جريدة يومية يقرأها مئات من الناس، على الأقل. فهل يريد صاحب اقتراح إغفال الأسماء أن نترك هؤلاء الـمئات في ظلمة أبي ماضي من أجل مبدأ «الترفع» العقيم؟ وإذا كان كثير من الناس الذين اتصل بهم «القروي» في سان باولو وعاشرهم قد خبروه وعرفوا عجزه وضعفه فماذا يفعل بـمئات الناس خارج سان باولو الذين صورت لهم صحافة التدجيل «القروي» بصورة «شاعر الوطنية؟» هل نقول: هؤلاء الناس ليسوا من الأمة، أو ليسوا شيئاً وعليهم أن يتبعوا فئة سان باولو «على العمياني»؟
إنّ الأشخاص الذين ذكرتهم الزوبعة كانوا موجودين وجوداً يؤثّر على تطور الاعتقاد في أوساط هي جزء من مجموع الأمة. وإذا كان وجودهم، بهذا الـمعنى، قد أصبح قليل الشأن في الـمدة الأخيرة، فالفضل عائد إلى أنّ الزوبعة لم «تترفع» عن ذكر أسمائهم وشأنهم. ومئات الناس الـمنخدعين «بوطنية» أولئك الأشخاص و«دأبهم» كانوا موجودين أيضاً. وإذا كان قد قلَّ عددهم مؤخراً فالفضل عائد إلى أنّ الزوبعة لم تهمل حاجتهم إلى إيضاح الـمسائل وعلاقة الأشخاص بها، ولم تقل «من هم هؤلاء الـمنخدعون حتى نلتفت إليهم؟ هم لا شيء».
أمـا أن تقتصر الزوبعـة على الـمواضيـع والأبحـاث التي تهمّ الـخاصـة فقـط من أهل العلم والفكر والرأي، فيمكن الإدارة القومية الاجتماعية أن تنظر فيه بشرط أن يكون هذا الاقتراح مصحوباً باقتراح إنشاء جريدة أخرى للمسائل الشعبية التي تـحتاج العامة لإيضاحها من غير ألغاز مبهمة. فإذا أمكن، مادياً، إنشاء جريدة أخرى أسبوعية أو يومية أو مرتين في الشهر وقام عليها كتّاب يعنون بالـمسائل والـحوادث التي تشغل عقول العامة وتقرب كثيراً من إدركها حينئذٍ يصير إسقاط بعض الـمواضيع من الزوبعة مـمكناً من غير ضرر أو إجحاف بحقوق العامة على مؤسسات النهضة القومية الاجتماعية الإذاعية. وبدون هذا الشرط لا يـمكن قبول اقتراح مقترح ترك الأسماء إلا بالتنازل عن بعض أهداف الإذاعة القومية الاجتماعية الهامّة.
هذا التحلـيل يشرح ما عنيناه سـابقاً بقـولنا إنّ الزوبعة هي لـجميع الطبقات والعقـول الـموجودة ضمن شعبنا وفي جماعتنا الـمغتربة. والقوميون الاجتماعيون الفاهمون والأذكياء يجب أن تكون لهم روح الرفق بأبناء أمتهم الذين ليس لهم مثل ذكائهم، وفهمهم، وأن يشعروا بوجوب انتظارهم قليلاً في معارفهم وإدراكهم لكي لا يحدث انقطاع تام بين أهل العلم والرأي، وعامة الشعب الذين هم جسم الأمة.
وردنا مؤخراً اقتراح من الأمين الدكتور فخري معلوف بتحويل الزوبعة إلى مجلة للأبحاث الرئيسية الهامّة. وقد كانت الإدارة القومية الاجتماعية العليا فكرت بإنشاء مجلة حين كانت سورية الـجديدة لا تزال في الوجود ولم يكن صدر قرار حكومة البرازيل بـمنع الصحف الأجنبية اللسان، ولم يكن حدث مشكل إدارة إنشاء سورية الـجديدة. ولو كانت تلك الصحيفة بقيت لكان الأرجح أن تكون الزوبعة نشأت بشكل مجلة للأبحاث العلمية الهامّة.
الـحركة القومية الاجتماعية تـحتاج للأبحاث الفكرية التوجيهية ولكنها تـحتاج أيضاً لـمحاربة الدعاوات الفاسدة وأصحابها في الـمعارك السياسية الـجارية.
