كثيرون سألوا ويسألون: لـماذا هذه السلطة غير الـمحدودة للزعيم؟
وبديهي أنّ تسعة وتسعين بالـمئة من هؤلاء السائلين، ولا نقول مئة بالـمئة، هم من العامة الـجاهلة أو من الذين لا ثقافة صحيحة لهم، نظرية وعملية، في الأوضاع السياسية والـحقوقية وتطوراتها، وفي الـحالات الاجتماعية والنفسية العامة، ومن الذين لم ينالوا قسطاً وافياً من درس التاريخ ونشوء الدول وتنازع السيادة فيها.
حقيقة أخرى يجب تقريرها: أنّ جميع هؤلاء السائلين لم يحملوا في زمانهم مسؤولية إدارية ولم ينخرطوا في سلك جيش يتعلمون فيه فضائل النظام ومجابهة الأخطار وإتـمام الواجب والإقدام على الأمور الـخطيرة، ولم ينالوا تربية سياسية من أي نوع، ولم يأخذوا نصيباً حتى ولا من التمرن الـمكتبي البسيط. وبينهم عدد من التجار الـمحتالين على القوانين، ومن العابثين بالـمناقب والآداب الاجتماعية، ومن الفوضويين الـمستعدين للتمرّد على كل ما لا يعجبهم وما لا يكون الـحكم فيه راجعاً إلى أهوائهم وميولهم.
وحقيقة أخرى أنّ أكثر السائلين السؤال الـمتقدم هم من الذين صدئت عقولهم لفرط إهمالها. فما خلا التفكير بالبيع والشراء، وأحياناً كثيرة بالقمار، لا تـجدهم يروّضون عقولهم في درس موضوع أو معالـجة قضية. ولذلك تراهم يلتقطون الأفكار البسيطة الشائعة إلتقاطاً من غير تفكير وكد ذهن. وإذا اتفق لك أن التقيت بهم وقد عثروا بكلام جديد فالويل لك، لأنـهم يهاجمونك به مهاجمة عنيفة بلا شفقة ولا رحمة. فهم، غالباً، جهّال مكابرون لا يقرّون بجهلهم ولا يعترفون بتفوق أحد عليهم.
هذا السؤال: لـماذا هذه السلطة غير الـمحدودة للزعيم، هو كلام إلتقطوه من صحف الإذاعة »الديـموقراطية« ضد هتلر[1] وموسوليني[2].فهو ليس من عندياتهم. واقتصارهم عليه من غير أي تـحليل لوضعية سياسية ـــ اجتماعية معينة دليل قاطع على أنـهم يرددونه ترديداً ميكانيكياً لا إعمال فكر فيه ولا روية، وعلى أنـهم ليسوا على شيء من الدراسة في التاريخ السياسي وعلم الـحقوق الدستورية. وإنّ فيه دليلاً على جهلهم التّام مبدأ الأسباب والـمسببات، ومبدأ الكفاءات والاحتياجات.
تعظم الـمصيبة ببعض السائلين إذا كان قد اتفق له أن قرأ أو سمع شيئاً عن الـحكام الـمستبدين في القرون الـمظلمة وشيئاً عن الثورة الفرنسية. فهو حينئذٍ لا يكتفي بهذا السؤال الاستنكاري، بل يندفع في النقاش للبرهان على عدم صلاح السيطرة الفردية، وعلى وجوب رجوع الأمور إلى قاعدة التمثيل الشعبي للمحافظة على حقوق الشعب، ودفعاً لاستبداد الأفراد.
من هذه النقطة العالية عن الـمستوى العادي نريد أن نعالج هذه الـمسألة الـخطيرة. ونضع نقطة ابتدائية هذا السؤال: ما هي أسباب الثورة الفرنسية وجعل سلطة التشريع في مجلس مـمثلي الشعب الـمنتخبين؟
الـجواب: الأسباب هي استبداد الـملوك في ما لا يعود على الشعب بالنفع.
ننتقل إلى سؤال آخر: هل كان الشعب الفرنسي يثور على الـملوك لو كان استبدادهم في ما يعود على الشعب بالـخير؟
الـجواب العامي: لا.
الـجواب الذي قد يعطيه بعض فلاسفة الـحقوق: أنّ هنالك أمراً غير الاستبداد يـمكن أن يكون سبباً لنزاع عنيف بين الشعب والـملك. وهذا الأمر هو: قاعدة الـمُلك الوراثي التي تفرض على الشعب حكاماً قد لا يريدهم.
