بـموجب الـمادة الأولى من قرار مجلس العصبة، التي تنص على وجوب استمرار الـمفاوضات بين فرنسة وتركية بصورة مباشرة، استأنف الدكتور رشدي آراس مذكراته مع وير خارجية فرنسة، الـمسيو دلبوس، ومعاونه الـمسيو فينو. وسافر الدكتور آراس من جنيف إلى باريز لهذا الغرض، وصحبه وزير السويد الـمفوض في سويسرة (بالنيابة عن الـمقرر الـمسيو ساندلر مـمثل السويد)، فابتدأت الـمفاوضات في 21 كانون أول 1936. وشخص سفير فرنسة في أنقرة، الـمسيو هنري بونسو (Henri Ponsot)، إلى باريز للمشاركة في هذه الـمفاوضات التي استمرت إلى 18 كانون ثان 1937 (وهو موعد إعادة القضية إلى العصبة إذا لم تسفر الـمفاوضات عن حل لها) فاضطر الـجانبان إلى طلب تأجيل إحالة القضية إلى 21 كانون ثان للنظر فيها فوافق الـمجلس على ذلك.
وفي أثناء الـمفاوضات التي جرت بين 21 كانون أول 1936 و21 كانون ثان 1937، لم يغيّر الدكتور آراس موقفه في ما يخص فصل اللواء عن سورية وإنـما أخذ يتفنن في كيفية طلب الفصل بشتى الـمشروعات والـمقترحات. وربـما كان مشروع الكونفدراسيون أهم وأخطر ما قدمه في مذكرته التي وجهها إلى وير خارجية فرنسة في 11 كانون ثان 1937 وتتضمن هذه الـمذكرة الإقتراحات التالية:
(1) تأليف اتـحاد (Confederation) من الدول الثلاث: سورية، ولبنان، وسنجق الإسكندرونة.
(2) لكل دولة حكومتها الـخاصة وسيادتها غير الـمقيدة، مع الاشتراك في الأمور التالية:
أ- في الصلات الـخارجية ومن ضمنها التمثيلان الدبلوماسي والقنصلي.
ب- اتـحاد كمركي
ج- اتـحاد في العملة
(3) توزيع نفقات الـمشاركة في الأمور السابقة على حكومات الإتـحاد بالنسبة لعدد السكان.
(4) تكون عاصمة الإتـحاد...(على أن يعين الـمحل في ما بعد)
(5) تؤلف لـجنة تنفيذية يكون عدد أعضائها متساوياً من برلـمان كل دولة لأجل مـمارسة السلطة التنفيذية في الأمور الـمشتركة للإتـحاد ويجب أن تكون قرارات هذه اللجنة إجماعية في الأمور الـخارجية وفي الأمور الـخاصة بوضع الإتـحاد. أما في القرارات الأخرى فتكفي الأكثرية، وإذا اتخذ قرار ما يخص إحدى الدول فإن هذا القرار يجب أن يسن بطريقة قانونية في برلـمان تلك الدولة حتى يـمكن تطبيقه.
(6) لكل دولة مـمثل ارتباط (Agent de liaison) في كلا الدولتين الأخريين لأجل تـمكين الصلة بين دول الإتـحاد.
(7) تعقد اللجنة التنفيذية الـمعاهدات الدولية ولكنها لا تكون نافذة إلا بعد إبرامها من قبل البرلـمانات الثلاثة.
(8) يعتبر سنجق الإسكندرونة ضمن الإتـحاد دولة محايدة غير مسلحة. وهذا معناه عدم تطبيق التجنيد الإلزامي فيه، وعلى ألا تؤسس فيه قواعد عسكرية، ولا تؤلف قوات مسلحة إلا ما يلزم لـحفظ الأمن الداخلي.
(9) تعقد معاهدة تركية فرنسية لتحل محل الإتفاقيات التركية الفرنسية للسنوات 1921، 1923، 1926. وتتضمن هذه الـمعاهدة تأليف الإتـحاد (الكونفدراسيون)، وضمان سنجق الإسكندرونة من أي اعتداء أو هجوم على حدوده من قبل دولة أجنبية أو من قبل الدولتين الأخريين في الإتـحاد.
(10) يشمل ضمان تركية وفرنسة حياد سنجق الإسكندرونة والـمعاهدة التي تنص على كيانه ضمن الإتـحاد.
(11) تتضمن الـمعاهدة التركية الفرنسية حقوق وامتيازات تركية في ميناء إسكندرونة كما جاءت في بروتوكول إتفاقية أنقرة (1921).
