بقلم بدر الـحاج
(ليس الـخطر الشمالي بأقل خطراً من الـجنوبي القائم في فلسطين. وإذا ظننا أنَّه لا توجد لنا قضية عملية سياسية اقتصادية إلاّ قضية فلسطين فقد برهنا على أننا لا نعي حقيقة قضايانا، فنحن نعرّض أنفسنا لـخطر ساحق داهم في الوقت الذي نعالج فيه خطراً واحداً مداهماً.
قضية الأمة قضية واحدة، فإذا لم نع إلاّ جزءاً واحداً منها فلسنا قائمين على أساس صحيح وليست خططنا صحيحة يـمكن أن تنقذ الـمصير القومي)
أنطون سعادة
مدخل
كانت سورية بعد الـحرب العالـمية الأولى مركز التصادم السياسي والاقتصادي بين فرنسة وبريطانية. وكان من نتيجة هذا التصادم بين الـمصالح الاستعمارية مزيداً من التمزق والتشرذم في شعبنا قادنا إلى كوارث قومية كانت أولها الـمؤامرة الاستعمارية في مسألة سلخ لواء الاسكندرون. وبعد الـحرب العالـمية الثانية كانت النتيجة اغتصاب فلسطين. وتتشابه الأدوار في كلتا الـمسألتين. فشعبنا الذي كان فاقداً أي تنظيم باستثناء الـحزب السوري القومي الاجتماعي، شعبنا هذا واجه مؤامرات الاستعمار الـمتعاون مع الطبقة الرجعية الـخائنة وكانت الكوارث القومية.
المطامع التركية في سورية
ظهرت الـمطامع التركية إثر معاهدة لوزان (1923) بعد الـحرب العالـمية الثانية. وذلك حين أبدت تركية رغبتها في السيطرة على منطقة الـموصل في شمال العراق. وهي الـمنطقة الاستراتيجية الغنية بحقول النفط. ولكن رغبة الـحكومة البريطانية في ذلك الوقت بالـمحافظة على الـمنطقة لـمواصلة احتكاراتها النفطية وسيطرتها على العراق. أفشلت مساعي تركية خصوصاً بعد وقوف عصبة الأمم بجانب العراق بناء للتعليمات البريطانية. (1)
بعد عشر سنوات ظهرت الـمطامع التركية في الاسكندرون بالرغم من أن مسألة الـموصل بقيت عالقة بسبب تصلّب الـموقف البريطاني واستمرار مطالبة الأتراك بها. لكن الصورة في الاسكندرون اختلفت فقد عرضت فرنسة عرضاً سخياً للأتراك في معاهدة أنقرة (1921) وأعطتهم امتيازات خاصة في السنجق. وأقامت لهم نظاماً خاصاً. وأصبحت اتفاقية أنقرة من الأسباب الرئيسية التي تذرعت بها تركيا في مطالبتها بلواء الاسكندرون في الثلاثينات. أما الأسباب التي حدت بفرنسة لتوقيع اتفاقية أنقرة في 20 تشرين الأول 1921، فهي رغبتها في تلك الفترة أن يكون لها تأثير مباشر في بحر ايجة وآسيا الوسطى في وجه محاولات بريطانية التي كانت تدعم اليونان في خلافاتها مع تركيا. لذلك توثقت العلاقات بين فرنسا وتركيا وبدأت الزيارات والـمحادثات بين مصطفى كمال وفرنكلين بويون التي أثمرت في الوصول إلى معاهدة أنقرة حيث تـمتع السكان الأتراك بحرية إنـماء ثقافتهم، واعتبرت اللغة التركية لغة رسمية. وهكذا اقتطعت فرنسة من الأراضي السورية 180 كيلومتراً مربعاً كهدية إلى تركيا. وتشير الإحصاءات الرسمية الفرنسية في تلك الفترة أن عدد سكان سنجق الإسكندرون كان حوالي 000.220 نسمة، نسبة الأتراك فيهم 87000 ألف نسمة فقط أما الباقي فكانوا من السوريين. (2)
مطامع جديدة
اغتنمت تركية الوقت الـمناسب للتحرك والـمطالبة بـمناطق جديدة. فبعد تصفية الـمقاومة الكردية في شمال سورية وانشغال الفرنسيين في ثورة جبل الدروز سنة 1925. وضع الأتراك مطالب جديدة بأراضي جديدة. وبعد سلسلة من الـمفاوضات بين فرنسة وتركيا تـمّ الإتفاق في 22 أيار 1929 على تقسيم الـمنطقة بين تركية وسورية على أن تنال تركية 1/5 من الأراضي ويترك القسم الباقي إلى سورية (3). ولكن هذا الإتفاق كان بدون شك اتفاقاً مرحلياً ما لبث أن نقضته تركيا وطالبت بـمناطق جديدة أخرى.
بين سنوات 1929 و 1936 اهتمت تركية بسكان السنجق وبنمو الثقافة التركية فكان الطلاب الأتراك في السنجق يذهبون إلى تركية للدراسة على نفقة الـحكومة التركية. وكانت الزيارات للسنجق متواصلة من قبل الـمسؤولين الأتراك وانتظرت تركية الوقت الـمناسب للتحرك من جديد لضم اللواء اليها. وكان ذلك بعد توقيع الـمعاهدة السورية الفرنسية في 9 أيلول 1936 التي وعدت سورية بـموجبها بانتهاء الانتداب تـمهيداً لإعطائها الاستقلال.
كانت اتفاقية سايكس- بيكو سنة 1916 الطعنة الأولى في جسم سورية. اقتسمت فرنسة وبريطانية بلادنا وكان العراق وشرق الاردن وفلسطين منطقة انتداب بريطانية. والشام ولبنان منطقة انتداب فرنسية. في ذلك الوقت كان شعبنا غارقاً في تـمزّقه القومي وتناقضاته الطائفية والفئوية، مسيطراً عليه جماعة إقطاعية تـمثّل الإقطاع الطائفي العشائري القبلي مفرزة من بقايا الـحكم العثماني، ومرسخة وجودها بدعم من الاستعمار الـجديد الذي دخل بلادنا تـحت اسم الانتداب. هذه الطبقة الطائفية الإقطاعية القبلية لعبت دوراً هاماً في تسليم أرضنا للأتراك في الشمال، ولليهود في الـجنوب. وتـمزيق شعبنا إلى طوائف ومذاهب.
