عندمـا وقف سعاده في أوائل سنة 1933 خاطباً في حفلة تدشين النادي الفلسطيني، مظهراً الـحاجة إلى معالـجة القضية السورية بكليّتها ووجوب الـخروج من الدائرة الضيقة التي حصرت الشركات السياسية قضيتنا القومية فيها، مصرحاً بأن الـخطرين الشمالي والـجنوبي - الـخطر التركي والـخطر اليهودي - قد أصبحا مداهمين وأنّ ملافاتهما بصورة ناجحة لا يـمكن أن تتم إلا بدرس القضية السورية درساً جديداً شاملاً ابتداء من الأساس القومي، وكان الـحزب السوري القومي لا يزال حينئذٍ جنيناً لا يدري أحد بنشوئه، اعتقد معظم الذين حضروا تلك الـحفلة أنّ كلام سعاده ليس سوى كلام خطيب اجتهد في تنويع كلامه وقليلون جداً هم الذين أدركوا أنّ كلامه كان كلام خبير بعيد النظر يدرك الأخطار قبل وقوعها ويرى الامكانيات والطرق الناجحة. كانت الشركات السياسية في ذلك الوقت توجه نظر الشعب إلى مسائل جزئية مبعثرة يخفي الضجيج القائم حولها حقيقة القضية القومية الكاملة والـخطر الكامن في ظروفها.
ولـما جاءت سنة 1936 كانت مسألة الهجرة اليهودية إلى جنوبي سورية قد استفحل أمرها وتفاقم شرها حتى ضاق سوريو الـجنوب ذرعاً بالـحالة. وبدلاً من أن تكون هذه الـحالة مدعاة إلى درس الـمسائل السورية كلها ومسألة الـجنوب بصورة خاصة وتقرير خطة عامة كما هي وجهة نظر زعيم الـحزب السوري القومي، أدت الظروف إلى مشاغبات انتهت بثورة السنة الـمذكورة. وشغلت الثورة الاعتباطية أفكار الشعب السوري فلم ينتبه لتطور السياسة البريطانية - الفرنسية في الشرق الأدنى والوجهة الـجديدة التي تتخذها وهي الوجهة التي عيّنتها الاعتبارات الـحربية بعد حرب الـحبشة وتوسع النفوذ الإيطالي. والـمنظمة القومية الوحيدة التي كانت تدرس الـموقف وتطورات السياسة العليا كانت في حرب عوان [شديدة] مع السلطات والشركات السياسية والـمؤسسات الدينية والفئات الرجعية. كان الـحزب السوري القومي قد ظهر منبهاً الشعب إلى حقيقة مصالـحه ووحدة مصيره معيّناً قضية الأمة السورية تعييناً واضحاً حاملاً إليها شعار الـحرية والواجب والنظام والقوة وما ينطوي عليه من فضائل باقية ومثل عليا.
وفي سنة 1936 رأت الدولتان الـمحافظتان على أوسع تـحكُّم استعماري في العالم أن تخضعا القسم الشرقي من البحر الـمتوسط الواقع تـحت إدارتهما أو نفوذهما لاعتبارات السياسة العسكرية، التي أخذت تتفوق على غيرها من الاعتبارات تـجاه نهضة الدولتين الكليتين وظهور مطامح إيطالية في الـمتوسط والشعور بتطلعها إلى الـمستعمرات الـمحفة به وزعمهـا أنها أحـق بها من مستعمريها الـحاليين، بناءً على أنها كانت داخلة في الإمبراطورية الرومانية. فبينما كانت إيطالية منهمكة في حرب الـحبشة اتـجهت السياستان البريطانية والفرنسية إلى تطبيق السياسة العسكرية في سورية، ففُتحت في فلسطين الطرقات الضرورية للمقتضيات الـحربية وأنشئت التحصينات اللازمة وسعت بريطانية لـحل مشكلة جنوبي سورية على ما يقنع السوريين واليهود لتربح تأييد الفريقين أو استكانتهما على الأقل في حالة حرب، فوضعت مشروع التقسيم الذي حاولت أن تخدع السوريين به موهمة إياهم أنه يخولهم إنشاء »دولة مستقلة« لكن الـمذكرة التي وضعها الـحزب السوري القومي وردّ بها على تقرير بعثـة اللورد بيل أثـارت الرأي السوري العام فرفض مشروع التقسيم. ومع ذلك فقد استمرت السياسة البريطانية في اتـجاهها ورأت فرنسة أن لا تتأخر هي نفسها في تطبيق سياستها العسكرية في شمالي سورية خصـوصاً بعد ما رأته من تطور سورية بظهور الـحزب السوري القومي الذي ابتدأ يوحد صفوف الأمة في القضية القومية. فغررت فرنسة بالشاميين واللبنانيين متظاهرة لأولئـك بأنها قد عزمت الآن عزماً أكيداً على إجابة مطاليبهم وإعطائهم السيادة القومية، ولهؤلاء بأنها تريد أن ترفعهم إلى »مصاف الدول«. وفي الوقت الذي أعلنت للشاميين قبول الـمفاوضة لتحويل الانتداب إلى معاهدة وللبنانيين قبولها إعادة »الدستور« وإيجاد حكومة لبنانية تشبع الطامعين بالفخفخة الفارغة، كانت تسعى بالاتفاق مع وجهة النظر البريطانية لتوثيق علاقاتها مع تركية ومنحها الامتيازات التي تريدها في الأرض السورية.
