طـرقنا في العدد السابق موضوعاً من أهم مواضيع حياتنا الاجتماعية والسياسية، التي تضعها النهضة السورية القومية الاجتماعية على بساط البحث، ألا وهو موضوع النزعة الفردية الـمتفشية في الـجيل السوري الـحاضر. وقد ظهر مبلغ خطر هذه الظاهرة الاجتماعية على منظماتنا ومؤسساتنا ومشاريعنا العمومية من الأمثلـة الواقعية الـمضروبة في الـمقال الـمتقدم. وهذا الـخطر يبرر كل عودة إلى الـموضوع ترمي إلى كشف غوامض هذه الظاهرة وتنبيهنا إلى وجوب مكافحتها بلا هوادة واستئصال شأفتها.
النزعة الفردية تـجعل الفرد وميوله غاية كل فكرة ونهاية كل عمل. ومتى قويت هذه النزعة في الأفراد، خصوصاً الأفراد الصالـحين للفكر والعمل، وتـملكت من نفوسهم صارت العدو الأول لكل غاية مجتمعية و العقبة الكأداء التي تعترض نشوء النظام الاجتماعي العام. فطبيعتها مخالفة لطبيعة الاجتماع، لأنها ترمي إلى جعل السيادة في الفرد نفسه وليس في الـمجتمع ونظامه. ولـما كان الأفراد غير موجودين إلا في الـجماعة، كانت النزعة الفردية، التي تعدّ الفرد كـل شيء في العالم، أكـبر عامل تفكك وهدم لكيان الـجماعة، الذي هو الكيان الإنساني الـحقيقي منذ ظهر الإنسان على مسرح الطبيعة. ذلك لأن كيان الـجماعة لا يقوم إلا بخضوع أفرادها طوعاً أو كرهاً، لكيانها ونظامها، لا فرق بين أن يكون هذا النظام جيداً أو رديئاً. وإننا نلاحظ هذه الـحقيقة من درسنا تاريخ التطور الإنساني وتواريخ أنظمة الـجماعات والدول منذ أقدم الأزمنة التاريخية إلى اليوم. والأنظمة يصير تطورها وارتقاؤها ضمن دائرة الاعتراف بالنظام وتقديـم حق الـجماعة على حقوق الأفراد. فنظام الـجماعة يتطور ولا يلغى، ويقوم على إرادة الـجماعة حسب اختيارها أو قبولها وليس على إرادة الفرد. وإرادة الـجماعة تظهر بواسطة الـحكم في أشكاله الـمتعددة، ومن هذه الأشكال السيطرة (الدكتاتورية) القائمة على تفويض الشعب أو العموم واختيارهم، فهي الـمعبّرة عن الإرادة الشعبية العامة، وتبطل السيطرة أن تكون الـمعبّرة عن الإرادة الشعبية العامة حين تكون أو تتحول إلى طغيان فردي قائم على النزعة الفردية وميولها. ولـما كانت النزعة الفردية متفشية في جيلنا صار كل مريض بهذا الداء يعتقد أنّ سيطرة الزعامة هي نوع من أنواع التسلط أو الطغيان الفردي على بقية الأفراد، غير عابىء بوقف الزعيم نفسه على القضية القومية العامة وتفانيه في سبيلها لا في سبيل ميوله الفردية ورغباته الـخصوصية.
لـما كانت النزعة الفردية تـحمل الفرد على حسبان أنّ ذاته هي الـمبدأ والـمعاد، فالنتيجة الـحاصلة من هذه النظرة أنّ الفرد ينظر إلى الـمشاريع العمومية والأحزاب القومية نظره إلى شؤون تـحتاج إليه أو موجودة له. فإذا أقبل عليها كان إقباله بأحد دافعين: إما دافع الغيرية البحتة، وإما دافع الاستثمار. وهذان النقيضان كلاهما هدامان للمجتمع. فالغيرية هي دائماً اختيارية انفرادية في كيان أو مجتمع لا اختياري. إنها لا تعرف الواجب في حكم حق الـجماعة، ولذلك لا يحسب نفسه ذو النزعة الفردية مقيـداً بواجب دائم حتمي أو شبه حتمي. هذه النظرة تبعد بالفرد عن أغراض الـجماعة، ومتى أخذت بهذه النظرة أكثرية الـمجتمع فتفكُّك الـمجتمع وانحلاله نتيجتان مؤكدتان لا مهرب منهما.