أعلن عصمت أينونو رئيس الوزراء التركي لنوري السعيد أثناء مروره في إسطنبول في طريقه إلى جنيف عن رغبة الـحكومة التركية في حل »مشكلة الاسكندرون« مباشرة مع سورية. وبأنه يرغب في مرور الوفد السوري أثناء عودته من باريس في تركيا لبدء الـمفاوضات. ونفذ الوفد السوري »الأوامر« وبدأت الـمفاوضات بصدد الإسكندرون مع وزير الـخارجية التركية.
وما لبث أن أعلن هاشم الأتاسي أحد أعضاء الوفد »«أن الأتراك في الإسكندرون سيتمتعون بنفس الـحقوق والواجبات التي للسكان العرب« . بعد ترك الوفد السوري تركيا شددت تركية الضغط فدعا كمال أتاتورك في خطابه إلى الشعب أخذ مسألة الإسكندرون بجدية لأنها (أراضي تركية)، وطالب وزير الـخارجية التركية رشدي أراس عصبة الأمـم «بـمحادثات مباشرة مع الـحكومة الفرنسية بشأن الإسكندرون» قبلت الـحكومة الفرنسية العرض التركي وبدأت الـمفاوضات في ظل إتفاقية أنقرة حسب طلب تركية وموافقة الـحكومة الفرنسية . ثم ما لبث أن رفع الـموضوع إلى الـجمعية الأمـمية حيث دافع رشدي أراس وزير خارجية تركيا عن وجهة نظر حكومته معتبراً أن الإنتداب لا يشمل سنجق الإسكندرون حسب بنود إتفاقية لوزان، إثر ذلك عيّن السيد سندلر السويدي كمعتمد للجمعية الأمـمية في اللواء لكي يرفع تقريره عن الوضع، واتفقت فرنسة وتركية على تأجيل البحث في الـموضوع الى دورة الـجمعية القادمة حتى يتسنى لبعثة سندلر أن ترفع تقريرها عن الوضع في مدة أقصاها شهر شباط 1937 (4)
الوضع الدولي والضغط التركي
من الـملاحظ أن الوضع العالـمي في تلك الفترة لم يكن يناسب فرنسة فخطر بدء حرب في أوروبة بدأ يظهر وكانت بريطانية وفرنسة بحاجة إلى تركية وصداقتها في الـمتوسط للوقوف في وجه تهديد موسوليني في منطقة شرق الـمتوسط. استغل الأتراك الوضع الدولي هذا وقاموا بحملة ضغط جديدة إعلامية دبلوماسية، فبدأت الإجتماعات بين رئيس الـجمهورية التركية أتاتورك ورئيس الوزراء ووزير الـخارجية ووزير الدفاع. وزار أتاتورك جنوب تركية ومقر القوات الـمسلحة فيها واجتمع السفير التركي بالسيد فينوا مؤكداً صلابة الـموقف التركي.
نـجحت الـحملة التركية وبدأ الـموقف الفرنسي بالتساهل وذلك في رسالة أرسلها رئيس الوزراء الفرنسي إلى السفير التركي في باريس يعلن »أن فرنسة ترى وجوب الوصول إلى اتفاق حول الإسكندرون وأن جمعية الأمم لها الـحق وحدها في تقرير مثل هذا الأمر«.
قدم سندلر تقريره الذي ينص على أن السنجق يؤلف منطقة مستقلة منفصلة تكون سورية مسؤولة عن السياسة الـخارجية وأن يكون لها إستقلالاً داخلياً كاملاً، وأن لا يكون للسنجق جيش بل حرس محلي للأمن الداخلي. ونص البند الرابع على أن تكون اللغة التركية اللغة الرسمية. وافقت الـجمعية الأمـمية على تقرير سندلر بحضور وفد سوري برئاسة رئيس الوزراء جميل مردم بك الذي صرح إلى الصحف التركية أثناء مروره في إسطنبول في طريقه إلى باريس »ليس بين الأمتين السورية والتركية أي عداء كما زعم البعض، إلا أن هناك أموراً أوجبت سوء التفاهم رأينا ازالتها بواسطة الـمحادثات الدبلوماسية. إن الأمة السورية وحكومتها تؤمنان بحسن نيات الأمة التركية وحكومتها وتعلقان على هذه النيات الـحسنة كل أمل في أن تسفر الـمحادثات القادمة عن نتيجة موافقة ومرضية« (5). وسوف نعرض بالتفصيل لـمواقف مردم بك وجماعته من شركة » الكتلة الوطنية« بعد قليل.
الصداقة الفرنسية التركية
وضعت مقترحات سندلر بعد موافقة الـجمعية الأمـمية عليها موضع التنفيذ في 29 تشرين الثاني 1937 وفي اليوم نفسه وقعت فرنسة وتركية اتفاقاً لـحماية النظام الـجديد في اللواء من الهجمات الـخارجية ونصّت الإتفاقية الفرنسية التركية الـموقّعة في أواخر أيار 1937 في مركز جمعية الأمـم على خمسة بنود. وجاء في البند الثالث »بيان فرنسي تركي يؤكد إتفاق وجهات النظر بين الـحكومتين لتأييد نظام الـحدود في معاهدة لوزان وتدعيم السلام بالتعاون في قلب جامعة الأمـم وتقوية السلامة في البحر الـمتوسط الشرقي« (6)
وهكذا نالت فرنسة مطالبها »بتقوية السلامة في البحر الـمتوسط الشرقي« في وجه مد وسيطرة موسوليني لقاء تنازلاتها لتركية.
إزاء قرارات جنيف احتج النواب في برلـمان دمشق لأن »الأمة السورية علّقت على الضمير الدولي أسمى آمالها، فهي لا تعترف بأي حل يخرق وحدتها ويعرقل نهضتها« (7)
وانطلقت الـمظاهرات احتجاجاً على قرارات جنيف في دمشق والـمدن الشامية الأخرى بينما انطلقت الـمظاهرات في إسطنبول من قبل الأتراك وأعضاء جمعية هاتاي ابتهاجاً بفوز تركية. في ذلك الوقت أيّد الأمير عبد الله الأتراك وقام بعد ذلك بزيارة لتركية كذلك كان موقف الفئة الـحاكمة في العراق التي أيّدت موقف تركيا بناء للتعليمات البريطانية وقام نوري السعيد بزيارات إلى أنقرة.