وقد رأت أوساط الـحزب السوري القومي السياسية أنّ سيطرة الاعتبارات الـحربية على السياستيـن البريطانية والفرنسية، فيما يختص بسورية، جعلت فرنسة تـحدد مركزها الثابت في البحر السوري بالـمنطقة الـجبلية الساحلية من سورية، وهي منطقة لبنان - العلويين، ولذلك أصرت فرنسة في الـمعاهدة الشامية - الفرنسية على امتيازات عسكرية في الـمنطقة العلوية لـمدة خمس سنوات، كما أوجدت شروطاً في الـمعاهدة اللبنانية تكفل تنفيذ هذه السياسة الـجديدة استعداداً للنضال الفاصل بين الدولتين الـمحافظتين والدولتين الـمجددتين. وعبثاً حاول زعيم الـحزب السوري القومي التوصل بـمرونته الـمشهورة إلى جعل الشركات السورية السياسية تفهم حقيقة الـحالة الـجديدة والـمخاطر التي تـجلبها على القضية السورية. فقد اغترّ الكتليون اغتراراً فاضحاً بوعود الساسة الفرنسيين، حتى أنّ السيد جميل مردم جعل مسألة تصديق الـمعاهدة وحصول الاستقلال التام معلقة على الـمزايا الشخصية التي قد يتحلى بها حامل وظيفة وزير خارجية فرنسة وأخلاقه الطيبة، كما دلت تصريحاته عن السيد بونيه[1] في أثناء وجوده في فرنسة الـمرة الأخيرة.
وكان من وراء استمرار السياسة البريطانية الـجديدة أنّ مسألة فلسطين تـحولت إلى نقطة الابتداء في الـمساومة التي أرادت بريطانية إجراءها مع مصر والعراق وبلاد العرب لإيجاد سياسة موحّدة تؤثر على مجرى السياسة السورية فتتألف من هذه الأمـم في الشرق الأدنى جبهة تستخدمها الإمبراطوريتان »الديـموقراطيتان« لسد شرقي البحر الـمتوسط ضد الإمبراطوريتين الكليتين[2].
ولـمّا كانت هذه الـجبهة لا يـمكن أن تتم إلا إذا كانت تركية منها ولـمّا كانت تركية ذات مطامع بعيدة في سورية، فإن السياسة البريطانية لم تألُ جهداً في إظهار محاسن الاتفاق بين فرنسة وتركية على حساب سورية وحساب مصالح فرنسية مقبلة في سورية. والظاهر أنّ العقم الفرنسي السياسي اقتنع ولعله هو الذي أشار بصحة هذه النظريـة فسارت السياسة »الديـموقراطية« على خطة وجوب ابتياع موقف تركية الـمشكوك بـمتانته بلواء الإسكندرونة ومنطقة واسعة تتناول حلب ولواء الـجزيرة. وتؤكد أوساط الـحزب السوري القومي العليا أنها كانت واقفة على هذه الـمناورات وبعض الـمخابرات الدائرة في هذا الصدد. وهو ما دفع بزعيمه إلى تناسي الـحملة العنيفة التي قامت بها ضد الـحزب »الكتلة الوطنية« وغيرها وبذل الـمساعي لتوحيد القوى والعمل لدرء الـخطر الـمداهم فلم يلاقِ سوى الصدمة التي وجّهها إليه السيد جميل مردم وهو بعد رئيس الوزارة، كما أشرنا إلى ذلك في رأي سورية الـجديدة من العدد الـماضي.
والآن يظهر لنا »الكتاب الأبيض«[3] البريطاني في صدد فلسطين فإذا به لا يخرج عن حـد تثبيت نظرة الـحزب السوري القومي، وإذا الوطن السوري قد أصبح عرضة لتجزئة جديدة مؤلـمة جداً، وإذا بالشركات السياسية والفئات النفعية تتسابق لقبول هذا الاتـجاه الـجديد فتعقد بعضها مؤتـمرات غريبة بأسماء غريبة كمؤتـمر »الـجبهة الـمقاومة للفاشستية« الذي وردت برقية تشير إلى انعقاده في بيروت، والذي أشار إلى ذلك أيضاً مدير »شعبة سورية الـجديدة« في بيروت، في رسالته الأخيرة لنا الـمنشورة في هذا العدد، واتخاذه القرارات القائلة بتأييد السياسة الفرنسية على طول الـخط. وبعض هذه الـمؤتـمرات يعقد باسم »العروبة« والبعض الأخير يعقد باسم »القومية اللبنانية« التي نبتت بين ليلة وضحاها كما ينبت الفطر.
إنّ قضية الأمة السورية والوطن السوري تقف الآن في أحرج الـمواقف التي سجلها لها التاريخ. ولا يدرك ذلك إدراكاً كلياً غير الـحزب السوري القومي. هذه الـمنظمة القومية العظيمة التي تـجاهد في حرب حقيقية لا في موقف الـخطابات الرنانة والقصائد الطنانة. وإننا لـموقنون من أنّ الـحزب السوري القومي يقوم بواجبه ومهمته فالكلام لا يتناوله بل يتناول الواقفين بعيداً يتفرجون ببلادة إحساس نادرة.
[1] جورج إتيان بونيه (1889-1973) زعيم الـحزب الراديكالي الإشتراكي الفرنسي ووزير الشؤون الـخارجية قبل الـحرب العالـمية الثانية والذي كان مؤيداً بارزاً في استرضاء ألـمانية النازية في نيسان 1938 أصبح وزيراً للخارجية.
[2]ألـمانية وإيطالية.
[3] هو الوثيقة التي تـمت صياغتها لأول مرة في آذار 1939 من جانب الـحكومة البريطانية ودعت إلى إقامة وطن قومي لليهود في دولة فلسطينية مستقلة في غضون 10 سنوات رافضة توصية لـجنة بيل بتقسيم فلسطين.