ا
في 25 فبراير/شباط 1939 - رسالة دمشق بالطيارة
القصد من تصميم الـمعاهدة تخدير الشعب السوري
طلبتم مني رسالة ضافية عن »فشل الـمعاهدة« والـحوادث التفكيكية التي تفاجىء »الوحدة الكتلوية«. إنّ قضية الـمعاهدة أصبحت مشهورة وقد عالـجتها الـجرائد الـموالية والـمعادية في الشام وبيّنت بعض ما طرأ عليها. والـحقيقة أنه لم يقصد من التصميم الذي وضع للمعاهدة السورية - الفرنسية إلا إيقاف الاضطرابات في الشام، وإنهاء الإضراب الطويل الذي قامت به الـمدن السورية 1936 وأخذت الـجرائد الأوروبية الـمعادية لفرنسة تعالج أخباره وتُظهر فرنسة بـمظهر الـمتعدية والـحانثة بالعهود. فالـمعاهدة، من أساسها، لم يُقصد منها إلا تخدير الكتلة وتثبيط عزيـمة الشعب وكسب الوقت لتفكيك حلقات السلسلة الـمؤلفة من دمشق - حلب وجبل الدروز والعلويين والـجزيرة العليا، الـمرتبطة فقط بالأوهام السياسية والـحماس الـموقت والوعود الكتلوية الـمنثورة. وحكمة فرنسة الاستعمارية لم تشأ، في ذاك الـحين، أن تأتي بالعنف اتقاءً للغليان الشامي، ولـمناصرة الـجبل الدرزي الـمتحمس الذي كانت تتراءى له عند عودة أبطال الثورة أشباح الـمجاهدين، الذين استشهدوا في سبيل أمتهم السورية، فتحفّزه للوثوب مرة ثانية إذا اقتضى الأمر، وتـحاشياً لاشتراك العلويين الـموالين للسياسة الشامية.
نشاط الدوائر السرية الفرنسية
فمن حين وضع تصميم الـمعاهدة إلى الآن أخذت الدوائر السرية الفرنسية تعمل بنشـاط ومثابرة لتقطيع الصلات الواهية التي كانت أوجدتها الوعود »الكتلوية« بين الشام والـجبل الدرزي ومقاطعة العلويين. ومن ذلك الـحين ظنت الكتلة الـمؤلفة من الأميين السياسيين الذين لا يزالون يؤمنون بالورق والـحبر، أنّ مهمتها قد انتهت وأنّ عليها الانتظار فقط. فتصميم الـمعاهدة في درج مكتبها مذيّل بتوقيع الـمفوض السامي، ومثبت بتوقيع الوزارة الـخارجية كتصميم طبعاً، وهذا يكفي. وأخذت «الكتلة» إذ ذاك توفد الـمحافظين »فوق العادة« إلى أنحاء الإمبراطورية الكتلوية كالـجبل الدرزي والعلويين والـجزيرة العليا، كما تفعل الدول الكبرى. وأيدي الدوائر السرية كانت سائرة في عملها الـمنظم دائماً.
ألغام الدوائر السرية تأخذ بالانفجار
فلم يـمضِ وقت طويل حتى ظهر التنافس بين الـمحافظ «فوق العادة» والأمير حسن في الـجبل الدرزي وابتدأت الاضطرابات في الـجزيرة العليا، وأخذ الـموعودون بالوظائف من العلويين يتململون وينتظرون بفروغ صبر.
وكانت في الشام وداعات حماسية على محطات السكة الـحديدية وكانت في باريس استقبالات ظهرت فيها الابتسامات الـمعنوية الهزئية، ثم كانت في حلب ودمشق، استقبالات »وطنية« وأفلام سينمائية وظهور لـحى وعمامات على الـمحطات وفي الـحفلات، وخطب قمصان حديدية و»ارتـجالات« بارودية، وقد توالت هذه الـمظاهر الصبيانية الـمضحكة الـمبكية والأمة تنتظر والـموالون من الـجبل والعلويين ينتظرون، والأيادي السرية تعمل وتعمل. والكتلة تنتظر لأن عملها في عرفها قد تمَّ و»الوحدة الكتلوية« تـحققت وستتبعها الوحدة السورية التامة لتكون واسطة للوحدة الكبرى. وانصرفت الكتلة عن تـمكين الصلات بين الشام والـمقاطعات الأخرى الـموالية إلى التبشير »بالإمبراطورية العربية« الكبرى الـممتدة من جبال طوروس إلى الـمحيط الهندي ومن بلاد الفرس إلى حدود موريتانية الغربية!