ورغبة من الزعماء التقليديين في إيقاف الـمظاهرات أصدر عبد الرحمن الشهبندر بياناً أعلن فيه »ليل أمس رؤي أن الـمصلحة الوطنية في الظرف الـحاضر تقضي بتأجيل الـمظاهرات«(8) وأدلى وزير الـخارجية التركية بتصريح أعرب فيه عن »محبته للسوريين« فقال: سنطبق إتفاقية جنيف بوفاء وإخلاص فقد تبنينا أحسن أسلوب بعهدنا إلى جامعة الأمـم بتسوية الـمسألة لخدمة السلام وتصفية الـخلاف السوري نهائيا.
وفي هذه القضية تعاونت فرنسة السلطة الـمنتدبة وتركية الصديقة والـجارة لتسهل السبل إلى نـمو الأمة السورية الفتية وتعجيل قبولها في جامعة الأمم ولـخدمة أراضيها وصيانتها. أما الـحوادث التي حصلت في اللواء بين العرب والأتراك نعتبرها سوء تفاهم يجب أن يتبدد ويزول وألا يسيء إلى مصالح الطرفين إننا نحب السوريين ونتمنى لهم السعادة والرفاهية من صميم أفئدتنا وستساهم تركية في تكبير مرفأ الاسكندرون الذي يرجى له مستقبل باهر، وهي مستعدة لشراء جميع منتجات هذه الأرض فلتثق سورية بنا تربح« (9)
بـموجب إتفاقية جنيف عيّنت لـجنة للإشراف على الإنتخابات في اللواء، فمارست تركية الضغط على اللجنة وأخرجت عدداً من الـمسؤولين السوريين وعينت مكانهم مسؤولين أتراك. واعتقل عدد من الزعماء السوريين وأخرج عدداً من الـمساجين الأتراك ويقول تقرير نبيه العظمة الـمرفوع إلى الـحكومة الشامية والـمؤرخ في 19 شباط 1938 »وهكذا بدأت القوة التركية بالازدياد يوماً بعد يوم بسبب الـخطط التركية الهادفة الـمستمرة، وضغط وتهديد الـجيش التركي الـمستمر وكانت الإشاعات مستمرة تصل إلى سكان اللواء عن إمكانية دخول الـجيش التركي الذي حشد قواه على حدود تركية الـجنوبية في أية لـحظة« (10)
في ذلك الـجو بدأت الـمفاوضات بين عادل أرسلان الـمندوب الشامي في أنقرة والـحكومة التركية للوصول إلى اتفاق بتقسيم اللواء بين الشام وتركيا.
تـمت الإنتخابات في 15 تـموز 1938، ففاز الأتراك بـ 22 مقعداً والسوريون بـ 18 مقعداً. والإنتخابات هذه طريفة جداً. فقد قسم سكان اللواء حسب الأجناس والـمذاهب فكان الأتراك من جهة والعلويين والعرب، والأرمن والروم الأرثوذكس والأكراد والأقليات الأخرى في جهات مختلفة. وهكذا تـمزق شعبنا أمام سياسة التجزئة التي اعتمدت في الإنتخابات وكانت النتيجة أن فاز الأتراك بالإنتخابات كأكثرية بين هذه الأقليات الـمبعثرة وشجع على ذلك اعتماد الكتلة الوطنية في دمشق على تنفير العناصر «غير العربية»، وهكذا أصبح للأتراك الأكثرية الرسمية في اللواء وانتخب عبد الغني تركمان رئيساً للبرلـمان وأعلن في أول خطاب له (إن اللواء قد حُرر من الطغيان)وانتخب رئيساً للولاية صديق أتاتورك الـحميم تيفور بك سوكما وفي أول اجتماع للبرلـمان تغير اسم اللواء إلى إسم »هاتاي« التركي وما لبث أن عرف بجمهورية هاتاي وبدأ الـمسؤولون الأتراك بزيارة اللواء وتنظيم الإدارة فيه وتغيرت العاصمة من الإسكندرون إلى أنطاكية، وبدأت الـجمهورية تنفيذ القوانين الـمدنية التركية. وانضمت »هاتاي« إلى تركيا بقرار من البرلـمان الذي اجتمع في 29 أيار 1939 وأصبح لواء الإسكندرون الولاية الـ 63 من الـجمهورية التركية.
هكذا سلمت فرنسة اللواء إلى تركيا باتفاقية صداقة مخالفة لقرار الإنتداب الذي نص على تـحضير الشام ولبنان للاستقلال. بقيت جمعية الأمم صامتة لهذه الـجريـمة التي ساعد فيها بشكل رئيسي بالإضافة إلى الظروف الدولية، تفكك العصبية القومية في شعبنا، وتآمر »الكتلة الوطنية« على الشعب ومصيره بالـموافقة ضمنا على تصرفات فرنسة وتركية. وهذا ما سنظهره في القسم الثاني من هذا البحث بعد عرض موقف الطبقة الرجعية الـممثلة »بالكتلة الوطنية « وموقف سورية الـجديدة الـممثلة بطلائعها الثورية : الـحزب السوري القومي الإجتماعي.
عرضنا في القسم الأول مسألة الإسكندرون عرضاً تاريخياً سريعاً مشيرين إلى الـمراحل الرئيسة التي مرت بها الـمسألة الإسكندرونية. يقول سعادة »ليس فقد لواء الإسكندرون عائداً إلى السياسة الإنترنسيونية فحسب، بل إلى السياسة الـحزبية والعنصرية التي سارت عليها »الكتلة الوطنية« مضافة إلى عوامل السياسة الإنترنسيونية« (12)
تتلخص مسائل السياسة الإنترنسيونية في أن مصالح فرنسة التقت مع الـمصالح التركية، في فترة كانت فرنسة بحاجة إلى »قواعد آمنة« ومناطق صديقة في شرق الـمتوسط، فاقتطعت من منطقة الشام التي انتدبتها لواء الاسكندرون كهدية إلى تركية لربح صداقتها وهذا يبدو بوضوح في مصادقة مجلس الوزراء الفرنسي على ضم الإسكندرون نهائيا إلى تركية مقابل فتحها (أي تركية) الـمضائق للأساطيل البريطانية والفرنسية لتمر فيها إلى البحر الأسود كما أُعطي لها حق تـحصين الـخليج ليكون قاعدة بحرية تلتجئ إليها الأساطيل التركية والفرنسية والبريطانية في حال وقوع حرب.