إنّ مشروع إيجاد مطبعة كاملة العدة ورأسمال كافٍ لتسيير الـمطبعة كان يضمن إيجاد مجلة وجريدة والفصل بين الأبحاث التقنية والفكرية الراقية، والشؤون الشعبية العملية. ولو أنّ أصحاب الاقتراحات والانتقادات الـمشار إليها آنفاً صرفوا كل همّهم لتأمين مشروع الـمطبعة لكان تـحقيق هذا الـمشروع أغنى عن اقتراحاتهم غير الـمدروسة على ضوء الـحقيقة. ولكنهم، بدلاً من أن ينصرفوا بكليتهم إلى درس تـحقيق هذا الـمشروع الـحيوي، الذي كان عرض عليهم، والسعي لـما فيه تقدُّم الـحركة ورسوخ العقيدة في بيئتهم وحدود صلاحياتهم، أخذوا يتبادلون الآراء في صواب عرض الزوبعة لأسماء بعض الأشخاص أو عدم صوابه، ثم في الكتابة إلى إدارة الزوبعة وإلى زعامة الـحزب في هذه الانتقادات غير الدراسية وغير الاختصاصية. وهذه الكتابة تعني صرف وقت طويل وجهود كثيرة لا طائل تـحتها غير إقناع هؤلاء الرفقاء بأن ما تنشره الزوبعة يكون دائماً مبنياً على أسباب موجبة، لا لزوم لـحمل الإدارة دائماً على شرحها لهم ولكل رفيق غيرهم يظن أنه يقدر أن يجادل الإدارة في مثل هذا الأمور الـمبنية عندها على دروس نفسية وسياسية، وعلى معلومات ليس من اللازم توقيف العمل لشرحها لـمن يجب أن تكون لهم الثقة بـمقدرة الإدارة على تطبيق ما يلزم منها. وهم يجرون في ذلك على قاعدة ضارة روحياً وعملياً، وهي هذه: إنّ جهل الأشخاص أسباب بعض الـمسائل هو سبب كافٍ للظن أنّ الإدارة أخطأت أو أنها لم تصب الأفضل. وأضرار هذه القاعدة الروحية كائنة في عدم الثقة بـمقدرة الإدارة. وأضرارها العملية هي في صرف جهود في مكاتبات تكلف الأشخاص والإدارة وقتاً وتعباً لإيضاح ما ليس واجباً إيضاحه لو كان كل فرد يتمم واجباته هو بروح الثقة ويترك للإدارة مسؤولياتها والوقت الكافي لتظهر نتائج خطتها.
في بعض هذه الظروف كتب الزعيم إلى أحد الـمسؤولين عن بعض الفروع يلفت نظره إلى أفضلية الانصراف بالكلية إلى الـمشاريع العملية التي هي ضمن دائرة صلاحياته والتي أرسل إليه تكليفاً بها. وكانت عبارة الزعيم هكذا ــــ «هذه الأمور تـحتاج إلى عناية واهتمام وسعي ومثابرة وقدح زناد الفكر واستنباط الـحيل، وهذه تتطلب الانصراف بالكليـة إلى هذه النواحي» أما جواب الـمكلف الـمشار إليه فكان هكذا: «لكن، يا زعيمي، أين الشخص الذي بإمكانه القيام بـمثل هذا العمل؟».
الظاهر من جواب الـمكلف أنه أساء فهم توجيهات الزعيم. فقد يكون أوّل «الانصـراف بالكلـية» بتـرك كـل عمل آخـر لتحصيل الـمعاش. وهذا غلط كبير في الاستنتـاج. فالتـوجيهـات هي، كـما يستـدل بالقـرينة وحدود الـموضوع، الانصراف الفكري بالكلية، بعد الفراغ من الأعمال الـمعاشية البحتة، إلى الـمسائل العملية التي هي ضمن صلاحيات الـمسؤول، بدلاً من تـجزئة القوى الفكرية والوقت الباقي من عمل الكسب في التدخل في مسؤوليات دوائر عليا وتكليف هذه الدوائر شرح تفاصيل كل خطة تقررها.
