رفيقي العزيز وليم بحليس،
منذ أيام، نحو عشرة، أجبتك على كتابك الذي تذكر فيه أمر فؤاد [لطف الله] بعد تسلّمه كتاب جبران مسوح. ثم تسلّمت كتابك الأخير الـمؤرخ في 4 يوليو/تـموز الـحاضر وفيه نسخة كتاب كنت أرسلته إليّ ولم يصلني.
إنّ الكلمة التي صدرت في الزوبعة[1] لا علاقة لها بالثقة. إنها طريقة رأيتها مضمونة لإبلاغك انقطاع رسائلك عني. فقد صرفت في الـماضي أوقاتاً كثيرة في كتابة رسائل لم تصل إليك، ولم يعد في إمكاني الاستمرار على بذل مثل تلك الأوقات الضرورية لأمور أخرى على غير طائل. في ما يختص بأمر أمهات الزوبعة كتبت في رسالتي الـماضية، وأزيد هنا أنّ التي عند جورج [بندقي] تصلح ويجب شراء جهاز آخر هنا ثمنه نيف وألفا فاسُس (ريالات) أرجنتينية. ويجب أيضاً إرسال جهازين كامليـن من حروف جسم 36 و28 للعنوانات الكبيرة. وجميع ذلك لا ينشىء مطبعة. فتبقى مسألة الآلات كاللينتيب وآلة الطبع وتوابعهما. وهاتان الآلتان هما أهم شيء وثمنهما غير قليل. فإذا كانت النفوس ضعيفة، وملاحقة هذا الأمر تـجري بهذا البطء، فلا أقل من شراء الأمهات، ثم أدرس مسألة الآلات فيما بعد.
والآن سأتكلم كلاماً عاماً يفيدك في صدد ما ورد في نسخة كتابك السابق وحاجتي لوجودك أو وجود معاون مقتدر سواك بقربي.
يظهر أنّ الـمثل القديـم «عيـن لا ترى قلب لا يوجع» لا يزال ينطبق على عقليتنا الـحاضرة في غالب الناس بدون استثناء القومييـن الاجتماعييـن. فقد مرت أربع سنوات إلا أشهراً قلائل، على وجودي في أميركة، ومثل هذا الوقت أو أقل على انضمام عدد من «الشباب السوري» ولكن ماذا حدث من التقدم الفكري العملي في أوساط هؤلاء «الشباب»؟
إنّ أفكاراً جديدة كثيرة قد وصلت إليهم عن القضية القومية الاجتماعية وعن الـمناقب الـجديدة الـمطلوبة للنهضة، ولكنهم بقوا جامدين في تفكيرهم العملي والـحالة النفسية لا تزال سيئة جداً. هل يسأل واحدهم نفسه: كيف تسير الأمور، وماذا يـمكن أن أفعل في سبيل النهضة والـحركة، وماذا يجب علينا مباشرته؟ كلا. كل واحد يكتفي بالاقتناع بأنّ الأمور يجب أن تسير بطريقة من الطرق من غير دخوله تـحت مسؤولية ولا محاسبته في واجب.
هل يسأل هذا «الشباب السوري» كيف تسير أعمال مكتب الزعيم، وما يحتاجه هذا الـمكتب، وما يجب فعله في سبيل تنمية قوة الإذاعة؟
لا يكون بعيداً عن الـحقيقة إذا قلت لك إنّ أكثر هذا «الشباب» الذي يشير إليه فؤاد يجهل كل الـجهل ويعمى كل العمى عن حالة الزعيم وعن الضرورات الـمطلوبة من كل واحد من أفراده على نسبة مقدرته وكفاءته واستعداده. هل يخطر في بال أحد أفراد «الشباب السوري» أنّ الزعيم يجاهد منذ عقد كامل من السنين جهاداً متواصلاً مضنياً ابتلى جسمه خلاله ابتلاءً شديداً، وصار يجب أن نلتفت كل الالتفات إلى هذه الناحية الهامّة ليبقى لنا الإشعاع الفكري والشعوري والقيادة الثابتة؟ أو هل يخطر في باله التفكير في لوازم مكتب الزعيم، ومقومات العمل الإذاعي، وكيفية تـجهيز وإعداد ما يلزم لذلك؟ كلا. لا شيء من ذلك. ولكن يخطر في باله شيء كثير من الأفكار الفوضوية كالانتقاد والتعنت والسفسطة. كل واحد يريد أن يقول أقوالاً في الإدارة والإذاعة والثقافة والأدب. وكل واحد يريد أن يعلن ما يعتقده لازماً وما لا يعتقده لازماً، وما يراه صواباً وما يراه خطأ أو غلطاً. ولكن لا أحد يريد أن ينتقد نفسه ويرى تقصيره في شعوره وتفكيره وواجباته.