كذلك يبدو التواطؤ الفرنسي التركي واضحاً في بنود الـمعاهدة التركية الفرنسية في 23 حزيران 1939 التي تضمنت فيما تضمنت:
تسليم جمهورية هاتاي ما عدا أنطاكية لسيادة تركية.
ضمان مصالح الفرنسيين في هاتاي.(13)
ولم تستطع فرنسة الوصول إلى غايتها هذه بسهولة بل شجعت النعرات الطائفية والعشائرية والعرقية التي ساعدت في تـمزيق شعبنا. كانت التجزئة الكيانية والعرقية والـمذهبية واللغوية الطعنة الثانية التي سددتها فرنسة بعد اتفاقية سايكس بيكو، فأصبحت بذلك أمتنا غير قادرة »على الوقوف كتلة واحدة لتمارس خصائصها وعصبيتها لأنها تخضع لأنظمة الـحياة القديـمة بكامل خطوطها وأشكالها، فهي تنقسم إلى عشائر وإلى أقاليم وإلى اقطاعات ومشيخات، فضلاً عن انقسامها إلى طوائف متعددة داخل الـمذهب الواحد، وإلى مذاهب متعددة داخل الدين الواحد« (14)
بدأت فرنسة بتنفيذ سياسة التجزئة إثر دخولها الشام ولبنان، فقد استعملت القوات الفرنسية الفرقة الشركسية الـمشهورة ببلائها لضرب ثورة 1925 الكبرى، كذلك شجعت السلطات الفرنسية الـمنتدبة الآشوريين والأكراد في لواء الـجزيرة للانتفاض على مركزية دمشق. ودغدغت عواطف الـمسيحيين (الـموارنة بشكل خاص) لإنشاء وطن قومي لهم في لبنان. وشجعت العلويين والدروز للانتفاض على مركزية دمشق.
ومضت فرنسة في سياستها هذه فشجعت قيام شركات سياسية بصفة »أحزاب« للوقوف في وجه الـمد الشعبي العارم الذي أحدثه ظهور الـحزب السوري القومي الاجتماعي في سنة 1935 فنشأت في لبنان مثلاً الشركات التالية: »الغساسنة« و»الطلائع« و»الكتائب« وغيرها. هذا باختصار دور فرنسة في الـمسألة، تآمر مع الأتراك وتـمزيق لشعبنا بإنشاء وتشجيع الـمحاور العرقية الـمذهبية الطائفية، وتعاون وثيق مع الطبقة الرجعية الـخائنة الـممثلة »بالكتلة الوطنية« في دمشق والـمحاور الطائفية الأخرى في لبنان.
موقف الـحزب السوري القومي الاجتماعي
أدرك سعاده منذ مطلع العشرينات الـخطط الفرنسية الرامية إلى تـمزيقنا ومن يراجع مقالاته في جريدة »الجريدة« الصادرة في سان باولو البرازيل ومجلة »المجلة« الصادرة في البرازيل أيضاً يرى بوضوح تركيز سعاده على كشف الـمؤامرات الفرنسية وسوف نقتطف هذه الفقرة للدلالة على هجوم سعاده الـمستمر على السياسة الإستعمارية الفرنسية في سورية من مقال بعنوان: »الإمبراطورية الإفرنسية الشرقية« كتبه وهو بعد في السابعة عشرة من عمره يقول: »لقد ظن غورو أنه بانتهاء معركة ميسلون انتهت القضية السورية وأصبحت سورية تـحت سيطرة فرنسة والـحقيقة هي أنه ما كادت معركة ميسلون تنتهي حتى ابتدأت الـمسألة السورية في دخول طور خطير… في سورية ستتقوض الأساسات التي شاد عليها الفرنسيس صروح الإمبراطورية الشرقية ومتى سقطت عليهم تلك الصروح أحدثت دوياً عظيماً تردد صداه جميع أقطار الشرق. أجل: إن العصر الذهبي الذي يعلل الفرنسيس أنفسهم بقرب مجيئه سيتحول إلى عصر دم« (15). واستمرت مواقف سعاده البطولية من قضية تـمزيقنا بعد وصوله إلى الوطن في صيف 1930، وسوف يلاحظ القارئ من مواقف سعاده أنه كان يتتبع قضية سلخ لواء الإسكندرون خطوة خطوة.