الغيرية نفسها تصبح محدودة جداً لذي النزعة الفرية، لأنها من وجهة نظره، شيء غير ضروري ويـمكن الاستغناء عنه في كل لـحظة. لذلك هو يجد نفسه مطلوباً من الـمشاريع العمومية أو من الـمنظمات والـمؤسسات الاجتماعية، لا طالباً لها. هي محتاجة إليه وهو غير محتاج إليها، فإذا جاءت تسعى إليه تكرّم بالعطف عليها والاهتمام بها، لإظهار أريحيته، وليس للقيام بواجب اجتماعي حتمي لا مفرّ له منه ولا غنى له عنه.
لا مشاحة في أنّ من الأسباب التي عملت على توطيد هذه النظرة في ذي النزعة الفردية، كون أكثر الأعمال السورية العمومية التي نشأت في الـماضي، واتخذت صبغة سياسية أو اجتماعية أو خيرية صدر عن أسباب فردية شخصية. وهذا دليل آخر على استفحال أمر النزعة الفردية وشدة إفسادها للمجتمع السوري. ومن أهم نتائج النظرة الـمذكورة ازدراء النظام واحتقار العرف وجعل الشذوذ عن القواعد الـمؤسسة قاعدة. وهو أسوأ أنواع الانحطاط الاجتماعي وشر ضروب الانحلال القومي.
قلنا في الـمقال السابق إنّ فكرة التنظيم الاختصاصي هي فكرة جديدة أوجدتها في سورية والشرق العربي الـحركة السورية القومية الاجتماعية. وبيّنا أنّ هذه الفكرة لا تزال غير مفهومة الفهم اللازم، حتى عند أكثر القوميين الاجتماعيين أنفسهم، بدون استثاء الـمتنورين منهم. وعنينا بهم الذين لم يصهرهم النظام القومي الاجتماعي، إما لـحداثة عهدهم في الـحركة، وإما لعدم اختبارهم في النظام والإدارة. وسيـاق الـمقال الـحاضر يكشـف لنا عن خفايـا أخـرى من هذا الـمركّب النفسي الذي تتألف منه النزعة الفردية أو الذي تنطوي عليه، كالشعور الغيري تـجاه الـمنظمات والـمؤسسات القومية والاجتماعية. فالشعور الغيري تـجاه الأعمال الاجتماعية الـحيوية تـجعل الفرد يحسب نفسه غريباً عن العمل إلا إذا كان العمل كله في يده ليسير به كما يشاء. والفرد يتدخل في العمل، إما بدافع إظهار الأريحية، وإما بدافع الاستغلال لـمصلحة أخرى خصوصية. فإذا اصطدم منهاجه في شيء، أو في مكان، أو في زمان، عدّ ذلك جريـمة ضده وطلب الانسحاب والانزواء عن العمل أو الانقلاب عليه. ولولا هذا الشعور الغيري الـخارج عن محله لرأى الفرد أنه مهما كانت أسباب الاصطدام فهو لا يتخلى عن العمل ولا يخرج على النظام والقانون. ولولا النزعة الفردية، التي هي مصدر هذا الشعور الـمختل، لـخضع الفرد لـحقّ الـجماعة الـممثّل في النظام، حتى ولو وجد فيه بعض الإجحـاف بـمنازعه الـخصوصية أو بآرائه التي يتشبث بها عادة تشبثاً شديداً يؤدي إلى كثير من الاختلاف، ولعدّ نفسه أحد الـمسؤولين عن العمل ومصيره فلا يجوز له التخلـي عنه لأي سبب شخصي. فالنزعـة الفردية تـحرمه الشعور بالـمسؤولية الاجتماعية، والشعور الانفرادي الـمكسي بكساء الغيرية يعدمه الإدراك أنه من الـجماعة ومرتبط بها وأنّ شخصيته ليست سوى جزء من شخصيتها، أي أنه من العائلة ومن أهل البيت.