التخدير يتم وعملية بتر أجزاء الأمة أصبحت مـمكنة
سنة 1938. سنتان تـمرّ على الأعمال الصبيانية الكتلوية لا يظهر بعدها إلا العقم والفشل. سنتان كانتا كافيتين لاستنزاف قوى الشعب الشامي النفسية ولإيقافه حائراً قانطاً وغاضباً ضعيفاً يصب اللعنات على الـمستعمرين فقط، ظناً منه أنهم السبب الوحيد لتعاسته وشقائه. سنتان كانتا كافيتين لتقطيع كل الأوصال الوهمية الواصلة الشام بباقي أجزاء الوحدة، والقائمة على الوعود الإقطاعية والاعتباطية!
خرافات اجتماعية
بينما »زعيم الشباب الشامي« فخري البارودي وشركاؤه يبشرون العالم بقرب تـحقيق الإمبراطورية العربية، ويذيعون من الـخرافات الاجتماعية ما يجعل الدوائر الفرنسية والإنكليزية تهزأ بالشعب السوري وتتأمل ببقائه عقوداً عديدة في حالة البلبلة والفوضى الفكرية، بينما نرى هؤلاء الانتهازيين سائرين في أعمالهم »الوطنجية« مقدمين اعتراضاتهم، تارة على أعمال إيطالية في ليبية، وطوراً على تصرفات فرنسة في تونس، نرى الأكواخ الوطنية التي أقاموها في أجزاء »الوحدة الكتلوية« تقع لأول رفسة من أقدام الدوائر السرية الأجنبية!
تضليل الـمهاجرين
كل هـذا لا يهم عند مكتب فخري البارودي الذي يفـبرك ويلفق الأخـبار ويرسلها إلى جرائد الـمهاجر التي تنقلها، بكل غيرة وسذاجة، دون أن تشعر بـما تـجرّه هذه الأكاذيب من الضرر الاجتماعي والقومي على السوريين. ولا أعلم كيف أنّ الـمهاجرين لا يزالون يصغون إلى انتهازيين كفخري البارودي وفؤاد مفرج صاحبي »مكتب» نشر الأقـاصيص الـخرافية اللذين يريدان، تارة تـمثيل سورية في معرض نيويورك وطوراً الدفاع عن فلسطين، وحيناً الدعاوة لقرب تـحقيق الإمبراطورية العربية. وكل الـمشاكـل التي تتخبط فيها الشام اليوم، ليست شيئـاً يستحقه الاهتمام عند البارودي ومفـرج، فآفاق تفكيرهما السيـاسي هي أوسـع من هذه القضايـا الإقليميـة، التي يتركانها لصغار السياسيين من الكتلويين. ولا شك أنّ كل حق يناله الفلسطينيون في لندن سيكون بـمساعي مكتب فخري البارودي والـمرجح أنّ فخري البارودي يحلم أن يكون زميل أتاتورك يوماً فيسمى: أتا عرب، أي »أبو العرب«. والكتلويون هنا أصبحوا محتقرين حتى من أتباعهم الـمتحمسين، بعد أن ظهر عقمهم وعجزهم في كل أعمالهم الداخلية والـخارجية. فلا يكفي أنّ الـمعاهدة ألغيت لأن الفرنسيين كانوا عالـمين بواسطة دوائرهم الاستخبارية، أنّ الكتلة لا تـمثل قوة يُخشى مقـاومتها، بل «قامت القيامة» عليهم من كل الـجهات الداخلية لأنهم يجهلون كل الـجهل نفسيات الـمقاطعات التي انضمـت إلى »وحدتهم« وطرائق معالـجتها والوصول إلى صميم الشعب. فهم نسخة طبق الأصل لرجال »الدولة العلية« التي عطاكم الله عمرها.