ففي أول خطاب ألقاه بعد عودته من الـمهجر في حفلة افتتاح نادي الطلبة الفلسطيني في الـجامعة الأميركية، حذّر سعاده من الـخطر اليهودي والتركي، فقال »إن الـخطر التركي أيضاً يقوى ويستفحل. فإن الـمطامع التركية تتجه إلى سورية أولاً لأن سورية مجزأة ومفككة الأوصال ويسهل التلاعب بـمآرب فئاتها اللا قومية العاجزة….. فإني أخشى أن تكون سوريانا آخذة في الانزلاق من أيدينا الـمتفرقة. ففي الـجنوب تتراجع الـحدود السورية أمام الـحدود اليهودية وفي الشمال تتقلص الـحدود السورية أمام الـحدود التركية« (16)
إثر ورود خبر الاتفاق الأوليّ بين فرنسة وتركية على منطقة الإسكندرونة في أواخر 1936 الذي اعتبر أول خطوة نحو إلغاء السيادة السورية على اللواء، كتب سعاده في جريدة الشرق: »إن تأمين السلام على الـحدود السورية التركية لا يـمكن أن يتم بالإجحاف بحقوق سورية وإفقادها سيطرتها على بقعة هامة من الوطن السوري تضاف إلى البقاع التي فقدتها بـموجب إتفاقات سابقة. إن الإحتفاظ بحق الدفاع عن لواء الإسكندرون للقوات التركية والفرنسية يعتبر تـمهيداً عملياً لتهديد استقلال سورية وخسارة كبيرة لـمصالح الأمة السورية« (17) وتابع في الـمقال نفسه استشرافه الرائد للمسألة الإسكندرونية معتبراً أن خسارة اللواء خسارة قومية »إن في فقد السيطرة على لواء الإسكندرون خسارة لا تنحصر في دولة الشام بل تشمل لبنان وفلسطين وشرق الأردن والعراق لأنها فقد بقعة خصبة وموقع هام للتجارة والأعمال الـحربية وتهديداً لا يقتصر على كيان دولة الشام بل يتناول سورية الـجغرافية كلها لأن اجتياز الـحدود من الشمال الغربي يعني أن البلاد كلها أصبحت في خطر«(18)
وحذر حكومة »الكتلة الوطنية« في دمشق من مواقفها الـمتخاذلة قائلا »وإذا كان على رأس الـحكومة السورية رجال مسؤولون يحبون السلام أكثر من الإحتفاظ بالـحياة ويقفون تـجاه الأخطار الـمحدقة والـمناورات الـموجهة ضد سلامة الوطن ومصالح الأمة مكتوفي الأيدي لا يبدون ولا يعيدون فليس موقفهم معبراً عن رغبات الأمة وإرادتها. إن الأمة لا تريد أن تختنق بين الضغط التركي والضغط الصهيوني. إنها قد سئمت العقم الفكري والشلل السياسي اللذين يغمران موقف السياسيين الكلاسيكيين القابضين على زمام الأمور ولا يعرفون من طبائع الأمور السياسية سوى ما يدعون ويجادلون، وما يختلقون من أعذار لشلل الـمصابين به. إنهم يظنون الأمة مشلولة وليس الشلل إلاّ في نفوسهم(19)
ويتابع سعاده في الـمقال نفسه هجومه على السياسيين التقليديين معتبراً كما أسلفنا أن خسارة الإسكندرون خسارة قومية. كان ذلك في بدء ظهور الـمؤامرة التركية – الفرنسية. واستمر الـحزب بـملاحقة الـمسألة فأرسل سعاده مذكرة إلى الـجمعية الأمـمية والأمـم الصديقة والـمتمدنة وذلك بتاريخ 14 كانون الأول 1936 يقول فيها »إن الـحزب السوري القومي الإجتماعي يعد كل عمل يقصد منه بتر لواء الإسكندرونة عن جسم سورية أو وضع حدود لسيادة الأمة السورية على هذا اللواء خرقاً لـحرمة سيادة الأمة السورية وللمادة الثانية والعشرين من عهد الـجمعية الأمـمية ولكمال الأرض الوطنية السورية…
إن الـحزب السوري القومي الإجتماعي يطلب من الـجمعية الأمـمية وخصوصاً الأمـم الـمتمدنة والصديقة أن تؤيد الإثباتات السورية وأن لا تعطي حلاً شاذاً لـمسألة الإسكندرونة يشجع على إيجاد حال محرجة في الشرق الأدنى تتحول عاجلاً أو آجلاً إلى مصدر نزاع« (20). وأجابت لـجنة الإنتدابات في خريف 1937 على مذكرة الـحزب قائلة »إن هذه الـمذكرة تعتبر شكوى على الدولة الـمنتدبة وإن اللجنة لا يـمكنها أن تنظر في الشكوى«(21)
واتبع الزعيم الـمذكرة هذه بخطاب ألقاه في حشد الـحزب السوري القومي الإجتماعي في صافيتا، مشدداً على ضرورة الإحتفاظ بكل شبر من أرضنا الـمقدسة »إن أول مصلحة من مصالـحنا هي صيانة كل شبر من هذه الأرض الـمقدسة التي عليها نحيا ومنها نستمد موارد الـحياة. إني أعلن أن الإسكندرونة أرض سورية ضرورية لـحياتنا وتقدم مصالـحنا وإننا مستعدون للاحتفاظ بها مهما كلف الأمر.
وإني أعلن أن كل قضية من قضايا الشرق تكون لنا مصلحة فيها وتسوى بإهمال مصالـحنا وإرادتنا تكون تسويتها فاسدة«(22)
والـجدير بالذكر أن سعاده كان قد هاجم موقف الكتلة الوطنية وتواطؤها في سنة 1936 في البلاغ الذي أصدره إلى الرأي العام، الذي عرف »بالبلاغ الازرق« والذي صادرته الـحكومة الفرنسية الـمنتدبة وعاونتها في ذلك حكومة »الكتلة الوطنية« في دمشق.
واستمرت مواقف الـحزب الـمشرفة خاصة بعد اشتداد الـمناورات التركية – الفرنسية وابتدأت تصل إشاعات عن حشد قوات تركية على الـحدود فقدم الزعيم في 8 كانون الثاني سنة 1937 مذكرة إلى الـمفوضية الفرنسية واضعاً الـمتطوعين القوميين الإجتماعيين للدفاع عن اللواء»… لنا الشرف أن نضع تـحت تصرف جيش الدفاع العدد اللازم من الـمتطوعين من أعضاء حزبنا للمساعدة على الاحتفاظ بالسنجق السوري… وعلى أمل أن تفهم فرنسة الـموقف الذي تـمليه علينا كرامتنا القومية. تفضلوا يا فخامة الـمفوض بقبول فائق احترامنا«(23)
عند وصول لـجنة سندلر إلى الإسكندرونة التي رفعت تقريرها بفصل اللواء عن الشام وبجعل اللغة التركية اللغة الرسمية الأولى، أدرك سعاده أنَّ العمل بـمضمون التقرير يعني فقد السيادة السورية على الإسكندرون، فوضع مذكرته الثالثة الـمشهورة ووجهها إلى الـحكومة الشامية يعنفها على موقفها من الـمناورات لتركية – الفرنسية قائلا: ».. والـحزب السوري القومي الإجتماعي يعلن أسفه للموقف الذي وقفته الـحكومة السورية من الـمناورة التركية التي انتهت بتكتيل جهودها بالإتفاق الفرنسي التركي على نزع السيادة السورية بالفصل والإحتفاظ بستار اسمي يبقي لواء اسكندرونة ضمن الـحدود السورية……
والـحزب السوري القومي الإجتماعي يعلن للحكومة السورية استعداده لتأييدها في أي موقف جريء لـحفظ حقوق الأمة وسلامة الوطن ويطلب منها أن تقف في جانب قضية الأمة وتـحملها مسؤولية خسارة قوية تقع بالوطن وسلامة حدوده (24)
وهكذا دعا سعاده لإنشاء «جبهة وطنية « للوقوف في وجه الـمؤامرات التركية الفرنسية ومحذراً الـحكومة الشامية من مواقفها، واجتمع سعاده برئيس الوزارة الشامية جميل مردم بك في صوفر واتفق على عقد اجتماع آخر يخصص لدرس موضوع الإسكندرونة. زار الزعيم منفذية دمشق لتفقد أحوالها وبهذه الـمناسبة تـمكن من الاجتماع برئيس الوزارة مرة ثانية، واجتهد بإقناعه للوقوف موقفاً حازماً، ويصف سعاده هذا اللقاء في معرض تشريحه للمواقف الرجعية الـمتخاذلة »للكتلة الوطنية« قائلا: »الـمعجزة الوحيدة التي أمكن أولئك الرجال إتيانها قبل الـحرب وفي ظروف سياسية موافقة جداً لاغتنام الفرص وتعزيز موقف الأمة السورية في الـخارج هي الـموافقة الـمستورة على تسليم فرنسة منطقة الإسكندرون لتركية غير عابئين بغليان الأمة ولا ملتفتين إلى رجاء زعيم الـحزب السوري القومي الإجتماعي لهم (مذكرته إلى الـحكومة الشامية) أن يغيروا موقفهم، ولو بصورة مستورة أيضاً، ليتمكن الـحزب من تنظيم الأمة للدفاع عن حقها في بقعة من أغنى بقاع وطنها وأصلحها للتقدم الزراعي والتجاري.
