في أواسط الشهر الـماضي، أذاعت شركة »يونيتد« نبأ يقول إنّ السلطة قد اعتقلت عدداً من أركان الـحركة السورية القومية. ولـمّا كانت »الكتلة الوطنية« الـمرحومة ترجمت اسمها خطأ Block Nacionalist فقد تبادر إلى الذهن أنّ النبأ يعنيها أو يعني نفراً آخر مشاكلاً لها. فصحف الوطن وأكثر صحف الـمهجر الساكتة على جهاد الـحزب السوري القومي ولا تنشر، غالباً، إلا الأخبار الـملفقة ضده لم تساعد الرأي العام السوري على تفهم حقيقة حالة سورية وحقيقة موقف القوميين وموقف »الوطنيين«. ولذلك لم يدُر في خلد أحد أنّ الاعتقال الـمذكور لا يعني سوى عدد من أركان الـحزب السوري القومي الواقفين في مراكزهم الـمعيّنة لهم وسط الأخطار وظلمة الـجو السياسي، مستعدين لـخوض غمرات الـموت في سبيل حياة الأمة السورية، واثقين من مصير قضيتهم وأمتهم. ولكن هذا هو الواقع الذي جاءت كتابات خصوصية تثبته. والـحقيقة هي أنّ الـحزب السوري القومي هو الـحركة القومية الصحيحة، والـحزب الوحيد الذي يعبّر عن إرادة الأمة السورية في الـحياة وعن تفضيلها الـموت على فقد الكرامة وشرف البطولة. فهو الـحزب الوحيد الذي ظل واقفاً في وجه عاصفة الهلع لا يذعن ولا يخنع، محافظاً على كرامته وكرامة الأمة السورية بأسرها. ولولا موقف الـحزب السوري القومي الـمشرّف في هذا الوقت العصيب ماذا كانت تكون قيمة سورية في العالم؟
هـذا هـو الوقت الـذي يعرف فيه الشجاع من الـجبان وصاحب القضيـة الـحقة من الدجال. إنه الوقت الذي ليست هينة فيه البطولة ولا تفيد فيه البطولة الكلامية. إنه الوقت الذي لا تصح فيه عزائم الأبطال الأقزام ولا يقدم فيه الـجبناء الرعاديد الذين يستـأسدون على أبناء أمتهم متى كانوا مستندين إلى تأييد الإرادة الأجنبية، حتى إذا رأت هذه الإرادة أن تتولى كل شيء بنفسها أصبحوا كالنعام يجفلون من الصفير. في هذا الوقت، بينما الذين دجلوا على الأمة وأعلنوا أنفسهم زعماءها الـمضحين في سبيلها والـمحاربين من أجل »عقال« إذا حرموه يتقدمون من الـمفوضية الفرنسية معلنين خضوعهم وندامتهم على الإثم الذي ارتكبوه والتجديف الذي فاهوا به، مستغفرين ومؤكدين ولاءهم وتأييدهم للدولة التي غدرت بأمتهم، فذبحت جيشها الصغير في ميسلون[1]، وحجزت على مـمثلي الشعب في لبنان ونفتهم إلى جزيرة كورسيكة، وأهانت الشعب بامتهانها كرامة وفود الدروز في الـجبل البركاني، وقامت تـحارب النهضة السورية القومية بكل قوّتها، يعلن سعاده أنّ السوريين القوميين لن يتراجعوا قيد شعرة عن موقفهم الذي أعلنوه في مناسبات عديدة وأنهم لن يتنازلوا عن مقدار ذرّة من حقوق السيادة القومية.
