عندما أثيرت مسألة لواء الـجزيرة وضمان الأقليات في »الـمعاهدة« الشامية - الفرنسية قامت قيامة نواب »الكتلة الوطنية« ووزرائها وانهالت التصريحات في الـمجلس النيابي الشامي وصحف الشام وكلها تقول: »لا أقليات في سورية«.
ولـما تضايقت »الكتلة الوطنية» من تـمرد الأقليات في الـجزيرة قالت، إنّ اللوم يقع على الأصابع الفرنسية.
وبعد أن تبدل الـموقف السياسي في سورية وجاء مفوض فرنسي جديد وتغيرت الآلة الإدارية الفرنسية، قابل مندوب جريدة ألف باء الأحد مندوب الـمفوضية السابق في دمشق، الكنط أسطرروغ، الذي لعب دوراً في سياسة الوطن لا يستهان به وكان ذا شأن في دائرة الاستخبارات الفرنسية، وطلب منه حديثاً وداعياً. فتحدث الكنط كثيراً عن وجوب الاحتفاظ بصداقة فرنسة وخبط في هذه الناحية كثيراً ولكنه تخلص إلى قول صريح في صدد حوادث الـجزيرة والعلويين وجبل الدروز، هو كما يأتي عن الأحد الصادر في الثالث والعشرين من يناير/كانون الثاني الـماضي:
»والشيء الذي أصارحك به هو أنّ الـحكومة الوطنية لا تريد الاعتراف بوجود أقليات في سورية. وهي مخطئة في هذه الدعوى، لأنّه من الـمفروض في الـحكومة الـمسؤولة أن تواجه الواقع كما هو، لا سيما في مثل هذا الظرف الذي تـجتازه سورية. ففي البلاد أقليات إتنية ودينية وهذه الأقليات شأنها في العالم كله، يجب أن تصان حقوقها وتـحترم معتقداتها وتقاليدها وعاداتها، إلى أن يعزز التقرب والتفاهم بين الأجزاء السورية التي كانت في الـماضي متنافرة متباعدة. وليس من مصلحة سورية، في شيء، أن تتجاهل الـحكومة وجود أقليات. ولعل الـحوادث التي وقعت في الـجزيرة والـمناطق الأخرى أثبتت وجود أقليات مختلفة تريد الـحياة في ظل التفاهم والتقرب والتعاون، كي لا تكون غريبة مهملة. فواجب الـحكومة إذن أن تسعى إلى اجتذاب هؤلاء إلى الـحظيرة الوطنية بالـحلم والوداد والتسامح واللين والإخلاص والتعاون، بتنظيم الـمواصلات معها ومدّها بالـمشروعات والأعمال الـمفيدة وأخذها بعين الاعتبار والاهتمام، لتحس أنها ليست غريبة عن سورية وأنها من لـحمها ودمها.«
لا مشاحة في أنّ السياسي الفرنسي أراد في حديثه، تأييد وجهة نظر دولته، بـمطالبتها بحماية الأقليات التي سلمت بها حكومة الكتلة، كما سلمت بامتيازات النفط والامتيازات الـحربية. ولكن مـما لا ريب فيه، هو الواقع أنّ في سورية عنصريات إتنية ودينية، وتـجاهل الواقع لا يزيل الـحقيقة بل يؤدي إلى اختبارات مؤلـمة كالاختبار الذي جرى للدكتور توفيق شيشكلي حين زار قضاء جرابلس في أوائل السنة الـماضية واضطر لأن يقف ويقول: «الأكراد تاج رؤوسنا»!
والـحقيقة التي اضطرت النائب شيشكلي لهذا القول اضطرت السيد جميل مردم، وهو بعد رئيس الوزارة، إلى التكلم عن الأكراد في حفلة سوق ساروجه في السادس من يوليو/تـموز الـماضي منوّهاً: «بـما امتاز به إخواننا الأكراد من الـمزايا العالية والأخلاق السامية والإيـمان الوطني وما لهم من مواقف مشهودة في الـجهاد فأظهروا من الشجاعة والإقدام وعلو النفس ما كان موضع الإعجاب والاحترام. وهذا ما دعا إلى أن تباهي سورية بوطنية الأكراد وحسن جهادهم وتـمسكهم بحقوق الوطن وعملهم في سبيل حريته واستقلاله، الخ..» ولكن هذا القول وغيره لم يكن سوى تدجيل وتضليل لم تؤخذ به «الأقليات» لأن الـحملة الكتلية «العروبية» على العناصر غير العربية وإشارة العروبيين تكراراً إلى الـمصير السيِّئ الذي ينتظر العناصر غير العربية »شذاذ الآفاق« كانتا كسيفٍ مسلّطٍ فوق رقاب العناصر الإتنية والدينية القليلة نسبياً.