أما العناية والاهتمام والسعي والـمثابرة وقدح زناد الفكر واستنباط الـحيل فيجب أن تكون في مقدور كل مكلف ومسؤول على نسبة أهمية وظيفته ومؤهلاته. وأما مقدار ما يبذله كل مكلف منها ومبلغ نتائج هذا البذل فينظر فيهما ويـمكن أن تـجري عليهما محاسبة. لأن من يترك واجباته ليهتم بواجبات غيره ليس مقصراً في العناية والاهتمام والسعي والـمثابرة وقدح زناد الفكر واستنباط الـحيل، بل مسيئاً استعمال هذه الـخصال والـحركات وواضعاً إياها في غير مواضعها. وتوجيه الزعيم هو لـحصرها دائماً ضمن الصلاحيات والـمسؤوليات الـمعينة والـمقيدة بالنظام.
إنّ إبداء الرأي بحريّة هو من حقوق كل عضو في الـحزب السوري القومي الاجتماعي، ولكن إبداء الرأي يجب أن لا يكون معناه التدخل من الأدنى في صلاحيات الأعلى ومسؤولياته حتى ليكاد يشعر الأعلى أنه مسؤول تـجاه الأدنى، والعكس ما يجب أن يكون. وهذه نقطة أساسية جوهرية في طبيعة النظام مهما كان شكله. فيا ليت الـمسؤولين ينصرفون بالكلية إلى إتـمام شؤون مسؤولايتهم قبل النظر في شؤون مسؤوليات غيرهم، فتكون حركاتهم وأعمالهم أفْيَد للقضية، حتى ولو كانت انتقاداتهم لـ الزوبعة في محلها، فمن الثابت أنه لا يـمكن منع الغلط بالكلية لا في الفرد ولا في الـمجموع. وإنـما تقلُّ الأغلاط إلى أدنى حد مـمكن بانصراف كل ذي شأن إلى العناية بشأنه والسهر عليه وإعطاء النتائج الـمطلوبة أو الـمنتظرة منه.
ويجب أن لا ينسى بعض الـمهتمين أنهم أحياناً يقترحون اقتراحات هي من باب استباق الأمور أو تعجيلها. فبعض الـمسائل تكون مقررة في الدوائر العليا ويكون مقرراً ترتيب تنفيذها، فتأتي بعض الاقتراحات مطالبة بها من غير خطة ولا قاعدة وهو التشويش الإداري والنظامي عينه.
لا يدخل في هذا النطاق باب الـمعلومات. فالـمعلومات عن الـحوادث الـجارية وردّ الفعل لبعض الـخطط الـموضوعة في مجرى التنفيذ هو أمر لازم واجب يُسأل عنه الـمكلفون على نسبة صلاحياتهم ودائرة أعمالهم.
إنّ الزوبعة هي الـجريدة القومية الاجتماعية لـجميع الأوساط ولكافة الطبقات الفكرية. ولا يـمكن الإدارة أن تـجعل طبقة من هذه الطبقات تستأثر بهذه الـجريدة قبل أن توجد صحيفة أخرى تسد حاجة غير طبقة الـخاصة. والذين يرغبون في هذا الارتقاء التقني عليهم الانصراف إلى تـحقيق نصيبهم من الـمجهود العملي الـمنتج، بدلاً من إمطار الإدارة بالاقتراحات الاعتباطية التي لا نتيجة لها غير إرهاق الإدارة وتشويش أعمالها.
[1] إيليا أبي ماضي: (1889-1957) شاعر مهجري في أوائل القرن العشرين، شارك في تأسيس الرابطة القلمية في الولايات الـمتحدة الأميركية، أصدر مجلة السمير عام 1929 النصف شهرية ثم حوّلها إلى يومية وظل يصدرها حتى وفاته. وقد لعبت جريدة السمير دوراً سلبياً من خلال تهجماتها على أنطون سعاده والـحزب القومي الإجتماعي.
[2] الـمعروف بالشاعر القروي. ولد في ساحل جبل لبنان الشمالي عام 1887 وهاجر إلى البرازيل عام 1913. تولى رئاسة تـحرير مجلة الرابطة لـمدة ثلاث سنوات ثم رئاسة العصبة الأندلسية. شارك في الـحملات على أنطون سعاده والـحزب القومي الاجتماعي مع بعض من سمّوا أنفسهم صحافيين وأدباء فكان أن تناولهم سعاده بسلسلة حلقات تـحت عنوان «جنون الـخلود» و«الشهرة على حساب الـحزب السوري القومي» في جريدة الزوبعة أدت إلى تعريتهم وفضح زيفهم. ولرشيد عدة كتب ودواوين منها الرشيديات والقرويات والأعاصير وديوان القروي.