أسرار تـجهلها حكومة الشام إلى اليوم
كيف تطورت الـحالة في العلويين
لقد استطعت التوصل إلى الـحصول على معلومات سرية من بعض الدوائر الـخاصة ألـخصها في ما يلي:
(وهذه الـمعلومات مؤرخة في يونيو/حزيران 1938)
»نشبت في الآونة الأخيرة ثورة في العلويين، لا شك أنها ذات علاقة وثيقة بالظروف العامة وبالسياسة الـمنوي تطبيقها هناك. في العلويين جبهتان حزبيتان خارج الـحزب السوري القومي تعرف إحداهما بجماعة »الانفصاليين« والأخرى بجماعة »الوطنيين« لأنها اتفقت مع »الكتلة الوطنية«. وهاتان الـجبهتان تتفقان في بغض الشام والـحذر من رجالها خوفاً من الاستبداد السني، وتختلفان بسبب العصبيات العشائرية والـمذهبية. وقد كانت حكومة الشام تؤيد «الوطنيين» وهذا سبب تسميتهم بهذا الاسم من قبل صحافة الكتلة. وسار على هذه الـخطة الـمحافظ السابق مظهر رسلان، الذي استطاع بأساليب مخجلة إقصاء جماعة الانفصاليين وخذلانها في الانتخابات. وقد كان ديوان »الـمحافظة« مستبداً في أعماله لا يعرف أساليب السياسة، إلا ما تعوّده بعض رجاله في زمن العثمانيين. وكان يتعمد معاكسة الانفصاليين بعد خذلانهم في الانتخابات دون أن يقام حساب لـما يجرّه هذا العمل من إيغار صدورهم. فتألبوا لـمّا فهموا أسباب نتائج الانتخابات وأخذوا ينشرون الفوضى في الـمنطقة، حتى توصل بهم الأمر إلى قطع الطرق على الـمارة. وكانت حوادث عشيرة الـمتاورة في وادي العيون، لتأخر حكومة الشام بالبِرِّ بوعودها لشيخ العشيرة، قوية تنذر بشرٍ مستطير.
ثم عيّن الهواش رئيس عشيرة الـمتاورة محافظاً لـحوران فهدأت الـحوادث. وبقي آخـرون في غليانهم حتى أنهم هـددوا بعصيان مسلح فيما لو لم تـجب مطاليبهم طبقاً للوعود الكتلوية الـمنثورة. وأوهمت الكتلة جماعة الانفصاليين بأن الـخطأ في سوء معاملتهم يعود على الـمحافظ وأنّ مدة ولايته لن تتجدد وكان في هذه الآونة اتصال دائم بين جماعة من الانفصاليين والـمفوضية العليا يثير الشك.
إنقلاب السياسة
خلال هذه الاضطرابات انتهت مدة ولاية مظهر رسلان وانتدب السيد إحسان الـجابري محافظاً للمنطقة ويتناقل الناس أنّ وطأته شديدة. فقام بجولة تـحببية في الـمنطقة كلها ونثر الوعود »الكتلوية« جزافاً. وأرسل يسترضي الـمعارضين لسياسة الشام وجعلهم يستقبلونه بـمظاهر استعراضية، كانوا يرمون من ورائها إفهام الـمحافظ مدى قوّتهم وقد فهمتها الـجرائد الكتلوية مظاهر ترحاب وإكرام وحسن نية!
لقد كان عمل الـمحافظ الـجديد عن حسن نية، ولكن حسن النية كان عميقاً إلى حد أنه لم يفهم معنى الـمظاهر الاستعراضية، وظن أنه بتقربه من الانفصاليين يتمكن من إرجـاع الأمن والنظام إلى الـمنطقة ولكنه خفف كثيراً من موالاته «للوطنيين» حتى أصبحت سياسته معاكسة سياسة سلفه تـماماً.