إنّ الاختبار في الـحزب السوري القومي الاجتماعي قد أعطى نتائج هامّة لدارسي النفس وحالاتها والـمسائل الاجتماعية، ومن هذه الـحالات والـمسائل: النزعة الفردية وحالاتها وقضاياها. فقد تبيّن أنّ الأفراد، غير الـخالصين من النزعة الفردية، كانوا يؤيدون جميع التدابير والإجراءات الـمتخذة من قِبل الـمنظمة القومية الاجتماعية ضد غيرهم طالـما الأمر لا يـمسهم شخصياً. فهم يؤيدون حق الـجماعة ونظام العمل العام ضد ما يعدّه الأفراد الآخرون من حقوقهم، ولكن متى اصطدموا هم أنفسهم بهذا الـحق العام وهذا النظام عينهما خرجوا وانقلبوا. ويـمكن القول بتأكيد إنه لا يوجد فرد واحد مطرود من الـحزب السوري القومي الاجتماعي إلا كان موافقاً قبل طرده على تدابير الطرد بحق غيره لأسباب شبيهة بالأسباب التي طرد لأجلها هو. إنه كان يقبلها ويجد فيها العدل. ولكنه كان يحسب ذاته فوقها فلما بلغ الـحق العام إليه وحاولت الـمنظمة إقامة الـحد عليه تـمرد وانقلب وطرد.
ذو النزعة الفردية لا يعرف، ولا يريد أن يعرف، أنّ هنالك حدوداً واختصاصاً ومراتب للشؤون والأعمال، أو هو يعرف أنّ هذه الأمور موجودة ولكنه هو فوقها كما رأينا في مثل مترجم بعض الكتب الـمضروب في الـمقال السابق. فهذا الشخص توهم أنه إذا كان يحق للزعيم أن يتكلم باسم الـحزب السوري القومي الاجتماعي كله، وهو فرد، فإنه هو فرد آخر يحسب نفسه قدر عشرين زعيماً أو مقابل جميع زعماء العالم. وليس ذلك إلا من الـجهل الـمقرون بالنزعة الفردية، لأن الزعيم وإن كان فرداً فهو الـمبايع من جميع القوميين الاجتماعين ليمثلهم كلهم ويعبّر عن إرادتهم، تشريعاً وتنفيذاً، وكلمته هي كلمة القوميين الاجتماعيين جميعهم، والنظر إليه يجب أن يكون بـمثابة النظر إلى الـحزب السوري القومي الاجتماعي كله. هذه هي قيمة الزعيم ومنزلته وتـحـدي هذه الـمنزلة من قِبل الأفراد هو تـحدٍ للحزب كله، ويدل على شدة الـجهل وعماوة البصيرة بسبب النزعة الفردية الـمملوءة غروراً. وفي هذه الـحقيقة نـجد السبب الأساسي لـمخاطبة ذاك الـمغرور الزعيم بلقب «الرفيق» وليس بلقب الزعيم، ولـمجادلته الزعيم في شؤون سياسة الـحزب العليا مجادلة تبلغ مبلغ التحدي لصلاحيات الزعيم وسلطته.
النزعة الفردية الـمنتفخة غروراً والـمشبعة من الـمآرب الـخصوصية جعلت ذاك الشخص يشعر بأنه أعظم كثيراً من أن يقول لزعيمه: «يا زعيمي»، أو «يا معلمي» أو «يا قائدي ماذا أقدر أن أفعل لأكون مفيداً لقضيتنا الـمقدسة، أو للخطة الـمرسومة؟» إنه يضن «بكرامته» أن تنزل إلى هذا الدرك! وجهله مبادىء النظام الأساسية ولعدم تأدبه في الأنظمة الاجتماعية ــــ السياسية، ظن أنه موجود في الـحزب لـمشاركة الزعيم في صلاحياته، أو لـمزاحمته عليها أو لـمقاسمته إياها، غير حاسب لإرادة الـحزب العامة الـممثلة في الزعيم أي حساب!