لا تزال عبارة جميل مردم الذي كان آنئذ رئيس الوزارة، للزعيم ترن في آذن التاريخ وستظل ترن إلى أن يعود الـحق إلى نصابه ويأخذ الـحق مجراه.
إنها لعبارة مضحكة مبكية: »إن الـخسارة في سلخ الإسكندرون وضمها إلى تركية واقعة على تركية وليس على سورية لأن في الإسكندرون عناصر غير تركية تتعبها.
هذا كان نغم الكتلويين وصحافتهم الذي أرادوا به تخدير الشعب وصرف فكره من خطورة الـجريـمة الـمدبرة باشتراكهم ومواقفهم ضد الوطن وحقوق الأمة.
وهم الذين اجتمعوا في أربعين »هنانو« وحلفوا »أما ولله لم تـمنعنا فرنسة سوى عقال لـحاربناها عليه« فكان موقفهم موقفا دونكيخوتيا…
ولكن سرعان ما زالت رغوتهم عن الصريح وانكشف تصنعهم فلما ظهرت مسألة مطالبة تركية بالإسكندرون واستجابة فرنسة إلى ذلك لم يجدوا الإسكندرون تستحق أن يحاربوا فرنسة عليها! إنها كانت في اعينهم اقل من عقال بدوي….«(25)
وهكذا قطع سعاده الأمل من هذه الشركة السياسية الـخائنة لـمصلحة الأمة واستمرت جريدة »النهضة« في بيروت في حملاتها الـمتواصلة اليومية على الـحكومة الشامية كاشفة مسؤوليتها عن تقوية الدعاوة التركية في اللواء وتنفير العناصر »غير العربية« كالأكراد والأرمن، والشركس بسبب سياستها العنصرية العقيمة.
وقبل ابراز موقف الـحزب النهائي من الطبقة الرجعية في لبنان بسبب مواقف التأييد للسياسة الفرنسية سوف نعرض آراء ونظريات الإقطاعيين من جماعة الكتلة الوطنية في مسألة الإسكندرون.
نظريات الرجعيين
يقول زكي الأرسوزي العصبوي في جريدة الشباب الـحلبية الصادرة في 14 تـموز 1938 »ولـما ظهرت القضية السورية بعد انتهاء الإضرابات العامة سنة 1936 اشترطت الـحكومة الفرنسية على الوفد الـمفاوض (إشارة إلى الوفد السوري المفاوض) الإجابة على جميع مطالب الأتراك، وذلك قبل أن تتضح نوايا الأتراك الـحقيقية«.(26)
ويقول جميل مردم »أود أن أؤكد أن سورية ستبقى إلى جانب فرنسة في كل خلاف يحدث بين الدول لأن في خدمة فرنسة خدمة للقضية الإنسانية كلها« (27) أجل إن خدمة فرنسة بالنسبة لعملاء فرنسة خدمة للقضية الإنسانية كلها، هذا هو منطق الـخونة، الذي يستمر اليوم بأشكال مختلفة من قبل أحفاد »الكتلة الوطنية« الـموزعين في كياناتها ويجيء دور رئيس الوفد السوري مظهراً عواطفه تـجاه تركية »إننا ذاهبون لتوطيد العلاقات مع تركية لا لنعلن الـحرب والقتال«.(28)
ويقول لطفي الـحفار أحد أركان الكتلة الوطنية »إن صديقي وزميلي في النضال، جميل مردم بك، صرح بأن خدمة فرنسة هي خدمة الإنسانية فأنا لا أستطيع الإمتناع عن التصريح بدوري بأنه لا يجب علينا أن نخدم فرنسة فحسب، بل ينبغي أن نـمجدها ونكرمها أيضاً«.(29)
ليس العجب أن يـمجد لطفي الـحفار ويكرم فرنسة، إنـما العجب أن يستمر منطق التمجيد والتعظيم للذئاب الاستعمارية التي مزقتنا وتهدد وجودنا في الوقت الـحاضر من قبل أمثال لطفي الـحفار الـمنصبين حكاماً ومشايخ علينا.
ويعرف عن جميل مردم بك صداقته لتركية حيث يؤكد بعد اجتماعه بالأتراك والفرنسيين في 28 حزيران 1937 »ليس اتاتورك للترك فحسب، بل هو أبو الشرق ايضا«.(30)
وتتوالى التصريحات الرجعية فإذا »بالـمناضل« الدكتور الشهبندر يقول: »إنه يهم سورية كثيراً، وهي تركب مركب الـحلفاء، أن تكون تركية قد ركبت الـمركب نفسه. إن أعداء تركية الـجديدة يشيعون إشاعات مختلفة عن أطماع الأتراك في بلاد العرب. فالسوريون الذين عاشوا بالإتفاق مع الأتراك (!! والـمشانق والإسكندرون!) منذ القرن السادس عشر يعلقون أهمية كبيرة على أن تصبح أهدافهم متفقة والأهداف التركية«.(31)
ولا بد من الإشارة هنا أن الأمير عبد الله أمير شرق الأردن أبدى سروره وتأييده للأتراك في مواقفهم مع الإشارة أيضاً إلى سرور وتأييد »الـمناضل« الآخر نوري السعيد في العراق.
