صدّق الـمجلس الشامي على الـمعاهدة التي يتحول إليها الانتداب فوضع كرامة الشعب الشامي وحقوقه في ميزان السياسة الإنترناسيونية. وكان بعد جواز الـمعاهدة في الـمجلس أنّ الـخطوات التي كان من الطبيعي أن تتلو عمل الـمجلس الشامي توقفت، وإذا بـمسألة الإسكندرونة وادعاءات تركية فيها تثار فتجلو الإبهام الذي اكتنف جمود الـحالة فيما يتعلق بـمصير الـمعاهدة. ثم تلا ذلك قلاقل لواء الـجزيرة والأحاديث الكثيرة التي علّقت عليها في أوساط الشعب وفي الصحف. وقد نتج عن هذه القلاقل درس طويل للمعاهدة في باريس وفي دمشق.
هذه الأمور دلّت على أنّ الـمعاهدة لم تكن قد تـمّت، وأنها جرت بنقص كبير في التدبير والاحتياط من جانب »الوطنيين«. وقد دلَّ هذا النقص على عجز فاضح في فهم الـمسائل السياسية والدبلوماسية. وهذا العجز يـمسّ الشعب الشامي في حقوقه وكرامته.
ظلت الـمعاهدة معلقـة من الـجـانب الفـرنسي على أمور وجدت الـحكومة الفرنسية أنّ مصير الـمعاهدة يجب أن يبقى معلقاً عليها. والـمعلوم أنّ هذه الأمور نشأت اعتباراتها بعد الاتفاق النهائي على الـمعاهدة، ووضع نصوصها الـمقبولة من الطرفين وبعد جوازها في الـمجلس الشامي. فهي من هذه الأمور التي كان يجب أن تبقى كمسائل خـاصة تتعلق بالسياسة الودية بين الطرفين الـمتعاقدين. أما جعلها شروطاً لقبول الـمعاهدة من الـجانب الفرنسي فلا وجه حقوقياً له. ولكن «الكتلويين» الذين لا يكادون يصدّقون أنّ الـحكم صار إليهم ارتاعوا ارتياعاً شديداً لهذا الـموقف وتشبثوا بسياسة البقاء في الـحكم ما أمكن.
لا ندري إذا كانت الاتفاقات الـملحقة بالـمعاهدة تقضي على أهم الفوائد القومية من إحلال الـمعاهدة محل الانتداب. فالأمر سيبقى بين الشك واليقين إلى أن نطّلع على نصوص الاتفاقات الـملحقة بالـمعاهدة، التي سيغيّر تصديق الـمعاهدة في فرنسة كل أساسها. ولكن هل نطّلع على هذه النصوص؟
إنّ السياسة الـمتّبعة في صدد الاتفاقات الأخيرة هي السياسة السرية. ولا ندرك الـحكمة من جعلها سرية في حين أنها تتناول الـمصالح القومية العامة وتبتّ في الشيء الكثير من هذه الـمصالح. ومن هذه الـجهة نرى أن لا مبرر مطلقاً لإكساب هذه الاتفاقات الإضافية للمعاهدة صفة سرية، فهي ليست تتعلق بشؤون حربية يجب ألا يـذاع أمرها ولا بأي خطة مدبَّرة ستشترك الدولتان الشامية والفرنسية في اتّباعها في الوضع الإنترناسيوني، بل هي تقتصر على ترتيب بعض الشؤون الاقتصادية التي لها علاقة وثيقة بإمكانيات الأمة ومستقبلها.
تشير بعض التصريحات »الوطنية« إلى إمكانية حجب الاتفاقات الإضافية عن الـمجلس واعتبار عدم الـحاجة إلى رأيه. فما هو الـحق أو التخويل الذي تستند إليه الـحكومة لاتخاذ هذا الـموقف؟ إنّ مسألة مصالح الأمة ليست مسألة حزبية كتلوية بل مسألة قومية يجب أن يحيط بتفاصيلها الـمجلس النيابي والأوساط السياسية. أما إحاطتها بجو من الكتمان فيعني جعل الأمة كلها رهن مشيئة لم تبرهن على أهليتها لثقة مطلقة.
الـحقيقة أنّ الـمحالفة الشامية - الفرنسية والـمحالفة اللبنانية - الفرنسية تشبهان من كـل وجه الـمحالفات التي كـانت رومـة تعقـدها مع الشعـوب التي تتغلب عليها أو تدخل تـحت سيطرتها. فقد كان نظام السيطرة الرومانية يشمل الـمستعمرات والأحلاف. وأحلاف رومة هم الذين يجبرون على محالفتها كما تريد هي لا كما يريدون هم.
إنّ السياسة السرية في مثل هذه الظروف لا تفيد كثيراً. فإذا كان رجال الأمر اليوم عاجزين عن وضع سياسة مُحكمة للسير بالأمة نحو الارتقاء والتقدم، فالأسرار كلها تبطل تـجاه إرادة الأمة الـمتولدة من مصالـحها وحاجاتها فالشعب قد استيقظ وأخذ يدرك الفرق بين الكلام والـحقائق.