ليس هذا الشخص الـمضروب مثلاً الوحيد في هذا التفكير. فقد أشرنا إلى أنه واحد من كثيرين إلا أنه بزّ كثيرين في غلوه. وفي الولايات الـمتحدة ظهر فرد انخرط في سلك القوميين الاجتماعيين وكتب مقالات في تأييد الـحزب السوري القومي الاجتماعي والدفاع عن عقيدته ونظامه، وحمله ذلك على توهّم أنه أصبح سيد النظام ومعيّن حدوده. فكتب مرة إلى الـمنفذ العام كتاباً يؤنِّبه فيه ويبيّن له الواجبات التي كان ينتظر منه إكمالها. فأجابه الـمنفذ العام مستغرباً شذوذه عن قواعد النظام ومخاطبته الرؤساء بلهجة لا تتفق مع واجب الـمرؤوسين، ويا للمصيبة! فما كاد الرفيق الـمذكور يتسلم كتاب الـمنفذ العام حتى ردّ عليه بكتاب تهكم لاذع، ومن جملة أقواله أنه قد لاحظ على الـمنفذ العام استعمال كلمة «الرؤساء» بالـجمع، وأنه يجد في هذا الاستعمال محاولة التكبر، وأخذ يشرح للمنفذ العام أنّ الـحزب السوري القومي الاجتماعي أُنشىء لإلغاء هذه الأمور التي هي من الشؤون الـماضية!
صار الـمأمور آمراً، والـمرؤوس رئيساً، والتلميذ معلماً، والـجندي قائداً، وكانت النتيجة أنّ الـمنفذ العام اتخذ قراراً بإيقاف ذاك العضو عن مـمارسة حقوق عضويته في منطقة صلاحياته ورفع قضيه إلى الزعيم. وأغرب من كل ذلك أنّ رفيقاً آخر صديقاً للعضو الـموقوف كتب إلى الزعيم كتاباً تكلم فيه عن الـمسألة، كما لو كانت مسألة خلاف بين شخصين، وذكر الـمنفذ العام باسمه الشخصي وليس بلقب وظيفته وصلاحيته القانونية، وسأل الزعيم أن لا يكون هذا الشخص (الـمنفذ العام) حائلاً بين العضو الـموقوف وأعماله القومية!
الأغرب بعد، أنّ صاحب هذا الكتاب الأخير إلى الزعيم أعطى الزعيم بعض النصائح والإرشادات في كيف يجب أن تكون خطة الـحزب السوري القومي السياسية مع الولايات الـمتحدة الأميركانية!
من أعظم مصائب تفشّي النزعة الفردية في مجموعنا في الـمغترب وفي مجتمعنا أنها ومصاحباتها، كالنظرة الـمادية الدنيا، تـحول دون نشوء تقاليد جديدة وعرف على أساس الـمناقب السامية. فالتقاليد والعرف هي من أنظمة الـمجتمع وروابطه الهامّة التي تـحدد موقف الفرد وتضبط تصرفاته الاجتماعية التي لا يحددها القانون. وهذه الـحالة تساعد على تـمادي النزعة الفردية، لأن الفرد لا يجد في الـمجتمع قوة رأي عام ضد شذوذه وعبثه بالنظام وبالـحق العام. لذلك لا يستحي الفرد أن يحنث بيمينه، أو أن يتخلى عن عمل قومي اجتماعي أو سياسي أو غيره، لـمجرّد أنّ الأمور لم تـجرِ حسبما يشتهي أو لأن يعدّ نفسه أكبر من أن يقبل حكم الـمنظمة ويعمل بـموجبه.
ومن نتائج النزعة الفردية الطموح بغير استحقاق، وهو ما يؤدي إلى كثير من الـمنافسات الهدامة، لأنه مقياس للأمور والقيم عند النزعة الفردية. النزعة الفردية لا ترى في الكون إلا صاحبها ولا تراه إلا جديراً بأرفع الـمناصب. فإذا شاء الفرد أن لا يطلب أرفع الـمناصب فذلك منّةٌ منه على الناس.
إنعدام الثقة الـمتبادلة والثقة بالرؤساء هو من نتائج النزعة الفردية، وفقدان الثقة هو أعظم النكبات التي يـمكن أن تـحلّ بكيان أو نظام.
قلنا ونكرر القـول بوجـوب مكافحة النزعـة الفرديـة مكافحة شديدة على نسبة شدة خطرها. فهي من ألدِّ أعداء نهضتنا النفسيين.
أيها القارىء إقرأ هذا البحث لنفسك قبل غيرك. لا تبحث عن القذى في عين أخيك قبل أن تزيل الغشاوة عن عينيك.