بينما كانت الـمفاوضات تـجري بين تركية وفرنسة في جنيف كانت حالة سكان اللواء في اضطراب وغليان شديدين، لا سيما أن انقسامهم إلى طوائف عنصرية ودينية متعددة قد زاد في شدة التطاحن وتضارب الدعايات بين الأحزاب والـجماعات الـمختلفة ويـمكننا تـحليل التيارات الفكرية الـمختلفة وموقفها من أمر اللواء كما يلي:

أما الأتراك فهم منقسمون على أنفسهم من حيث شعورهم نحو الـجمهورية التركية، وهو أمر مهم في ما يتعلق بـمستقبل اللواء. فالـمتجددون، وجلهم من الـجيل الـجديد معجبون بالـحركة الكمالية وكذلك فهم متحمسون جداً لـحركة الانفصال عن سورية والالتحاق بتركية وقد لبس هؤلاء القبعة رمزاً لهم وولاء للحركة الكمالية التي اضطرت جميع الأتراك في الـجمهورية التركية على لبس القبعة. وقد أدى تـحمس هذه الفئة إلى توزيع القبعات بالـمجان على أتراك اللواء وحثهم على إرتدائها. وصار يسمى هذا الفريق بأصحاب القبعة أو  chapites. ويؤلف هذا الفريق أكثرية أتراك اللواء ومن زعمائه عبد الغني أغا توكمان والدكتور عبد الرحمن ملك. ولهذا الفريق حزب منظم اسمه «خلق برتسي» يجتمع على شكل جمعية بإسم »خلق أوي« وهي جمعية سياسية تستمد تأييدها من الـحكومة التركية ولها اتصال بجمعية »هاتاي« في تركية، وقد أصدر هذا الفريق بضع جرائد في فترات مختلفة أهمها جريدة »يني كون- اليوم الـحديث« التي تأسست منذ عام 1932 وقد اعتبر هذا الفريق قرار مجلس العصبة خطوة لضم اللواء إلى تركية. وكان يعلن دائماً بأن مصير اللواء سيكون للجمهورية التركية وأن وراء ذلك فوائد اقتصادية لسكان اللواء.

وهناك فريق تركي ثان أقل عدداً، جله من الـمحافظين، وهو متدين ويرى في الـحركة الكمالية خروجاً على الدين، ومن زعمائه محمود بك من أقتبة نائب قرقخان وأدهم بك رئيس بلدية أنطاكية. على أن ميول هذا الفريق لم تكن مع الغرب بل كانت تؤيد بقاء الوضع الراهن تحت الحكم الفرنسي ويرتدي هذا الفريق رمزاً له الطربوش وهو شعار الـمحافظين. أما الفريق الثالث وهو قليل العدد أيضاً فقد وقف موقفاً محايداً ولم يظهر ميوله إلى أحد  الـجانبين وقد ارتدى رمزاً لـحياده القبعة الفرنسية الـمستديرة الـمسماة «Beret».

أما الـجانب العربي فيتألف من الطوائف الإسلامية والـمسيحية الـمختلفة وقد انضم لتأييده الأرمن والأكراد والشركس. وكانت »عصبة العمل القومي« أهم جمعية عربية في اللواء. كانت تضم تـحت لوائها القسم الأكبر من عرب اللواء مسلمين ومسيحيين. وقد عرفت بـمواقفها الصلبة وتـحمسها الشديد لـمصلحة العرب وإخلاصها لعقيدتها القومية. وهي التي وقفت من قرار مجلس العصبة موقفاً سلبياً وقاومت كل مؤسسة أخرى تعترف به أو تتعاون مع الفرنسيين وحاربت أتباع الكتلة الوطنية في الشام واتهتمهم بأنهم يريدون تسليم اللواء للأتراك. وقد أصدرت العصبة جريدة »العروبة« في 30 تشرين أول 1937 كما أخرجت عدة منشورات دورية وأسست نادي العروبة في أنطاكية ثم في اسكندرونة لبث الدعاية العربية وتنظيم الـمقاومة وتوحيد الصفوف. واتخذت »العصبة« ارتداء السدارة- وهو لباس الرأس الـمعروف في العراق- شعاراً للجانب العربي ورداً على ارتداء الأتراك القبعة تشبهاً بالأتراك الكماليين. وكان زعيم عصبة العمل القومي في اللواء السيد زكي الأرسوزي وهو عربي من مدينة أرسوز درس في باريس وتعين مدرساً في مدرسة التجهيز في أنطاكية ثم سرح بسبب نشاطه العربي السياسي وقد اعتقلته السلطات الـمنتدبة ونفته عدة مرات وقد غادر اللواء مع الذين هاجروا من عرب اللواء إلى سوريا بعد أن تم فصل اللواء عنها.

وتألفت في إسكندرونة »جمعية اتـحاد العناصر« أو »حزب الإتـحاد الوطني« وقد عمل في إنشائه السيد حسن جبارة مدير الـمالية في اللواء آنذاك وترأس الـجمعية أدهم بك جيوه لك، رئيس بلدية أنطاكية، وانضم إليها بعض الأتراك والأرمن والروم الأرثوذكس وكان القصد من هذه الـجمعية جمع كلمة سكان اللواء لتطبيق نظام اللواء الـجديد الذي أقره مجلس عصبة الأمم، واتخذت الـجمعية جريدة »اللواء« التي كانت تصدر في الإسكندرونة أداة لبث دعايتها، على أن الـجمعية لم تكن قوية وبقيت ضعيفة منذ أول تأليفها.