من السؤالين والأجوبة الـمتقدمة نرى أنّ الأسباب للقيام ضد السلطة الفردية الـمطلقة نوعان: نوع مباشر وهو حصول الاستبداد في ما لا يعود على الشعب بالـخير، وهو الأقوى والأشد فاعلية، ونوع مداور هو: وراثة الـحكم الـمطلق من غير استفتاء الذين سيجري الـحكم عليهم.
ولا يـمكن أن يكون هنالك غير هذين السببين لـحمل الـجمهور على النهوض في وجه الـحكام. هذا باستثناء الـحركات الفوضوية التي تخرج على كل نظام وكل سلطة. والذي يقرّه الـمنطق والاختبار أنّ الشعب لا يقف في وجه الـمستبد لخيره، بل يحبه ويـمدحه ويدعو له بطول البقاء. وأخبار الـحكّام والـملوك الذين مجدتهم شعوبهم غير قليلة في التاريخ.
لنأخذ الثورة الفرنسية قاعدة لبناء درسنا فما هي الصورة الكلية التي تتمثل لنا منها؟
هي صورة شعب قام ليصلح فساد الـحكّام. والصورة هذه واقعية، لأنـها صورة الفعل الذي حدث.
وإذا أردنا أن نقابل حالة سورية على هذه الصورة فما هي النتيجة التي تـحصل من هذه الـمقابلة؟
النتيجة هي حصول صورة مقابلة، أي معاكسة، لصورة حالة فرنسة: في سورية لا نـجد اليوم ملوكاً وراثيين يستمدون سلطتهم من الله ليحكموا الشعب على هواهم ويستبدوا في ما لا يعود عليه بالـخير. في سورية فساد الـحكم هو من فساد الشعب. فالنواب في لبنان والشام الذين يبيعون مصالح الشعب بالـمزاد السري هم نواب منتخبون انتخاباً عاماً من الشعب، ولكن الشعب في حالة فساد كثير فهو يجهل حقوقه ومصالـحه ولا يشعر بوحدتها ووحدة شخصيته. في سورية رجال الدين الفاسدون قد حوّلوا الطوائف إلى أحزاب سياسية، ورجال الشعب خضعوا لسياسة التفرقة الدينية وانقادوا إلى مثالب الانحطاط فباعوا»باكوريتهم[3]«أو أصواتـهم الانتخابية بيعاً وهم لا يدرون أنـهم يبيعون حقوق سيادتهم. في سورية تعلّم الفرد ألا يهتم لضرر الشعب بل لـمنفعته الفردية فقط.
في سورية الـمناقب تـحولت إلى مثالب والأخلاق انحطت. فالفساد في الشعب والشعب الفاسد الروحية يحتاج إلى إصلاح. والإصلاح، الذي لا يـمكن أن يكون إلا من الداخل، يجب أن يكون من فرد انشق على فساد الـمجموع وتغلب على أهوائه. هذا الفرد هو الذي يحتاج إلى ضمانات السلطة ضد فساد الشعب وليس الشعب هو الذي يحتاج إلى هذه الضمانات.
إنّ هذا الفرد الـمصلح يجب أن ينال ضمانات السلطة الـمطلقة ليضرب بيد من حديد على أيدي تـجار الـحقوق القومية والـمصالح الشعبية، وليضع حداً لعبث العابثين بالنظام ولتدجيل الـمزدرين بكرامة الأمة وحقوقها، وليمنع الفوضى وليعلّم ويدرب وينشىء الـمؤسسات الـجديدة الصالـحة لـحمل أعباء مطاليب الـحياة الـجديدة، وليضع قواعد سلوكية جديدة تقيم فضائل الـحرية والواجب والنظام والقوة بدلاً من الفوضى والرغبات الـخصوصية والعادات والـمشارب الانحطاطية والتفكك والتراخي.