(12) تـجرى الإنتخابات في سنجق الإسكندرونة لتأليف برلـمان يضع دستور دولة السنجق ويجب أن يتضمن هذا الدستور حرية الـمعتقد والثقافة، وعلى أن يكون شكل الـحكومة جمهورياً، وتكون التركية هي اللغة الرسمية في السنجق. وعلى أن تـجرى الإنتخابات لتأليف أول برلـمان في السنجق بـموجب إتفاقية تعقد بين تركية وفرنسة لهذا الغرض.
(13) كل من سكن سنجق الإسكندرونة وليس له جنسية أجنبية يعتبر مواطناً في السنجق. وكذلك يعتبر مواطناً كل من سكن السنجق منذ 20 تشرين أول 1921 أو من كان والده ملوداً في السنجق.
(14) يعتبر دستور السنجق نافذاً بعد موافقة تركية وفرنسة عليه.
هذه خلاصة الـمشروع الذي اقترحته الـحكومة التركية، وفيه بضعة أمور تستوجب التدقيق، وهي:
(أولاً) إن تركية لا تزال مصرة على وجوب فصل لواء الإسكندرونة عن سورية والاعتراف بكيان خاص له، إلا أنها تريد صراحة أن تكون التركية لغة اللواء الرسمية وأن يضع اللواء محتويات دستوره بحسب رغبته. ويفهم ضمناً من هذه الـمذكرة، ولا سيما رغبة تركية في عقد إتفاقية مع فرنسة تتعلق بإجراء الإنتخابات لأول برلـمان، إن تركية تريد أن تؤمن لأتراك اللواء الهيمنة على شؤونه.
(ثانياً) إن تركية تقترح تأليف كونفدراسيون من سورية ولواء الإسكندرونة وإدخال لبنان ضمن هذا الإتـحاد. ولا ريب في أن سورية يسرها أن يدخل لبنان في إتـحاد معها مؤملة أن يكون ذلك خطوة أولى في سبيل إتـحاد أوثق في الـمستقبل. ونحن نعلم أن السياسة الفرنسية تنزع إلى جعل لبنان دولة مستقلة تـماماً عن سورية، فماذا قصدت تركية من وراء هذا الإقتراح؟ هل هو تهديد للسياسة الفرنسية في الشرق الأدنى حتى تقلل فرنسة من تصلبها في قضية الإسكندرونة إجابة للمطالب التركية، أم هو تقرّب من الـحكومة السورية حتى تتعاون معها فتحصل تركية مطلبها من سورية وتقف تركية لقاء ذلك إلى جانب سورية في سبيل وحدتها السياسية؟
أنه لـمن العسير علينا أن نقرر بالضبط ما قصدته الـحكومة التركية. إذ مـما لا شك فيه أن الـحكومة التركية كانت تعلم أنه ليس في الإمكان تطبيقه من الوجهة القانونية لأنه يتضارب وأحكام صك الإنتداب على سورية ولبنان الذي ينص على تأليف دولتين مستقلتين[1]. وهي تعلم أيضاً أن فرنسة كانت تعارض فصل اللواء عن سورية لأن صك الإنتداب يتعارض مع طلبها. فلا ريب إذن في أن تركية لم تقصد من وراء مشروعها غير مناورة سياسية لـمناهضة السياسة الفرنسية في سورية، أو تقرباً من الـحكومة السورية بعرض فكرة إدخال لبنان في اتـحاد معها. وقد تكون الـحكومة التركية قد رمت إلى الغايتين معاً.
تصلب الـحكومة التركية في مطالبها
لم تثمر الـمفاوضات الـمباشرة في باريز نظراً لإصرار الـحكومة التركية على وجهة نظرها، وهي فصل اللواء عن سورية، فترك الدكتور آراس باريز ثم عقبه الـمسيو بونسو حيث رجع إلى مقر وظيفته في أنقرة.
وكان الدكتور آراس قد أطلع الـمجلس الوطني الكبير على سير الـمفاوضات مع فرنسة منذ بدئها، فقد سبق أن ألقى خطاباً في 27 تشرين ثان 1936 ضمنه خلاصة الـمفاوضات التي جرت بين الـحكومتين. ثم ألقى في حزب الشعب بعد عودته من باريز، في 5 كانون ثان 1937 خطاباً استعرض فيه سير الـمفاوضات التي استؤنفت في باريز، فأظهر بعض أعضاء الـحزب استياءهم من بطء سير الـمفاوضات وعدم النجاح في إقناع الـحكومة الفرنسية بوجهة نظر الـحكومة التركية. وقد أدى لك إلى زيادة حدة لهجة الصحف التركية وتهديدها الـحكومة الفرنسية والشعب السوري باحتلال اللواء بالقوة.