في هذا الـموقف العصيب تدرك فرنسة أنه لا يـمكنها إغفال قوة الدولة السورية القومية الفتية فأعلنت قيادة جيش الشرق أنّ الـمنطقة الـمشمولة بالانتداب الفرنسي أصبحت ضمن نطاق الـحصار (أي تـحت الـحكم العسكري) واستفادت من خبر ملفّق قد يكون عمالها هم الذين أوعزوا بتلفيقه، وهو الـخبر الذي نقلته سورية الـجديدة عن فتى لبنان وكانت قد نشرته جرائد الوطن القائل إنّ سعاده يعمل في محطة إذاعة برلين لـحساب الدولة الألـمانية، وألقت القبض على عدد من أركان الـحزب السوري القومي وعشرات القوميين وغرضها الـحقيقي من هذه الـخطوة أن تطّلع على مبلغ استعدادات الـحزب السوري القومي وأن تشلّ إدارته الرئيسية وأن تتقي، ما أمكن، خطر قوّته الـمنظمة وتشكيلاته الـمدربة.
أجل، بينما أصحاب الاستقلال حبراً على ورق، كـ »الكتلة الوطنية« و»الكتلة الدستورية« و»الكتلة الاتـحادية« ورأس »الثورة الفلسطينية« يتسكعون ويحْثون التراب على رؤوسهم، ونفوسهم تطير شفاعاً من حركة الـجنود الأجنبية وبريق حرابهم، وقلوبهم تنتفض فرقاً من [...][2] الـحكم العسكري، بينما هذه الـمهزلة الفاجعة (Comedia Tragica) تـمثلنا أمام الأمـم الـحرة أمة خالية من كل كرامة ومن كل عزة نفس وتـجلب اليأس إلى قلب شعبنا، يقوم أصحاب السيادة القومية الفعلية، رجال الـحزب السوري القومي ونساؤه، بواجبهم ويقف كل سوري قومي في مكانه الـمعيّن له طوداً راسخاً من الكرامة القوميـة وبنـاءً شامخاً للبطولة السورية. فيمكن السورييـن في جميع العالم أن يهتفوا اليوم: »إنّ ما قد سقط أمام أقدام الأجنبي ليس سوى قشرة »وطنية« زائفة. إنّ هذه القشرة الزائفة قد تفككت وسقطت ليبدو وجه سورية القومية الـحقيقي الذي كانت تغطيه. إنّ الـحزب السوري القومي لم يلوِ رقبته ونسر الزعيم منتصب على قدميه ورأسه مرتفع. إنّ شرفنا، في هذا الوقت الذي يـمتحن فيه جوهر الأمة، قد أنقذ فلتحيى النهضة السورية القومية.«
موقفان تاريخيان يـمثلان جهادين وقيادتين. جهاد زائف يـمثل بطولة مرسحية فيجتمع رجـال »الكتلة الوطنية« في »أربعين هنانو«ويضجون ويصخبون ويقسمون الأيـْمان الـمغلظة مستشهدين الأرض والسماء على أنهم سيحاربون فرنسة حتى ولو لم تـمنعهم فرنسة سوى عقال. فيقول الشعب بورك بهذه البطولة. هذه قيادتنا. فما هي إلا دورة سريعة من الزمن حتى يتجهم جو السياسة وتسبقه مقدمات فيعطى لواء الإسكندرونة إلى الأتراك فلا تـحرك هذه القيادة الزائفة ساكناً. وتعلن بوجوه صفيقة أنّ لواء الإسكندرونة لا يساوي عقالاً. وتـجيء الأزمة الإنترناسيونية وتشهر الـحرب، فإذا سورية كلها وشرف سورية لا يساويان عقالاً لهذه القيادة الأثيمة. فتزول من أفواههم لفظة »الـحرب« ويعلنون أنهم عبيد فرنسة أولاً وآخراً.