وانبرى »مدعي الـجهاد« من أراخنة السياسة التقليديين بالتبخير والتعظيم لفرنسة خاصة رجال الدين الذين دغدغت عواطفهم الـمفوضية الفرنسية في لبنان.
وتشكلت »الـجوقة « الرجعية من مجموعة الإقطاعات الإحتكارية العشائرية الطائفية التي تآمرت على الـحزب السوري القومي الإجتماعي متهمة إياه بالنازية والفاشية بسبب مواقفه الثورية ضد الإستعمار الفرنسي. يقول سعاده »نحن حاربنا ونحارب الاستعباد الداخلي الذي يتخذ من الإقطاعية والرأسمالية والتكالب على الـمصالح والـمنافع واسطة وشكلاً، الإستعباد الداخلي الذي كان حليفاً للاستعباد الـخارجي والذي لولاه لـما فقدنا كيليكيا والإسكندرون وفلسطين«.(32)
وهكذا تستمر الـمؤامرات على القوى الثورية الرافضة الوجود الإستعماري الصهيوني والوجود الإمبريالي بـمختلف أشكاله على أرضنا، هذه الـمؤامرات التي تنفذها عصابات الرجعيين لـحماية مناصبهم واحتكاراتهم وإرضاء أسيادهم الإمبرياليين هؤلاء الرجعيين »يحصل تعاون وتزاوج ثنائي بينهم وبين سلطة الاستعمال فيتحولون إلى طبقة حاكمة خائنة عميلة«.(33)
الإرهاب الفرنسي: إيقاف جريدة النهضة
لقد بقي الـحزب السوري القومي الإجتماعي، الـحزب الوحيد في سورية كلها واقفاً معلناً إرادة شعبنا، لذلك اضطر الـحزب أن يتلقى حملات الإضطهاد من قبل الفرنسيين ورجال الكتلة الوطنية الـحاكمين »سعيداً« في دمشق. ونود هنا أن نعرض قليلاً من مواقف الـحزب في جريدة »النهضة« الصادرة في بيروت التي عطلت من قبل السلطات الـمنتدبة لـموقفها الصريح من مؤامرة فرنسة والكتلة الوطنية. وتـجدر الإشارة إلى أن جريدة »النهضة« منعت قبل صدور قرار تعطليها من دخول الأراضي الشامية.
يوضح سعاده في مقال »الـجزيرة بعد الإسكندرون« كيف طلب رجال الـحكم في الشام من الـحزب السوري القومي الإجتماعي أن يعمل في الإسكندرون والـجزيرة، بشرط أن لا يعمل في حلب ودمشق تنفيذاً لسياستهم العنصرية على أساس أن الـجزيرة والإسكندرون مناطق بعيدة. والـمهم أن تكون سيطرتهم على الـمدن الشامية حيث مناطق نفوذهم الـمذهبية. وهذا ما يريده اليوم من الـحزب تشكيلات الطائفيين في لبنان الذين يعتبرون بعض الـمناطق »مناطق نفوذ«. يقول سعاده : »استندت سياسة الكتلة في معالـجة مشكلة لواء الإسكندرون على النعرة العنصرية. فهي تعطي الأساس الـحقوقي من وجهة العنصر العربي مهملة العناصر الأخرى التي لها شأن في تقرير مصير اللواء. فأدت هذه السياسة العنصرية إلى النتيجة الوحيدة لكل سياسة عنصرية وهي تنافس العناصر الداخلة في سورية وتصادمها.(34)
إن نتيجة السياسة العنصرية قد ظهرت كما أسلفنا في نتيجة الإنتخابات التي قامت في الإسكندرون حيث شكلت الفئة التركية أكثرية بين الأقليات.
ويفضح سعاده موقف الكتلة الوطنية إثر اتفاقها مع الأتراك سراً »وبينما كان الزعيم يكتب الكتائب القومية الإجتماعية ويطلب السلاح للزحف إلى الـحدود الشمالية لـمقاومة كل محاولة تركية للإستيلاء على الإسكندرون كان الكتلويون يتفقون سراً مع الفرنسيين على تسليم تلك الـمنطقة العزيزة للأتراك وأرسلوا السيد عادل أرسلان «الـمير» إلى أنقرة لينوب عنهم في ذلك الدور الـمخزي«.(35)
وفي مقال آخر، يحذّر من الـخطر التركي على الـمتوسط يقول »إن الـخطر التركي قد أصبح مداهماً، وفي حالة حرب لا يستغرق زحف الـجيش التركي أكثر من ثلاثة أو أربعة أيام حتى يصبح عند مداخل لبنان.(36)
لذلك دعا إلى قومية الـمعركة قائلا: إننا لا نوافق على النظرية الـخرقاء القائلة بأن تهديد سلامة الشام لا يتضمن تهديد سلامة لبنان. إن الـمصير القومي واحد للبنان والشام وفلسطين وشرق الأردن والعراق ولا شيء يؤمن خير الـمصير سوى استعدادها (الأمة) لإدراك خطورة الـموقف وتوحيد الـجهود في نهضة غرضها حماية الـمصلحة القومية العامة«.(37)
وأعلن سعاده أيضاً، باسم القوميين الإجتماعيين خيانة فرنسة لعهدة الـجمعية الأمـمية وتعدياً على حقوق الأمة »باسمكم أعلن أن الإتفاقية التي سلمت فرنسة بـموجبها لواء الإسكندرون إلى تركية هي اتفاقية باطلة تكون خيانة لعهدة الـجمعية الأمـمية وتعدياً على أرض الوطن وحقوق الأمة السورية الصريحة، وأن مشروع استعمار مطلق الشؤون السياسية والاقتصادية والـحربية«.(38)
بسبب الـحملة القوية التي قامت بها جريدة »النهضة« على السلطات الفرنسية والشامية أقفلت الـجريدة كما ذكرنا بأمر من الـمندوب السامي الفرنسي بعد أن كتب سعاده فيها سلسلة طويلة من الـمقالات بعنوان »حقوق الأمة بين الكتلة الوطنية« مفنداً مواقف الكتلة الوطنية الـمتواطئة مع الإستعمار الفرنسي.