إحتلال عسكري
كل ما تقدم وما منيت به سياسة الكتلويين من العقم وقصر النظر، ساعد على النفور والتفكك بين صفوف »الوطنيين« العلويين وسئموا سياسة زملائهم في الوطنية في الداخـل. وإذ إنّ أهمية هذه الـمنطقة الـحربية لفرنسـة تستـدعي احتلالاً عسكرياً تضاعفت قوى الـمناورات التمهيدية التي تـحدث تـحت إشراف ضباط الاستخبارات الفرنسيين.
محاولة أولى
نزع السلاح من الـمنطقة:
نزع السلاح من الـمنطقة الشمالية لازمٌ في الدرجة الأولى لإتـمام خطة الفرنسيين، إذ إنّ هناك ألوفاً مسلحة على مقربة من الـخطر العسكري »والدهاء السياسي الفرنسي« يريد أن تقوم حكومة الشام بعمل نزع السلاح، حتى إذا غضب الأهلون لعمل الكتلة وتدخّل الفرنسيون، كان هؤلاء صخرة الإنقاذ من جور الشاميين الظالـمين! فاجتمع الـمندوب الفرنسي الـمسيو كاهور بالـمحافظ واتفقا على أن ترسل حكومة الشام إلى الـجوبة وقضاء الـحفة 500 دركي من دمشق وحلب ومدن الداخل لتعزيز القوات الصغيرة الـموجودة في منطقة اللاذقية لكي تـجمع السلاح.
وعلى أثر هذا الاجتماع طلب الـمسيو كاهور «الرب» سليمان الـمرشد، الساخط على حكومة الشام بسبب رفض بعض مطاليبه وأسرّ أليه أمر جمع السلاح من قبل حكومة الشام متهماً الـمحافظ وحكومة الشام بهذا العمل. وقال له أخيراً: »هذه نتيجة عدائك للسياسة الفرنسية وانضمامك إلى الوطنيين.« وأوهمه أنّ كتلة »الانفصاليين« ستساعد الـحكومة الشامية على تـجريده من قوّته. فثار ثائر الـمرشد وعمم على جماعته بوجوب الاستعداد التام لكل الطوارىء.
محاولة ثانية
نـجحت هذه الـخطة الرامية إلى إحكام العداء بين جميع الرؤساء العلويين والكتلة الشامية، إذ إنّ عملاً كهذا، أوغر صدر أنصار »الرب«، فخفّوا إلى الاستفسار عن هذا العمل وأوغرت صدر إبراهيم الكنج وكتلته، فأصبحت الـمنطقة معسكرين متقابلين كلاهما عدو لدود لـ »الكتلة الوطنية« ساخط على سياستها وعهدها ولكن عداءهما الـمحلي يـمنعهما عن الاتـحاد في طلب أمر مشترك.
بعد أن أبل »الرب« من مرضه قصده الـمحافظ الذي أظهر له كثيراً من التودد وقال له: »كنت عزمت على زيارتكم أثناء الـمرض، لكن الأعمال لم تـمكنّي«. فأجاب سليمان الـمرشد: »عرفت بعزمكم هذا من مصدر موثوق به جداً وكنت أنتظر بفارغ صبر زيارتكم لأنني أعددت لكم استقبالاً لم يكن لأي حاكم قبلكم من الوطنيين.« ثم أفهمه أنه كان مزمعاً على ذبح الـخمسماية جندي التي كانت سترافق الزيارة هذه. أنكر الـمحافظ بصورة بيّنت ضعف وخوف حكومته ولكن سليمان الـمرشد ظل حانقاً وهدد بأمر عظيم!