وجهاد حقيقي يقوم به رجال أعلن الزعيم باسمهم أنهم يعدّون أنفسهم دولة الشعب السوري الـمستقلة، وأنهم لن يتنازلوا مقدار ذرّة عن هذا الاستقلال. جهاد في ساحة العراك، لا على الـمراسح. لا ضجيج ولا صخب ولا تهويل ولا حلف بالـمحاربة »على عقال«. ولكن تقدم مستمر تـحت أثقال الضغط والاضطهاد. الضغط من الأعداء والاضطهاد من قسم من الشعب الذي يريدون إنقاذه. إمتداد وتنظيم وتدريب وسط شدائد متعاقبة وسجون وآلام، حتى إذا تـجهم جو السياسة وجاءت الأزمة الإنترناسيونية وشهرت الـحرب أدرك الأعداء أنّ الـحزب السوري القومي هو القوة الوحيدة التي لا تسلِّم ولا تخنع، وأنّ القيادة السورية القومية ماضية في تنفيذ برنامجها معلنة أنه لا سبيل إلى السلم إلا بالاعتراف بسيادتنا القومية واحترام حقنا في الـحياة. فإذا لم يشأ الأعداء السلم على هذا الأساس فالطريق الوحيدة الباقية هي الـحرب والنصر. ولقد أعلن الزعيم أنّ الـحزب الـحر لا يتشبه بالأحزاب الذليلة. فهو لا يلقي سلاحه، بل يظل يناضل في سبيل الـحق حتى يتم له النصر. هذه هي القيادة الصحيحة التي تنقذ شرف أمتنا في هذا الـموقف العصيب.
روى أحد الـمحاربين في الثورة الدرزية أنّ الدكتور [عبدالرحمن] شهبندر وقف مرة خطيباً في الـمحاربين يحضهم على القتال والتضحية ويقول: »لا نخشى اللقاء ولا الـموت فإنـما نحن نستشهد في سبيل الأمة« وما كاد ينهي هذه العبارة حتى صاح صائح »طيارات العدو!« قال الراوي: فإذا بالدكتور شهبندر يقطع خطابه ويسعى إلى مغارة قريبة تاركاً الـمحاربين إلى مصيرهم! وزاد الراوي: ما أفخم الاستشهاد بالـخطب تلقى على الـمنابر ويصفق لها الناس وما أسهل هذا الاستشهاد.
إنّ رجال العهد القديـم هم ذوو نفسية واحدة وأخلاق واحدة أحكوميين كانوا أم معارضين. فشعوذتهم هي هي. وقد يذكر القراء تقليد »الكتلة الوطنية« الـحزب السوري القومي بإنشائها »الشباب الوطني« وإلباسه »القمصان الـحديدية« التي قصد منها أن تكون تقليداً لثوب الـحزب السوري القومي الرصاصي وكيف قلّدوا الـحزب حتى برفع الأيدي عمودياً على موازاة الكتف، حتى توهم الناس أنهم يقصدون الـجهاد فعلاً. وها هم اليوم يعلنون أنّ كل تلك الـمظاهر لم تكن سوى شعوذة وأنّ هدفهم الأسمى هو نصرة فرنسة »الديـموقراطية«. أما الدكتور شهبندر فكان قد كتب من مصر سنة 1937 إلى بعض جماعته يطلب منهم تأليف حزب »على غرار الـحزب السوري القومي« ولكن الأتباع لم يتمكنوا من تأليف حزب على هذا الأساس، فاكتفى الدكتور شهبندر بتقليد زعامة الـحزب السوري القومي، فصار يصدر بيانات عن »مكتب الزعيم شهبندر« فيوهم الناس أنّ هنالك حزباً منظماً له دوائر رسمية وأنّ له هو مقاماً رسمياً ودائرة رسمية. ولكن صاحب هذا الـمكتب الشخصي الذي لم تكن تكفيه بنود الـمعاهدة الـمرحومة يكفيه الآن أن تنتصر الدولة »الديـموقراطية« التي مزقت تلك الـمعاهدة بكاملها ونكثت عهودها وساومت دولاً أخرى على أجزاء الوطن!
ما أشد الفرق بين جهاد هؤلاء الـمشعوذين وجهاد الـحزب السوري القومي الثابت في عقيدته ونظامه وخطته، الذي لم يقل زعيمه ورجاله كلاماً يعدّون أنفسهم غير مسؤولين عنه، ولم يرجعوا عن قول قالوه ولا عن موقف وقفوه، ولو أدى ذلك إلى السجن والاضطهاد والإرهاق، وهم يعلمون أنه لا عماد لهم غير نفوسهم العظيمة ولا يتوقعون نـجدة من غير صفوفهم، لأن الشعب الذي يحملون قضيته القومية قد سممته الدعاوات الأجنبية والنفعية وأفسدته الأنانيات والـخصوصيات حتى لم يعد يـميّز بين الإخلاص والرياء، بين البطولة والشعوذة، بين الـحق والباطل.