وقد أدى ظهور الـحزب القومي والتفاف الشعب حوله إلى خوف السلطات الفرنسية والرجعيين، ذلك لأن الـحزب قد حل أهم الـمسائل التي واجهت وتواجه سورية وهي الـمسألة الإتنلوجية. فقد صهرت جميع الـمسائل الإتنلوجية في الـحزب السوري القومي الإجتماعي ويشير سعاده إلى ذلك بقوله إنه سلط على جميع العناصر عامل روحي – اقتصادي – ثقافي صهرها وحولها إلى عناصر متلاحمة متجانسة في صلب الأمة السورية، لذلك قامت بين فرنسة والـحزب السوري القومي الإجتماعي حرب هي حرب مصالح، مصلحة الأمة ومصلحة الـمستعمر. فأوعزت فرنسة إلى رجال الكتلة بدمشق للتحرك وبدأت الإعتقالات في صفوف القوميين الإجتماعيين. وبدأ التحرك الرجعي الطائفي في لبنان بواسطة التشكيلات الطائفية التي شجعتها فرنسة »وكان من وراء ذلك أن تـمكنت القوات الفرنسية من القبض على عدد من أركان إدارة الـحزب السوري القومي الإجتماعي وعدد آخر من رجاله الفرعيين ومحاكمتهم في مجلس حربي والـحكم عليهم أحكاماً قاسية ظالـمة، لأنهم لم يذعنوا ويسلموا كما أذعن غيرهم وسلم سلاحه«.(39)
خاتـمة
إن مسألة الإسكندرون تشكل ذروة التآمر الرجعي الإستعماري بعد الـحرب العالـمية الأولى في بلادنا، كما شكلت فلسطين أيضاً ذروة التآمر الرجعي الإستعماري بعد الـحرب العالـمية الثانية حتى اليوم. إن الأدوار في كلتا الـمسألتين تتشابه والـحاجة إلى دراسة مقارنة ضرورية لفضح العقلية التي تقود شعبنا إلى الكوارث ولتكون لنا حافزاً لتدميرها.
»إننا لا نريد أن نبكي على الـماضي»، ولكننا نريد أن نأخذ من مسألة الإسكندرون درساً وحكماً نهائياً قاطعاً على الطبقة الرجعية الـخائنة حقوق الأمة التي باعت شعبنا في الإسكندرون وفي فلسطين وتضعنا جميعاً برسم البيع في سوق النخاسة الإمبريالية.
إن سعاده باستشرافه الثوري ورؤيته الواضحة قد حدد معالم الطريق. طريق طويل وشاق يبني الإنسان الثوري القادر على الوقوف في وجه الـمد الإستيطاني الذي يهدد وجودنا كله.
المراجع
(1) Mosul Dispute
American Journal of
International law- volume 20 (1926) page 453 -464
(2) The Alexandretta Dispute
American journal of international law page 407
(3) Toymbee Survey
Of international Affairs 1925 oxford-1929 page 332 -333
(4) League of National Official Journal January 1937 page 31
(5) النظام الـجديد، الـحلقة السابعة عشرة، نيسان 1951، دمشق الصفحة 92
(6) جريدة «صوت الاحرار» – بيروت في 29 أيار 1937
(7) الـمرجع السابق عدد أول حزيران 1937
(8) «صوت الأحرار» عدد 10 نيسان 1937
(9) المرجع السابق حزيران 1937
(10) The Alexandretta Dispute page 421
(11) جريدة يني غون 3 أيلول 1938 انطاكية عن - The Alexandretta Dispute page 423
(12) مقال «الـجزيرة بعد الاسكندرون» جريدة «النهضة» بيروت السنة الأولى العدد السادس أكتوبر 1937
(13) جريدة «سورية الـجديدة» العددين 19 و20 سان باولو- البرازيل سنة 1939
(14) هنري حاماتي «جماهير وكوارث» صفحة 50
(15) جريدة «الـجريدة» سان باولو – البرازيل- العدد 49 تشرين الأول 1921
(16) سعاده – خطابه في افتتاح النادي الفلسطيني في الـجامعة الأميركية سنة 1933
(17) جريدة الشرق – بيروت في 29 يناير 1937 عن النظام الـجديد، الـحلقة السابعة عشرة، صفحة 83، دمشق 1951
(18) الـمصدر نفسه
(19) الـمصدر نفسه
(20) جريدة «الرائد» الطرابلسية، العدد 112 السنة الثالثة، في 6 كانون الثاني 1937
(21) جريدة «سورية الـجديدة»، مقال «الـخطر الـمقبل مسؤولية فرنسة» تـحت باب رأي سورية الـجديدة
(22) النظام الـجديد الـحلقة التاسعة آب 1950 صفحة 66
(23) النظام الـجديد، الـحلقة السابعة عشرة صفحة 88 طبعة دمشق نيسان 1951
(24) النظام الـجديد – الـحلقة السابعة عشرة صفحة 90 دمشق نيسان 1951
(25) «الزوبعة» العدد 66 سبتمبر 1943
(26) النظام الـجديد – الـحلقة السابعة عشرة نيسان 1951 صفحة 86
(27) مقال «عتلة الهدم في الشام» الزوبعة عدد 66
(28) جريدة «صوت الاحرار» – بيروت العدد الصادر في 29 أيار 1937
(29) مقال «عتلة الهدم في الشام» الزوبعة العدد 66
(30) الـمرجع السابق
(31) الـمرجع السابق
(32) خطاب أول آذار 1949
(33) خطاب وليد نويهض مشغرة بـمناسبة السادس عشر من تشرين الثاني 1971 «البناء» – عدد 45
(34) مقال «الـجزيرة بعد الإسكندرون» – جريدة «لنهضة» بيروت
(35) جريدة «الزوبعة » العدد 66 سبتمبر 1943 مقال «عتلة الهدم في الشام
(36) جريدة «النهضة » بيروت العدد 3 – السياسة الـخارجية
(37) النظام الـجديد الـحلقة السابعة عشرة دمشق 1951 صفحة 85
(38) جريدة «النهضة» – العدد 100 مقال اعتقالات دمشق
(39) الزوبعة – العدد 66 مقال عتلة الهدم في الشام