علم الـمحافظ بـما بين حسن عبود وصهره «الرب» فاستدعى الأول وتودد إليه وشجّعه على العمل الـجدي ضد »الرب« لكي تتخلص الـمنطقة من جوره وعسف رجاله وما يجرّونه على بقية العشائر من أضرار وما يـمكن أن تكون النتيجة إذا شاء »الرب« أن يعتدي على باقي العشائر. فأعلن حسن عبود خروجه على»الرب« واجتمع بإبراهيم الكنج رئيس الـحدادين وهم عشيرة كثيرة وقوية، وصقر طير بك رفيق الكنج ورئيس القراعنة والنواصرة، عشيرة صغيرة على حدود سليمان الـمرشد الشمالية في قضاء الـحفة وبيت شلق أيضاً على هذه الـحدود وتـحالفوا للقضاء على سليمان الـمرشد القضاء الـمبرم.
الـمعركة الأولى
تـمَّ التحالف ووضعت الـخطة، وكان مآلها، أن يبدأ حسن عبود في الـجوبة نفسها فيأخذ سليمان الـمرشد على غرّة ويقضي على إمكانيات تكتل رجاله وتـجمعهم حوله ويساعده من الـخارج أنصاره. ويوم السبت في 25 يونيو/حزيران وقعت الواقعة في قرية الـجوبة وأخذ الرصاص يلعلع من الساعة العاشرة ليلاً وبقيت الـمعركة إلى مساء الأحد.
ضحايا الـمعركة
قتـل محمد خليل الـخرطبيل أحد أنبياء «الرب» في بدء الدعوة والـمغضوب عليه اليوم. وقتل أخ حسن عبود ويشاع أنّ ابن حسن عبود ذبح ذبحاً، كما أنّ هناك إشاعة أنّ عـدد القتلى خمسة عشر رجلاً وعدة جرحى. والبعض رأوا يوم الأحد الـماضي أربع سيارات كبيرة آتية إلى اللاذقية وملأى بالـجرحى. حتى الآن لم يعرف عدد القتلى والـجرحى لأن كلا الفريقين يحرص على كتمان خسائره.
وصل من دمشق وسائر أجزاء الـمنطقة حوالي الـمائتي دركي إلى قرية الـجوبة.
الـحالة العامة
بعد هذه الـحوادث وانهزام جماعة حسن عبود، توترت الـحالة بصورة مريعة، وقد خفَّ جميع أنصار سليمان الـمرشد للاستفسار عن الـحالة، كما خفَّ الفريق الثاني لاستقصاء الأخبار ويخشى كثيراً أن تشعل نار معارك عشائرية في القريب العاجل.
إتصال مرشد الدائم بالـمندوب الفرنسي
والأمر الذي يبعث الـحذر إلى الـمحافظ والـحكومة الشامية ويلقي الرهبة في قلوبهم، هو اتصال سليمان الـمرشد الدائم بالـمندوب الفرنسي. وقوات الـمرشد في قضاء الـحفة لم تتحرك للمساعدة بل استعدت لصد أي هجوم مفاجىء من أعداء «ربهم» من خارج القضاء. والألـف رجل التي وصلت إلى الـجوبة صباح الأحد الباكر أتت من الـجهة الشرقية أي من قرية دير ماما وقضاء مصياف.
إستنتاج
إنّ حادث الـجوبة وما سبقه من مناورات يعود عهدها إلى تاريخ وضع الـمعاهدة، وما سيتبعه من الـحوادث الـموضوعة تصاميم تنفيذها يجعلني أؤكد أنّ النتيجة ستكون احتلال الـمنطقة عسكرياً بأساليب تدريجية دقيقة! وأمور كثيرة الآن تُنظّم سراً وتهيىء الـمنطقة لـحوادث كبيرة وللاحتلال وبعض هذه الأعمال التمهيدية يلخص كما يأتي: العمل على إقصاء الهواش عن محافظة حوران لإرجاعه إلى منطقة العلويين، فإن رؤساء العشائر ألـحوا عليه بالاستقالة، وعندما رفض طلبهم أثيرت منطقة حوران ليرى نفسه مضطراً للاستقالة. ثم إنّ حشد الـجيوش الفرنسية في شمالي الـمنطقة العلوية لا مبرر له إلا الشائعات الـمروّجة من الفرنسيين أنفسهم عن إمكانية هجوم من الأتراك. والـمؤكد أنّ كل هجوم تركي يكون متفقاً عليه بين فرنسة وتركية لذلك لا لزوم لـحشد القوات الفرنسية. أما أسباب هذا الـحشد الـحقيقية قد ظهرت تـماماً وهي ذات هدفين:
الأول - صد هجوم العلويين على لواء الإسكندرونة، في حالة تـحمسهم أو تـحمس بعضهم للعلويين الـموجودين في اللواء.