في صفحة أخرى من هذا العدد يرى القراء مثالاً من كلام رجال النهضة السورية القومية في هذا الـموقف الـمحفوف بالـمخاطر ومثالاً من كلام رجال »النهضة الوطنية« ويدركون الفرق بين كلام الأبطال الـحقيقيين الـجبابرة وكلام الأبطال الأقزام، ويعلمون أنه ليس بالبطولة الـمرسحية يعلن عماد الأمة، بل بالبطولة الفعلية التي لا تهاب الاضطهاد ولا تخشى الـموت، يحترق رجالها بدون تأفف ولا تذمر لينيروا للشعب طريق الـحياة القومية الـمعززة.
أيها الشعب السوري الذي انخدع بشعوذة دجالي السياسة »الوطنية« استفق! إفتح عينيك وابصر قبل فوات الأوان! إنفض يدك من »الزعماء« الدجالين الذين خدعوك وقادوك إلى الـخراب والذل!
لا تسر وراء هذه الآلهة الدموية الأثيمة التي قضت عشرين سنة تنهش لـحمك وتـمتص دمك وتبذّر أتعابك. اقتلعها عن القواعد التي نصبت عليها واطرحها في البحر!
حوّل وجهك عن الأصنام واتـجه نحو أبطالك القوميين فإنهم هم الرجال الذين يصونون شرفك وكرامتك ويبذلون حياتهم في سبيل فلاحك ولا يتخلون عنك في زمن الشدة ولا يتركونك لرحمة الأعداء!
وأنتم أيها الأبطال الذين تسيرون إلى تـجربة جديدة، أيتها النفوس الـمتسامية »فوق آماد الـمنون« إنكم تبنون بآلامكم عظمة أمتكم. وإننا ندرك عظمتكم الـحقيقية الـمتجلية وراء آلامكم الصامتة وشدة التجارب التي تتعرضون لها من أجل حياة أمتكم.
إننا نشعر في أعماق نفوسنا بهذا الفخر الذي تـجلبونه لسلالتنا، ونقدّر التضحية العظيمة التي تقدّمون لأتونها أرواحكم الـخالدة.
إنّ شعبنا قد قصَّر في فهم ما انطوت عليه نفوسكم وما انعقدت عليه عزائمكم. إننا كنا نـجهلكم فاغفروا لنا!
إنكم تعلمون ضعفنا وتثقون بيقظتنا. وثقتكم ستنتقل إلينا وتفعل فينا. وحينئذٍ سيدركنا الوعي ونعلم من أنتم. ولئن كنتم أحياء أو أمواتاً فالطريق الذي شققتموه لنا بأرواحكم وأجسادكم هو الطريق الذي سنمشي عليه.
نشكر لكم من صميم قلوبنا هذه الرحمة العظيمة التي كلفكم جلبها لنا كل شيء. إنّ تضحيتكم لا حدَّ لها.
إنكم قد أنقذتـمونا بجهادكم الـمملوء بطولة وفخاراً من عار الـجهاد الزائف. إنكم قد أنقذتم مناقبنا وأخلاقنا.
إنكم قد رفعتم رؤوسنا بعد أن حناها زعماء الجهاد الزائف والبطولة الذليلة. فلكم شكرنا وتقديرنا.
[1] هي منطقة قرب دمشق حيث جرت معركة بين قوات من المتطوعين السوريين بقيادة وزير الحربية يوسف العظمة وقوات الجيش الفرنسي في 24 تموز 1920. كان عدد المتطوعين السوريين 3000 بمواجهة 9000 جندي فرنسي مزودين بطائرات ودبابات ومدافع وإمدادات. ومع أن العظمة كان يعرف نتيجة المعركة إلا أنه أبى أن يقال أن الفرنسيين دخلوا دمشق دون مقاومة من أهلها.
[2] كلمة غير واضحة في الأصل.