وفي 6 كانون ثان 1937 ترك الرئيس أتاتورك أنقرة وسافر بقطار خاص إلى قونية (وهي مركز القيادة العسكرية الـجنوبية) وعقد اجتماعاً في أثناء الطريق، في أسكى شهر، مع رئيس الوزراء ووزير الـخارجية ووزير الداخلية ورئيس أركان الـحرب. وفي 7 كانون ثان عبر الرئيس أتاتورك قونية ووصل إلى أولوفشة وشاع على أثر ذلك أن قوات عسكرية تركية كانت ترابط هناك قرب حدود لواء الإسكندرونة. ولا ريب في أن هذه الـحركة كانت »مناورة« عسكرية لإظهار استعداد تركية للإلتجاء إلى وسائل العنف لتأييد وجهة نظرها إذا لم تـحصل على ذلك بالـمفاوضات.
وفي نفس هذا اليوم كان سفير تركية في باريز، سعاد دراز، قد زار الـمسيو فينو في وزارة الـخارجية وأكد عليه إصرار تركية على وجهة نظرها. ويظهر أن تهديد الـحكومة التركية لـحل قضية الإسكندرونة بوسائل العنف قد أحرج موقف الـحكومة الفرنسية في هذه الآونة، فظهر لها أنها إذا استمرت على موقفها في عدم التنازل أمام إصرار الأتراك فيجب عليها أن تقابل تهديد الأتراك بـمثله، باستعدادها للحرب إذا اقتضى الأمر.
لم يكن وضع فرنسة في أوائل كانون ثان 1937، وشبح الـحرب في أوروبة مائل للدول الديـمقراطية، يساعدها على الدخول في حرب من أجل قضية كهذه. وكانت انكلترة وفرنسة تخشيان خطر إيطالية، ذلك الـخطر الذي دفعهما إلى استرضاء تركية في مؤتـمر منترو (Montreux) والسماح لها بـموجبه بتسليح الـمضايق (20 تـموز 1936)، فلم يكن في مصلحة فرنسة إذن أن تقصم عرى هذه الصداقة الـجديدة من أجل قضية الإسكندرونة. وكانت إنكلترة تسعى لـحل هذه القضية بشكل يزيد في التقارب بينها وبين فرنسة وتركية لا إلى إبعاد تركية عن حظيرتهما.
لقد كانت الظروف الدولية القائمة عاملاً خطيراً في تقرير مصير لواء الإسكندرونة، لأنها وضعت فرنسة في موقف جدّ حرج، فكان عليها إما التضحية بالصداقة التركية- وهذا معناه تقوية مركز إيطالية في البحر الـمتوسط- أو فصل اللواء عن سورية. وقد اختارت فرنسة الـموقف الذي أيّد مصلحتها. ولذلك فعلى أثر زيارة سفير تركية لوزارة الـخارجية الفرنسية في 7 كانون ثان 1937 نشر خبر رجوع الرئيس أتاتورك من قونية إلى أنقرة. وقد دلّ ذلك بلا ريب على ارتخاء التصلب الفرنسي أمام الـمطالب التركية لئلا يؤدي النزاع إلى حرب بين الدولتين. وفي 8 كانون ثان عقد مجلس الوزراء التركي اجتماعاً برئاسة كمال أتاتورك وفيه اتخذ قرار في ما يخص الـمقترحات التركية، التي لم تزل تدور حول فصل اللواء عن سورية، وأرسلت إلى باريز حيث قدمت إلى الـحكومة الفرنسية بوساطة السفير التركي سعاد دواز.
مشروع المسيو بلوم
جاء الآن طور التنازل الفرنسي، فإن الـحكومة التركية وضعت الـحكومة الفرنسية في موقف حرج، فقد عرضت عليها (أولاً) فصل اللواء عن سورية، (ثانياً) مشروع الكونفدراسيون، (ثالثاً) التهديد بالقوة لفصل اللواء إذا اقتضى الأمر.
اضطرت الـحكومة الفرنسية أمام هذا التهديد، وأثناء ظروف دولية غير مؤاتية لها، أن تتنازل عن إصرارها في وجوب حصر الـمفاوضة ضمن إتفاقية أنقرة. فكتب الـمسيو ليون بلوم (Leon Blum)، رئيس مجلس وزراء فرنسة، رسالة إلى سفير تركية في باريز بعثها إليه في 18 كانون ثان 1937 عرض فيها وجهة نظره الـجديدة وهي إهمال الـمناقشة القانونية ضمن أحكام اتفاقية أنقرة، واقترح مشروع نظام خاص باللواء على أن يعيّن لإدارته مفوض سام من الـجنسية الفرنسية يختاره مجلس العصبة، على أن يعرض هذا الـمشروع بعد موافقة الـحكومتين الفرنسية والتركية على مجلس العصبة لاتخاذ القرار بتنفيذه. وسنلخص في ما يلي رسالة الـمسيو بلوم هذه والـمشروع الذي اقترحه للتوفيق بين وجهتي النظر التركية والفرنسية.