والثاني - إنّ كثرة الأسلحة الـموجودة مع الأهلين، في تلك الـمنطقة، تخيف الفرنسيين وتستدعي وجود قوة عسكرية فيها. حتى إذا حان وقت الاحتلال تتحرك القوات من الشمال جنوباً وتلاقيها قوات لبنان شمالاً وقوات من الشرق.
إنّ إثارة العشائر على بعضها، بهذه الصورة، لا تبقي مجالاً للشك في نية الفرنسيين أنهم يريدون هدم كل ما توهّمت »الكتلة« الغافلة عن كل هذه الـمناورات أنها بنته. وتـحت هذا الستار يقيمون حاجزاً حربياً ضد انتشار الـحركة السورية القومية، التي رأى خطورتها الـمندوب الفرنسي بأم عينه أثناء زيارة الزعيم الرسمية لهذه الـمنطقة، إذ اضطر أن يقفل راجعاً قبل أن يصل إلى صافيتا، لأن الـمنطقة كلها كانت قد احتشدت لاستقبال الزعيم.
قوات الفرنسيين
قد علمت من مصدر سري أنّ الفرنسيين طلبوا قوات من فرنسة وعدداً من الغواصات خاصة ليرابط على الشواطىء، وقد ادعوا أنّ قواتهم لا تكفي في حال هجوم تركي، وقد سُمع مخبري أحد الضباط الفرنسيين يقول للآخر: «إنّ مسألة رفع العلم الفرنسي تأجلت الآن لظروف مؤاتية»!
خطوط الدفاع الفرنسية
من مدة أسبوعين تـحرك رتل كبير من السيارات التابعة لقوات جيش الشرق في طريق الشاطىء وكان ذلك على أثر الشائعات الـمقصودة بأن قوة من الـجيش التركي اخترقت حدود الإسكندرونة والـجزيرة وقد أثبتت الـحوادث كذب هذه الشائعات. أما الـجيش الفرنسي فاستقر في اللاذقية حيث جرى توزيعه في الـخطوط الثلاثة التالية الواقعة في منطقة الباير:
أ - الساحل البحري.
ب - وادي القنديل، السفكون، شريفة، جبل النبي يونس.
ج - الـجبل الأقرع (طرف الباير الـجنوبي).
تستند هذه الـخطوط على الأسطول البحري ضد الهجمات الداخلية والـخارجية. إنّ منطقة الباير هي من الـمناطق الـحربية الـممتازة، لأنها تشكل الـخط الدفاعي الـحامي طريق الشرق الـممتد من الأناضول إلى طرابلس في الـخط الشمالي من شرقي الـمتوسط.
السلاح في الـمناطق
لا تخلو منطقة من السلاح الـحربي ولكن الـمناطق التالية، وهي الباير وبوجاق والـحفة وبسيط، ملأى بـمختلف الأسلحة لأسباب مرَّ ذكرها ولعدم ثقة رؤسائها بالـحكومة الشامية التي تتراءى لهم دائماً في ثوب ديني سنّي. وبلاد العلويين كلها تخاف العجرفة السنّية. ثم إنّ الـمستشارين الفرنسيين، في ما مضى، كانوا يعمدون إلى تسليح جماعاتهم خصوصاً حين كانت الـمفاوضات جارية لعقد الـمعاهدة. فبينما كانت الكتلة لاهيـة في التوديع واللقاء والتبشير بالإمبراطورية العربية كان الـمستشارون يضعون ألغامهم لنسف الوحدة الكتلوية متى أرادوا.