تقول في نسخة كتابك الـمفقود «نشعر أنه من الـحسن أيضاً أن نتحدث عن البنيان الـجديد القائم على أساس لا تدكّه هستيرية [الشاعر] القروي[2]، ولا بلاهة [عبدالـمسيح] الـحداد ولا سفالة وانحطاط [إيليا] أبي ماضي»، وتستأنف فتقول «لكن أين هذه البراهيـن والـحوادث والـجماهير من الشباب الـحي الناهض لا نقدّمها للمهاجرين حتى نبعث فيهم الأمل بـمستقبل أمتهم. لـماذا لا نعطيهم من صور الـحياة السورية ما يحبب إليهم الـحياة السورية؟»، ثم تضيف إلى ما تقدم «من بإمكانه أن يتحدث للسورييـن عن نهضة سورية القومية ويذكر لهم الـحوادث والأسماء أكثر من الزوبعة؟ الخ.»
وأنت ألا يخطر في بالك أني أفكر في هذه الأمور وأني إذا كنت لا أحققها في الـحال فلأنّ هنالك أسباباً يتجاوز علمي بها علمك، ألم يخطر لك أن تسائل نفسك: كيف يـمكن جريدة صغيرة كـ الزوبعة تصدر مرتيـن في الشهر بصفحات صغيرة قليلة العدد أن تـحارب الأعداء، وتشرح فلسفة الـحركة القومية الاجتماعية وخططها وآمالها في وقت واحد، وبقلم كاتب واحد تكاد تـمزق نفسه تعنتات الـمتعنتيـن وسفسطات السفسطائييـن؟ أوَكان يـمكن أن تبحث الزوبعة أبحاثاً راسخة في جو هادىء ووسط آذان صاغية لو لم تكن قامت بحملتها التطهيرية على عدو بعد عدو وفئة من الأعداء بعد فئة؟ قد يقول غير العارفيـن: «إنّ الأمر قد طال على هذه الـحملات» وإني أقول إنّ الـمسألة ليست مسألة طول أو قصر بقدر ما هي مسألة انتصار واندحار. والساحة واسعة ونحن صحيفة واحدة ضد عشرات، إذا لم يكن مئات الصحف. وكم مضى من الوقت على ختام «جنون الـخلود»؟ وهل تظن أنّ الذين قرأوا هذا البحث قد فهموه كلهم وعرفوا كيف يقيسون الأدب والأدباء والشعر والشعراء والإنشاء والـمنشئيـن والصحافة والصحافييـن؟ أتظن أنّ الذين سقط على مرأى منهم رشيد الـخوري صاروا يدركون من تلقاء أنفسهم سفالة مآرب أبي ماضي وسطحية أدبه، وهو الذي كان عندهم وعند جميع الأدباء والـمتأدبيـن «أعظم شاعر عصري في اللغة العربية»، أم تظن أنّ «الرابطة القلمية» في نيويورك قد ذهبت بـمجرّد ظهور أبحاث «جنون الـخلود»؟
إنّ الـحرب السياسية غير الأبحاث الأدبية، ولها خطط نفسية وإذاعية لا تخضع لـخطط التفكير العمومي. ولو كنت خارج ميدان السياسة لـما كان خطر لي أن أتناول جميع هؤلاء الأفراد بكل هذا التطويل، إلا إذا تركت التفكير الإنشائي للاهتمام بالنقد الـمفيد. وليس سراً أني أتـمرمر وأتـململ من حاجتي إلى النزول إلى مستوى أولئك السخفاء لـمناقشة سخافاتهم. ولكني وجدت ذلك ضرورياً لـحصول النتيجة التي توخيتها. وقد حصلت النتيجة ولكن الـمجموع واسع وإذاعتنا ضعيفة، وهنالك أوساط لا تزال مقفلة لإذاعتنا، لأننا لم نهتم بإيصال صوتنا إليها أو بإيجاد الوسائل الفعّالة لبلوغها والدخول فيها. وما الفائدة من كتابة بحث جليل لـحفنة صغيرة من الناس، في حيـن إلـحاح الـحاجة لتحريك جماعات كبيرة بسرعة؟ وهنالك أمر آخر يعود إلى النقطة التي بدأت بها حديثي. أنت قمت على إدارة جريدة وخبرت شيئاً من معاناة هذا الأمر. أنسيت شكواك إليّ من اضطرارك للكتابة في ظروف حرجة ومن عدم حصول الـمساعدة الـمنتظرة وغير ذلك. ألا يخطر في بالك تقدير حراجة الظروف الـموجود أنا فيها. ألا تتصور أني أنا كاتب الزوبعة الوحيد، ما عدا مقالة لـجبران مسوح، وأني أنا مديرها، وأني ناموس إدارتها فأدوّن أسماء الـمشتركيـن وأحذف الذين يرجعون الـجريدة، وأبحث عن أسماء مشتركيـن جدد. وأنا آخذ الـمقالات من منزلي البعيد نحو نصف ساعة عن مركز الـمدينة إلى الـمطبعة. وأنا أصلح الـمسودات. وأنا أكتب أسماء الـمشتركيـن على الآلة الكاتبة. وأنا أضبط حساب الورق وأجرة الراصف. وأنا آخذ إلى البريد الرسائل والرزم الـخاصة بـمشتركيـن جدد أو بأشخاص أرسل إليهم أشياء معيّنة. وأنا أطالع الصحف السورية والأجنبية، وأقص ما يجب حفظه منها في سجلات مكتبي، وألـخّص أخبارها الهامّة لـِ الزوبعة.