وإذا درسنا جيداً تاريخ الـحزب السوري القومي ودققنا في الاختبارات التي مرت به وجدنا هذه السلطة غير الـمحدودة للزعيم الضمان الوحيد لسلامة هذا الـحزب الذي يـمثل نهضة الأمة السورية. ولولا هذه السلطة لكان الأرجح أن يتفكك الـحزب، وإن بقيت العقيدة، من جراء الـمناورات التي قام بها أفراد جلبوا معهم إلى داخل الـحزب أمراض النفسية الانحطاطية وحاولوا أن يحوّلوا الـحزب إلى ميدان تتبارى فيه منافعهم الـخصوصية وأهواؤهم. والفضل في إبطال هذه الـمناورات يعود إلى مقدرة الزعيم وإلى سلطته غير الـمحدودة التي زادت إيـمان مجموع الـحزب به، بدلاً من إضعافه.
إنّ الذين لا يريدون هذه السلطة غير الـمحدودة للزعيم هم، في الغالب، الذين لا يريدون أن يتقيدوا بـمسؤولية نظامية مربوطة إلى سلطة على أعمالـهم ولها الكفاءة لـمحاسبتهم على ما يفعلون. إنهم لا يريدون محاسبة، ولا يريدون أوامر، ولا يرغبون في طاعة، ولا يريدون أن يقفوا تـجاه مرجع أعلى يحاسبهم. ولذلك يفضلون أن تبقى الـمسائل «راجعة إلى العموم» وهم على ما هم عليه من الـجهل والفساد فتضيع الـمسؤوليات ويعطّل الواجب ويشلّ النظام وتقوم دولة الـمصالح الفردية، النفسية والـمادية، مقام مصالح الأمة.
إذا كانت هنالك فردية استبدادية في ما لا يعود على الشعب بالـخير يجب محاربتها بكل شِدَّة فهي فردية هؤلاء السائلين باستنكار: لـماذا هذه السلطة غير الـمحدودة للزعيم؟
والطريقة الوحيدة للقضاء على طغيان هؤلاء العائثين فساداً في الشعب هي، في تأييد سلطة الـمصلح الـمطلقة.
ويجب أن نفهم جيداً أننا في سورية لا نواجه صورة شعب غاضب على حكام أو قاعدة حكم، عامل على إصلاح فساد حكام، بل صورة شعب تغلغل الفساد في جميع طياته وأصبح في حالة مرض وشلل، وفرد قد تـجرّد لاستئصال الفساد وإصلاح أمر الشعب، وكل ضعف في سلطة هذا الفرد الـمصلح قد تؤدي إلى زلة إلى الوراء أو تشقق وتهدُّمٍ في البناء.
نحن نعلم أنه لكثرة الفساد في الشعب قد فقدت الثقة بالأفراد ونعلم أيضاً أنه لهذا السبب عينه يجب أن يعطى الـمصلح الـخبير هذه السلطة غير الـمحدودة.
هاني بعل
[1] أدولف هتلر (1889-1945) زعيم ألـمانية النازية، ولد في الإمبراطورية النمساوية الـمجرية وكان زعيم ومؤسس حزب العمال الألـماني الإشتراكي الوطني والـمعروف بإسم الـحزب النازي. حكم ألـمانية النازية في الفترة ما بين عامي 1933 و1945 حيث شغل منصب مستشار الدولة.اختارته مجلة تايـم الأميركية واحداً من بين مائة شخصية تركت أكبر أثر في تاريخ البشرية في القرن العشرين.
غزا بولندا عام 1939 مـما أدى إلى اندلاع الـحرب العالـمية الثانية وخلال ثلاث سنوات احتلت ألـمانية ودول الـمحور معظم قارة أوروبة (عدا بريطانية) وأجزاء كبيرة من أفريقية ودول شرق وجنوب شرق آسية والدول الـمطلة على الـمحيط الهادي، وثلث مساحة الإتـحاد السوفياتي، ومع ذلك نـجحت دول الـحلفاء في التغلب عليه.
[2] بينيتو موسوليني (1883-1945) شغل منصب رئيس الدولة الإيطالية ورئيس وزرائها. وهو من مؤسسي الـحركة الفاشية الإيطالية وزعمائها، دخل الـحرب العالـمية الثانية مع دول الـمحور، في ظل هزيـمته حاول الهرب إلى الشمال، تـم إلقاء القبض عليه وأعدمته حركة الـمقاومة الإيطالية مع أعوانه السبعة عشر.
[3] باكوريتهم: قديماً كان للولد البكر نصيب ضعفين من أخوته، أي كان هناك ما يعرف بحق البكورية.
في التوراة، عيسو الابن البكر لإسحق ابن ابراهيم باع حقه بالبكورية بصحن عدس.