لم تـمنَ أمـة عظيمة مجـاهدة بتمثيـل سياسي سيِّىء يقتل معنوياتها ويعطّل مجهوداتها القومية، كما منيت الأمة السورية العظيمة الـمجاهدة في سبيل حقوقها وشخصيتهـا بتمثيـل »الكتلـة الوطنيـة« الإقطاعيـة لـمصالـحها القومية تـمثيلاً حوّل انتصاراتها إلى انكسارات، وجعل إقدامها وبالاً عليها، ووطنيتها نكبة، وجهادها القومي العظيم خسـارات وطنـية ماديـة ومعنويـة، أوصلت الأمة إلى آخر مواردها وضيَّقت عليها حدود وطنها تضييقاً ليس بعده تضييق.
لقد تغنّى الكتلويون كثيراً »بجهادهم« والـحقيقة أنهم لم يكونوا غير مستغلين لـجهاد الأمة ومحولينه إلى النتائج التي أرادوها لأنفسهم. ولكن تغنّيهم كان في زمن الرسائل الصحافية الـمأجورة، وقبل أن تبزغ أنوار النهضة القومية وتـجلو صدأ الأذهان وتضيء للمبصرين معالم الـحقيقة، فيُعرف الصحيح من الفاسد وتتبدد الأوهام، التي عمل الإقطاعيون الـمتكتلون على إشباع عقلية الشعب بها. فلما خرج الزعيم من صلب الأمة موضحاً الـحقائق القومية، وواضعاً النظام القومي الـموجد الكيان القومي الصحيح، ومكوناً الـخطط العملية لتنظيم الأمة وإنقاذها من الـحالة السيئة التي صارت إليها، انقشعت الغشاوات عن البصائر وأدرك الـمتنبهون أنّ جعجعة الكتلويين كانت جعجعة من غير طحن، وأنّ رسالة سعاده هي اتـجاه الأمة الصحيح. وكان في عداد الذين أدركوا ذلك الكتلويون أنفسهم.
أدرك الكتلويون في عداد من أدركوا أنّ الـحق هو ما جاء به الـحزب السوري القومي، وأنّ أعمال «الكتلة الوطنية» لم تكن إلا ألاعيب صبيانية بالنسبة للعمل القومي الـجبار الذي ابتدأ يحرك الأمة عن طريق تنظيم الشعب ومصالـحه، وأنّ الـحزب السوري القومي هو الـحزب الذي سيدخل في صميم الأمة ويتغلغل في نفوس الشعب. وبقدر ما استقبلت الأمة ظهور حزبها الـممثل شخصيتها ومصالـحها وإرادتها بالفرح والارتياح، بقدر ما استقبل الإقطاعيون الـمتكتلون وغير الـمتكتلين ظهور الـحزب بالـخوف والـحنق والـحسد.
كان الـمنتظر، بناءً على الوهم السائد في النفوس عن »وطنية الكتلويين«، أن يكون هؤلاء أول الـمرحبين بالـحزب السوري القومي، الذي جاء بالرسالة القومية جلية واضحة، وأوجد لتحقيقها مـمكنات لم تكن تخطر في بال أحد، وفتح آفاقاً جديدة واسعة للعمل القومي الـمنظم الذي لا سبيل إلى بلوغ هدف بدونه.
ولكن الكتلويين كـانوا أول من انـدفع في محاربة الـحزب السوري القومي اندفاعاً اعتباطياً لا روية فيه ولا حكمة، لا من جهة الـمصلحة القومية ولا من جهة مصالـحهم الـخصوصية. وعندما نقول »الكتلويون« نـجعل الكلام إجمالياً ولا نـميّز فيه بعض الكتلويين الذين كانت لهم آراء شخصية مستقلة تـحبذ الـحزب السوري القومي.
كـان أول من تصدى لـمحاربة الـحزب السوري القومي من الكتلويين السيد فخري البارودي، فأعطى تصريحات يشجب فيها الـحزب منذ البدء. فلما استقصى أعضاء الـحزب وأصدقاؤه عن سبب تهجّم البارودي على الـحزب أجاب: »علمت أنّ الزعيم أصـدر تعليمـات بـمنـع الأعضاء من مناصرة مشروع الفرنك الـذي أقوم به«! فظهر للعيان أنّ خصومة البارودي الكتلوي للحزب السوري القومي لم تكن خصومة مبادىء، بل خصومة مصلحة شخصية.
والـحقيقة أنّ الزعيم كان قبل انكشاف أمر الـحزب قد أصدر تعليمات إلى فروع الـحزب بالـمعنى الـمتقدم، لأن الـمشروع كان شخصياً غامضاً، وقد تبين فيما بعد أنّ الزعيم كان على صواب في تعليماته لأن القانون الأساسي لـمكتب فخري البارودي احتوى نصوصاً تـجعله يحتكر الـمال الـمجبى احتكاراً »لا يُسأل عنه من قِبَل أحد« ولا يقبل رقابة أو محاسبة. ومهما يكن من الأمر فإن الزعيم أعطى تعليمات بصدد أمر معيّن عُرض عليه، وهذا الأمر هو شخصي بحت يتعلق بالسيد فخري البارودي.
مـما لا شك فيه أنّ الكتلة وجدت نفسها أمام فشل رائع يعلنه لها مجرّد ظهور الـحزب السوري القومي. ففي الوقت الذي كانت تتبجح فيه: »أنّها سيدة الـموقف وقائدة الـحركة الوطنية« ظهر للملأ أنّ الـحزب السوري القومي هو الهيئة الوحيدة في الوطن، التي يصح أن تسمى منظمة، وأنه هو الـمنظمة الوحيدة التي نظرت في حياة الشعب ومصالـحه واهتمت بتنظيم الشعب وإشراك أفراده في العمل القومي بصورة تتأسس فيها الأعمال والوسائل. فأدت هذه الـحقيقة إلى انفضاح »الكتلة الوطنية« انفضاحاً شديداً إذ قد تبيّن أنه في الوقت الذي تدّعي فيه العمل والـجهاد لم تـجسر على تـحمّل مسؤولية تنظيم الشعب والتغلب على القوانين الـمجحفة بحقوق الشعب الـمدنية والسياسية. وكل ما كانت تقوم به الكتلة هو تـحريض الشعب بطرق لا مسؤولية فيها على القيام بحركات شغب تقع تبعتها على الشعب نفسه.
وقـد وقعت هذه التبعة على الشعب، فكانت خسائر عظيمة وخراب بيوت عديدة سارت بالشعب نحو الفقر والضعف واليأس، فضاعت الـمجهودات الثمينة التي قام بها الشعب في العجز السياسي الفاضح الذي أظهره الكتلويون في معالـجتهم الأمور كما سنبيّنه.