ثم أنا أدير الـحركة وحدي، وهنالك عدد من الـمنفذيات والـمديريات لا بد لي من مخابرتها، وفي كل إدارة منها يوجد مشكل أو أكثر يحتاج حلاً. فأنا أكتب جميع الكتب والقرارات وأنسخ ما يجب نسخه منها بيدي. وأنا أحفط الكتب الواردة، وأنا أقبل الأسماء الـجديدة الـمنضمة وأقيدها. وأنا أهتم بالأسئلة والرسائل الواردة من طائفة من الـمراسليـن. وأنا آخذ إلى البريد جميع مراسلات مكتبي. وأنا أقابل هنا كل من شاء التعرف إليّ، ومن يبغي الوقوف على أمر، ومن يريد أن يفضي إليّ بشيء.
هل خطر في بالك أو في بال فؤاد التفكير في هذا الشأن، وفي ما آل إليه جسمي بعد كل ما مرّ عليّ من الـمحن القاسية، وهل يخطر لك أن تسأل: كيف يقدر هذا الرجل أن يحافظ، وهو في هذه الـحالة، على شيء من قوة الذاكرة؟ وكيف يـمكن أن ننتظر منه في كل عدد من الزوبعة بحثاً جديداً في فلسفة النهضة أو في خططها؟ إنّ هذا الـجيل الكثير الـمفاسد العديـم قوة التصور لا يعرف إلا أن يطلب. فكلمة هات! هي دائماً في فمه. إنه يشبه صبياً عديـم التربية له في كل ساعة مطلوب جديد يضج ويصخب ليأتيه به أحد. إنّ هذا الـجيل يظنني آلة تشبه الغرامفون حصلت له ليلهو بها وليغيّر عليها الأقراص والأنغام كما يريد أو يرغب. فتارة هو يريد هذا النغم، وطوراً يريد نغماً آخر، والآلة يجب أن تدور وإلا حطمها ورماها إلى الأرض. ويا ليت البقية تقف عند هذا الـحد. فبعض أفراد هذا الـجيل يريدون نغماً، وبعضهم يريد غيره، والبعض الآخر يريد غير ذلك، وصخبهم وجلبتهم لا تتركان فرصة لعمل هادىء وخطة منظمة. كل واحد منهم يريد استعجال الأمور على هواه.
وبعد فإني لم أقل كل ما يـمكن قوله ولا جلّه. أتعرف أني بقيت مدة ولا أزال غير آمن استقراري الـمعاشي؟ أتدري أنه خطر لي عدة مرّات أن أترك الكتابة وأن أنزوي مدة بقصد الـحصول على بعض الاطمئنان وجمع شتات الأفكار والتذكارات التي أصبحت متفرقة بلا رابطة؟
وإذا كانت الـحالة ستظل كما هي، فماذا أتوقع؟ كل فرد على شيء من القوة الـمادية أو الاستغناء الـمادي يظن أنه يصير ذا فضل عليّ بانضمامه إلى الـحركة، وأنه يتوجب عليّ مراعاة خاطره وتوقّي إحساساته لئلا يغضب وينسحب. هذه الـحالة لا تختص بفرد معيـّن فقد رأيتها هنا مكرراً. بأية ثقة يكتب كاتب في هذه الـحالة للنهضة؟
أتعرف حكاية ذلك البدوي الذي منعه أبوه من قول الشعر فمرض لذلك واشتد مرضه حتى أشرف على التلف، فجاءه أبوه يقول له إنه أجاز له قول الشعر فقال «حال الـجريض دون القريض»؟ ما أشبه هذه الـحكاية بحكاية رجل وقف نفسه على إنهاض شعبه، فقام جيل شرير جاهل ومبغض للعلم يأتيه كل يوم بأحجية ومعمى ليحلّهما، ويطلب منه كل ساعة أمراً غريباً، ويعذبه بأنواع العذاب، ويجرحه الـجراح الكثيرة، ثم يقف فوق رأسه ويقول له: «إذا كنت بالـحق معلماً وقائداً فأرشدنا إلى الصلاح والفلاح واشرح لنا فلسفتك وابنِ لنا الكون الذي تتخيله»!