أما الأرمن فكانوا منقسمين على أنفسهم إلى أربع جماعات مهمة. الأولى جماعة »الطاشناق« أو الـحزب الـملكي برئاسة موسيس ديركالوسيان، وتـجدهم على الأكثر في أنطاكية واسكندرونة والصاو وقلوق، وقد أيدت هذه الـجماعة حزب الإتـحاد الوطني الذي دعا إلى الموافقة على قرار مجلس العصبة في 29 أيار السنة 1937. أما الفئة الثانية فهي برئاسة الدكتور أواديس وتعرف بحزب »الهانشاق« أو الـحزب الديـمقراطي، وأكثر أفرادها في كساب وإسكندرونة وقرقخان وأنطاكية وبنياس (جبل موسى). وهذه الفئة أيضاً ميالة إلى إقرار الوضع الـجديد ومـمالئة للسلطة الـمنتدبة. أما الفئة الثالثة من أتباع الدكتور ماتوسيان، فقد تعاونت مع العرب مباشرة لـمقاومة الأتراك، وتألف حزب بإسم »الـحزب العربي الأرمني« برئاسة الدكتور ماتوسيان، وأكثر أتباع هذا الـحزب من الأرمن هم في أنطاكية وإسكندرونة وكساب وبنياس. وهناك فئة رابعة مؤلفة من شباب الأرمن العمال ومن الـمتطرفين وقد ألفوا »الـحزب الشيوعي« وهم ضد الأتراك وأهم أتباعه في إسكندرونة والصاو وقلوق وقرقخان وبيلان وبنياس وكساب. ولا ريب في أن صلات الأرمن السابقة مع الأتراك والـمذابح التي كانت تـحصل بصورة دورية في العهد العثماني، قد عملت عملها في جعل الأرمن كافة يقفون موقفاً معادياً للأتراك، فتعاون قسم منهم مع السلطة الـمنتدبة لتأييد قرار مجلس العصبة وانضم القسم الآخر إلى العرب لتأييد فكرة بقاء لواء الإسكندرونة ضمن البلاد السورية.

استقبال القرار في الـجمهورية التركية

استقبل الأتراك قرار مجلس العصبة بفرح الـمنتصر، وأعرب عصمة أينونو عن ارتياح الـحكومة التركية بقرار العصبة في الـمجلس الوطني الكبير في 29 كانون ثان 1937 وأثنى على العصبة في حل قضية الإسكندرونة. وفي 30 كانون ثان احتفل في إستنبول بعيد من أجل حل قضية اللواء. وحدث مثل ذلك إحتفالات أخرى في أزمير وأدنة ومدن تركية أخرى. وفي 14 حزيران أبرم الـمجلس الوطني الكبير الـمعاهدة الفرنسية التركية التي عقدت في 29 أيار 1937 لضمان كيان اللواء والـحدود السورية. وفي أواخر حزيران زار وفد الـحكومة السورية إستانبول، كما رأينا، وجرت مذكرات بشأن تطبيق قرار مجلس العصبة. وكذلك أثنت الصحف التركية، وهي ناطقة بلسان حكومتها، على التسوية التي تـمت في جنيف واعتبرتها نصراً للحكومة التركية.

واستمر موقف الـحكومة التركية موالياً لقرار مجلس العصبة حتى مجيء لـجنة الإنتخابات الأولى إلى لواء الإسكندرونة وقيامها بتحضير قانون الإنتخابات، ولـما تمّ وضع القانون دون أن يكون للحكومة التركية نصيب في تـحضيره قدمت اعتراضات جمة إلى مجلس العصبة وأصرّت على تعديله بـما يتفق مع مصلحة أتراك اللواء. وقد أحيل الأمر إلى مجلس العصبة الذي اتخذ قراراً بذلك وتألفت لـجنة لتعديل قانون الإنتخايات.

موقف العراق وفلسطين والبلاد العربية الأخرى

حين عرضت قضية الإسكندرونة على مجلس العصبة كانت في العراق حينئذ حكومة السيد حكمت سليمان وكان موالياً لتركية فلم تعضد الـحكومة السورية، ولـما مرّ الدكتور ناجي الأصيل وزير خارجية العراق، بالشام، وعرضت عليه وجهة النظر السورية وعد بعرضها على الـحكومة التركية، ولـما حل بأنقرة عرض وجهة النظر السورية على الـحكومة التركية ثم عاد إلى الشام وعرض كذلك وجهة النظر التركية، ولم يتدخل في توسط ما يساعد على حل القضية.

بيد أن تدخل العراق وتأييده لسورية قد حدث في عهد حكومة السيد جميل الـمدفعي وقد لعب السيد توفيق السويدي دوراً مهماً في مشروع التقسيم وبعث بـمذكرات إلى تركيا بوساطة وزير العراق الـمفوض السيد ناجي شوكة.

أما الـجهات العربية الأخرى فقد اقتصر تأييدها بصحافتها أو بإرسال برقيات الاحتجاج إلى عصبة الأمـم. فأرسلت اللجنة العربية العليا بفلسطين مذكرة بالفرنسية تـحتج فيها على قرار مجلس العصبة، وكذلك أرسل نادي الطلبة السوري في مصر احتجاجاً إلى عصبة الأمـم ووزارة الـخارجية الفرنسية. وأذاعت اللجنة التحضيرية للدفاع عن سورية وفلسطين بالقاهرة بياناً إلى الـجمعيات والـجهات العربية الـمنتشرة في العالم، ولا سيما في الـمهجر، لنصرة سوريا ولواء الإسكندرونة. وقد أرسلت الـجمعيات العربية برقيات الإحتجاج على قرار العصبة، وتأييد موقف سورية وحقها في لواء الإسكندرونة.

وأرسلت لـجنة الدفاع عن فلسطين في بغداد مذكرة إلى عصبة الأمـم طلبت فيها حل قضية إسكندرونة حلاً عادلاً يؤيد وجهة العرب نظراً لعروبة اللواء.