يبدأ الـمسيو بلوم رسالته بقوله أن الـمناقشة حول قضية الإسكندرونة من الوجهة القانونية تؤيد وجهة النظر الفرنسية لا التركية، وأن إصرار تركية على تأييد وجهة نظرها من الوجهة القانونية معناه الرجوع ثانية إلى طراز الـمناقشة التي دارت بين الـحكومتين في جنيف، ولن تـجدي هذه الـمناقشة نفعاً. ولذلك فهو يرى وجوب البحث عن طريقة أخرى تأخذ بنظر الاعتبار دور مجلس العصبة لتأييد أي اتفاق يحصل بينهما، لأن للمجلس فقط الـحرية في تقرير مصير اللواء ولا تـمتلك فرنسة هذه الصلاحية. وللوصول إلى هذا الـحل يجب أن تتفق الـحكومتان أولاً على مشروع ومن ثم يعرض على مجلس العصبة لاتخاذ القرار بشأنه، وأن الـحكومة الفرنسية تصرح بأنها لن تضع أي شيء من شأنه أن يعرقل ما يراه الـمقرر، ضمن نطاق إنتدابها، في سبيل حل النزاع وأنها ستوافق على ما يراه قبل عرضه على مجلس العصبة لاتخاذ القرار.
ثم يتساءل الـمسيو بلوم: هل في الإمكان أن تتوصل الـحكومتان الفرنسية والتركية إلى إعداد مشروع يوفق بين وجهتي نظرهما؟ أما من جهته- يقول الـمسيو بلوم- فهناك أمران متميزان، الأول مركز اللواء النهائي الذي يعيّن بعد تنفيذ الـمعاهدة الفرنسية السورية وهناك ثانياً الوضع الانتقالي.
أما الأمر الأول فهو الأكثر أهمية في نظر الـمسيو بلوم، فهو يرى أن من حق الـحكومة التركية أن تظهر اهتماماً في ما يخص تنفيذ اتفاقية أنقرة بعد أن تخرج الـمعاهدة الفرنسية السورية إلى طور التنفيذ. ولكن في رأيه أن ضمان هذا التنفيذ يتعلق ليس بسورية حسب، بل بفرنسة أيضاً التي عقدت اتفاقية أنقرة كدولة منتدبة. ولذلك فإن عصبة الأمـم يهمها الأمر، لصلته بالانتداب، في ما يخص تنفيذ اتفاقية أنقرة.
ومن هنا يتوصل الـمسيو بلوم إلى نتيجة مهمة وهي أن تنفيذ الـمعاهدة الفرنسية السورية يؤدي إلى التفكير في مصير لواء الاسكندرونة، وفي ما يتعلق بهذا اللواء فقط، يجب استمرار شكل من أشكال الانتداب الذي يـمكن تـحويله – مثلاً- إلى نظام خاص (Regime Special) تـحت مراقبة مفوض سام يعين من العصبة على أن يكون هذا الـمفوض فرنسياً. وهكذا تكون الـحكومة الفرنسية قد أجابت مطالب الـحكومة التركية الرئيسية. أما الطور الإنتقالي فلا يجب أن يثير الشك في نفوس أتراك اللواء لأنه طور تـحضيري فقط، لإعداد اللواء وإقامة نظام نهائي منفصل.
ولا ريب في أن هذا النظام سيضمن ما تتطلبه تركية من النواحي الاإدارية والثقافية ونزع السلاح واستعمال ميناء إسكندرونة. وستبقى بعض الأمور الـخاصة الـمتعلقة بتعيين حاكم اللواء الذي يـمكن في نظره أن تتدخل لـجنة الإنتدابات في الأمر لتوضيح مركزه، وكذلك قضية مشاركة مندوبي اللواء في الـمجلس السوري.
وبيّن الـمسيو بلوم أن أي حل قد يتخذه مجلس العصبة يجب أن يسبقه اتفاق بين فرنسة وتركية وإلا فإن الـحكومة الفرنسية ليست مضطرة إلى قبوله.
وأخيراً أشار الـمسيو بلوم إلى عدم إمكان تطبيق مشروع الكونفدراسيون، لأن التجربة قد دلت – في نظره- على عدم إمكان نـجاح مثل هذا الـمشروع.
وعلى هذا الأساس اتفق الـجانبان الفرنسي والتركي على استمرار الـمفاوضة في جنيف، بالـمشاركة مع الـمقرر الـمسيو ساندلر، لوضع تفاصيل مشروع النظام الـخاص قبل عرضه على مجلس العصبة لاتخاذ القرار بشأنه. وقد عرض الوفدان الفرنسي والتركي مقترحات تتعلق بتفاصيل هذا الـمشروع اتخذها الـمقرر أساساً لوضع تقريره الذي رفعه إلى الـمجلس وضمنه مشروع النظام الـخاص بلواء الإسكندرونة.