إني أقول لك، يا رفيقي العزيز، لا تصغِ كثيراً إلى ما يطلبه الناس فمطاليبهم لا يحصيها عدّ. وكلما أتيتهم بشيء ألـحوا عليك بشيء آخر. أما أنا فقد قمت في العشر سنوات التي مضت بأكثر كثيراً مـما هو طبيعي القيام به. ووزعت قواي بلا شفقة ووجدت أنه عندما قاربت التلف لم يكن حولي أحد، حتى إذا استعدت شيئاً قليلاً جداً من قوّتي الـماضية، وهو القليل الذي أشتغل به الآن، عدت أسمع تلك النغمة الكريهة: هات! هات!
إني أعرف واجبي وواجب الـحركة القومية الاجتماعية، وأعرف جيداً طبيعة هذا الـجيل. إني سأفعل دائماً ما أراه الأفضل والأوفق. فإذا خطر لي أن أعود فأكتب خمسيـن مقالـة جديـدة عن أبـي ماضي وخمسيـن مقالة أخرى عن الـحداد أو [رشيـد] الـخوري فإنـي فاعل، لأنّ خواطري ليست خواطر هوس ولا لـجاجة رعونة بل خواطر درس وتأمل ومعرفة. وإنّ الذين بحكمة يبغون الاستزادة من تعليمي يجب عليهم أن يحركوا حكمتهم للاهتمام برفع الأثقال العملية عني وبـمساعدتي بإيجاد الوسائل اللازمة لإيصال تعليمي إلى أوسع الدوائر.
لو فكر هؤلاء بتدبير نفقة ناموس وكاتب في مكتبي، وثمن مطبعة كاملة لـجريدة النهضة وأجور كتّاب وعمال، لكان ذلك أفضل من ملاييـن النصائح الفجة التي يـمكن أن يسدوها إليّ. إنّ إبداء الرأي واجب في محله، ومنكر في غير محله، وما أكثر الذين يبدون آراء في غير محلها.
إنّ القضية ليست قضيتي وحدي بل قضية الـجميع. فليس من العدل أن أكون أنا الوحيد الذي ينتظر منه أن يعمل دائماً، بينما الآخرون يترددون عند كل شك غير مبرر، ويتزعزعون أمام كل خشية. كل واحد منهم يطلب سلامته قبل سلامة القضية، ثم يريدني أن أتدبر أنا سلامة القضية وحدي، وأن أكون مسؤولاً تـجاهه عن كل حركة من حركاتي وسكنة من سكناتي.
لا أزيد على ما تقدم. ففي هذا البحث يكتب كتاب طويل. ولم أكتب ما كتبت لألومك أنت ولا لألوم أحداً. وإنـما هي لـمحة من الداخل لعلها تفيد. أتـمنى أن تكون وعائلتك بخير. سلامي القومي لك وللرفقاء العامليـن. ولتحيى سورية.
ملاحظة: في كتابي إلى فؤاد قلت إني أقبل جبران مسوح بحدّته وبرودته وبـما فيه من حلو ومر وإني كذلك أقبل فؤاداً. وأخشى أن يسيئ فؤاد فهم هذا القول، نظراً لـحدّته وسرعة إحساسه بذاته. فما أقصده هو أنه يجب أن نقبل بعضنا بعضاً على علاّتنا بشرط أن يكون القصد العمل بإخلاص لنجاح القضية.
ملاحظة ثانية: كلما سمعتَ مطاليب جديدة عما يجب أن يهتم به الزعيم وما يجب أن يكتبه وأن يفعله فعد إلى قراءة هذا الكتاب فتعلم أين يجب أن تـحل هذه الـمطاليب.