وكيف يـمكن لهذه العناصر أن تصدق مثل هذه الأقوال الـخطابية العاطفية الـمختلفة عن الواقع، في حين أنّ هنالك وقائع وأقوال تؤيد الوقائع تدل على العكس. فالأكراد والأرمن خبروا هذه الأقوال في الإسكندرونة حيث ضحّتهم السياسة الكتلية. فإن تنفير العناصر الكردية والأرمنية في ذلك اللواء، قبل حصول الاتفاق الأجنبي في صدد اللواء، هو ما جعل الأكراد يعودون إلى الرضى عن الأتراك الذين ثاروا عليهم عدة ثورات وحاربوهم، كما تثبت ذلك، أخبار انتخابات لواء الإسكندرونة في ذلك العهد.
هذا هو الواقع الـمؤلم. ومن الأقوال التي يظهر لهذه الأقوام أنها تؤيد الواقع ما ورد في رسالة للأمير شكيب أرسلان أرسلها مؤخراً إلى صاحب جريدة الشباب الـمصرية ونشرتها الـجريدة الـمذكورة في عددها الصادر في الثامن من فبراير/شباط الـماضي. فالأمير شكيب لا يعتقد أنّ الأتراك سيثيرون مسألة الطلب من فرنسة التخلي لهم عن الانتداب على حلب وملحقاتها »لـما يعلمون من عواقبها، فسنجق إسكندرونة شيء وحلب وتوابعها شيء آخر، لأن سنجق إسكندرونة فيه تسعون ألف تركي والعرب الذين يقابلونهم من أجناس مختلفة هم ضعفاء وعملة في أراضي الأتراك، وأما حلب فهي عربية ومن أمهات البلاد العربية. وكذلك الـجزيرة التي أربعة أخماس أهلها عرب لا يقدر أن يقاومهم هناك شذاذ يحركهم الكاردينال فلان والـمطران فلان.«
هذه العبارة الـخطيرة التي يقولها الأمير شكيب أرسلان في معرض الدفاع عن الوحدة السورية الباقية من غير أن يقصد التعرض لـمسألة الأقوام غير العربية هي قوية جداً من وجهـة النظر العروبية التي يعمل لها بكل إخلاص الأمير شكيب. ولكن الأقوام الإتنية والدينية الأخرى ترى فيها الصراحة والـجرأة اللتين هما من صفات الأمير، بعكس الكلام الدبلوماسي الذي يقوله السيد جميل مردم وشركاؤه.
إنّ مسألة العناصر السورية الإتنية والدينية، هي من الـمسائل الرئيسية، التي اهتم الـحزب السوري القومي بـمعالـجتها وأوجد لها الـحل الوحيد الذي يـمكن أن تتولد منه الوحدة السورية القومية الصحيحة وهذا الـحل هو في مبدأه الأساسي السادس القائل: »الأمة السورية هيئة اجتماعية واحدة« فهذا الـمبدأ يؤلف جزءاً هاماً من الإيـمان القومي يعمل بـموجبه السوريون القوميون بصورة عامة اكتسبت ثقة جميع العنصريات الإتنية والدينية سواء أكانت أقلية أم أكثرية.
إنّ العقل السوري القومي لا يحتاج إلى موظف فرنسي يهديه. وإذا كان الكنط أسطرروغ قد تكلم في هذه القضية بجلاء، فهو كان أحد كبار الـموظفين الفرنسيين الذين أوجبت عليهم وظائفهم درس تعاليم الـحزب السوري القومي ونظامه وأهدافه ليعطوا آراءهم فيها.
»الكتلـة الوطنية« ظنت أنها تقدر أن تـحل مسألة الأقليات بتجاهل وجودها، فكانت النتيجـة أنّ الفرنسييـن تـمكنوا من الاستفادة من هـذه الفرصة وهذا العجز السياسي الباهر.
أما الـحزب السوري القومي فقد أزال قضية الأقليات بالفعل، لأنه أنشأ مجتمعاً جديداً ذا نفسية جديدة ومناقب سامية جديدة وفلسفة تشمل جميع مناحي الـحياة القومية. وقد جربت السلطة أن تفسخ الوحدة السورية القومية باللعب على وتر العنصريات وبالإغراء والوعود ولكنها منيت بالفشل التام الناجز.
إنّ سـر قوة الـحزب السوري القومي هو في تنظيمه الروحي، لا في أشكاله النظامية الظاهرية، التي يراها البسطاء ويتوهمون أنها كل نظامه.