يطالع القارىء، في ملخص البرقيات، خبراً يتعلق بنيات تركية ومراميها في سورية. وهذا الـخبر القائل إنّ تركية عزمت على التدخل في الـمسألة السورية تدخلاً قوياً »لـحمل فرنسة على تصديق الـمعاهدة ولتقديـم الـمعونة الـمخلصة للشعوب الشرقية« هو من أخطر الأنباء الـمتعلقة بـمطامح الأمة السورية ومصيرها.
إنّ هذه اللهجة التركية الـجديدة ليست من الشؤون الكلامية الـخيالية، بل من شؤون السياسة العملية الـخطرة الدالة على استفحال الـخطر التركي على سورية، الذي دلّ عليه سعاده في خطابه في حفلة افتتاح النادي الفلسطيني في الـجامعة الأميركانية في أوائل سنة 1933، ومنذ تلك السنة والـحزب السوري القومي يراقب تطورات السياسة التركية ومسائل الـحدود الشمالية وموقفه الشديد، فيما يختص بـمسألة لواء الإسكندرونة مشهور.
لا يـمكن إدراك حقيقة الـخطر التركي على سورية إلا لـمن يراقب بدقة، حركات الدعاوة التركية في الوطن، كما تفعل دوائر الـحزب السوري القومي الـمختصة، التي جمعت من التقارير عن هذه الدعاوة إخبارات ضخمة. وفي صدر هذه الدعاوة ما قام به السيد جميل مردم رئيس الوزارة السابق. الذي أعطى شركة د.ن.ب. الألـمانية تصريحات مدهشة في هذا الصدد، أولها تصريحه الرائع: »إذا كان الأتراك يعدّون مصطفى كمال أبا الترك فأنا أعدّه أبا الشرق«! وهذا التصريح عاد السيد مردم فأيّده بتصريح ثانٍ للشركة البرقية عينها قبيل سفره الأخير إلى فرنسة إذ قال: »مهما يكن من أمر لواء الإسكندرونة فهذا لا يـمنعنا عن طلب توثيق أفضل العلاقات مع جارتنا تركية«! و»الكتلة الوطنية« تؤيد كل التأييد هذه التصريحات الـمروجة للدعاوة التركية، التي يعلنها في عدة مناسبات رئيس حكومتها.
ومن أهم شركات الترويج للدعاوة التركية شركة فخري البارودي، التي تقوم على إدارة ما سموه »الـمكتب القومي العربي«. فإن هذا الـمكتب يعمل بكل قواه لإثارة الـمشاكل العنصرية في سورية بحجة تأييد »العنصر العربي«، كما فعل في قضية لواء الإسكندرونة، ولتنفير العناصر التي يعدّها »شذاذ آفاق«، [عاملاً] دائماً على التفسيخ السوري القومي وتقطيع أوصال الوحدة السورية القومية، حتى إذا تقدمت تركية في سورية، تـجد أمامها شعباً متخاذلاً، مفسخاً بين »عرب« وفينيقيين وأكراد وشركس وأرمن وآشوريين وآراميين، بدلاً من أن تـجد أمة واحدة هي الأمة السورية الـموحدة الروحية والعقيدة، الـمستعدة لـمقاومة كل طمع وكل غزو.
ويزداد الـخطر التركي، بازدياد الدعاوات الأجنبية الأخرى، التي أخذ عمالها يتسابقون على تفسيخ ذهنية الشعب وتوجيهها لـخدمة الـمصالح الـمتضاربة التي يعملون لها. ويجد الـمراقب هذه الدعاوات متفشية في جميع أوساط الشركات السياسية الوطنية، كالشركة التي مثَّل حكومتها السيد جميل مردم، ما عدا الـحزب السوري القومي الذي تنبه باكراً للدعاوات الأجنبية فألقى زعيمه خطاباً في أول يونيو/حزيران سنة 1935 أي قبل انكشاف أمر الـحزب بنحو ستة أشهر حذّر فيه أعضاء الـحزب من هذه الدعاوات وقال عبارته: »إننا لا نعترف بـمبدأ الدعاوة الأجنبية. يـمكن للدعاوات الأجنبية أن تتفشى في فوضى الأحزاب الوطنية ولكنها متى بلغت إلى السوريين القوميين وجدت سداً منيعاً لا تنفذ فيه.«
وتشتد الدعاوة التركية في الأوساط التي لا يزال الدين غالباً عندها على القومية، فعمّال الدعاوة التركية يبثون أفكارهم في الطبقات الإسلامية غير الـمثقفة مغررين بها وحاملينها على الاعتقاد أنّ تركية هي الدولة الوحيدة التي تستطيع حماية الـمسلمين و»الشرقييـن« من طغيـان الغرب. وهذه الدعاوة راجت كثيراً في طرابلس وبيروت فضلاً عن حلب وغيرها من مدن الداخلية وشجّعها سياسيون محترفون »دهاة« كخيرالدين الأحدب الذي يريد أن يتخذ منها مجرّد »نكرزة« على الـحكومة التي خلفت عهده الـمشؤوم.
الظاهر أنّ تركية تريد أن تسير في سورية على غرار اليابان في الصين. فهي تريد أن »تـحمي« شعوب الشرق الأدنى من أخطار أوروبة، كما تريد اليابان أن »«تـحمي« الشرق الأقصى من هذه الأخطار. فتركية القومية العصرية تريد أن تسير على الأساليب العصرية للدول القومية. وهي ترى أن تستفيد من الفرص التي تهيئها لها الشركات السياسية من »وطنية« و»عربية« وغيرها، قبل أن تكون الـحركة السورية القومية قد تـمكنت من انقاذ الشعب من شباكها. فهذه الشركات تعمل ليل نهار، لتحويل بصائر الشعب عن الاهتمام بأمر وحدته القومية إلى الاهتمام بـما يحدث في تونس ومراكش والكويت واليمن، ولصرفه عن الاعتماد على نفسه إلى الاتكال على ما قد يكون، من الـمحتمل، أن يصدر عن الشعوب العربية.
الـخطر التركي خطر عظيم أصبح مداهماً بعد الاستيلاء على لواء الإسكندرونة وتوقيع الاتفاق الفرنسي - التركي الذي ترجّح أوساط الـحزب السوري القومي أنه يشتمل على تفاهم سري على تسليم معظم دولة الشام لتركية.