يقال إنّ سورية قد ابتدأت عهداً جديداً في حياتها السياسية هو عهد الـمعاهدات وإنشاء الدول الـمستقلة، والـحقيقة أنها لم تبتدىء شيئاً من هذه الـجهة. فما عدا نشوء الـحـزب السوري القومي لم تختبر الأمة السورية أي تقدم عملي في سبيل السيادة القومية والـحصول على الـحقوق القومية.
وليس في محله ظن »الكتلويين« في الشام أنّ الـمعاهدة التي أُعطيت لهم هي انتصار للأمة. فقد تكون هذه الـمعاهدة انتصاراً للسياسة »الكتلوية« ولكنها ليست انتصاراً للسياسة القومية. والـحقيقة أنّ الـمعاهدتين الشامية - الفرنسية واللبنانية - الفرنسية لا تعنيان شيئاً سوى اتخاذ الوزارة الفرنسية خطة حاسمة فيما يختص بسورية الشمالية الواقعة تـحت انتدابها. وقد لـجأت السياسة الفرنسية إلى هذه الـخطة رداً على نشوء الـحزب السوري القومي وظهور تعاليمه الـجديدة ونظرته القومية التي أشار إليها من بعيد السيد باستيد، رئيس لـجنة الشؤون الـخارجية في الـمجلس الفرنسي.
وإنّ انتهـاج سيـاسة واحدة في شمالي سورية وجنوبيها من قبل الدولتين الـمنتدبتين عليها، يدلنا على أنّ وجهتي نظر الدولتين الكبيرتين متفقتان نهائياً فيما يتعلق بـمصير وطننا. والظاهر أنّ اتفاق هاتين الدولتين الـمنتدبتين النهائي في صدد القطر السوري قد حدث بناءً على تطور الـحالة الإنترناسيونية، بعد فتوحات اليابان في الصين، وفتوحات إيطالية في الـحبشة وحشد قواتها في ليبية، وبعد استعادة السيادة الألـمانية على الرين، وحملة ألـمانية في سبيل استعادة مستعمراتها، وبعد انتصارات القوميين في إسبانية بـمساعدة إيطالية وألـمانية. فإن هذه التطورات قد ولّدت ضغطاً شديداً من الوجهة السياسية - الاقتصادية استدعى إعادة النظر في مناطق النفوذ عامة، ولـجوء فرنسة وبريطانية إلى تحسين موقفيهما والبتّ نهائياً بشأن مصير بعض المناطق الواقعة تـحت نفوذيهما. وكانت سورية في مقدمة هذه الـمناطق، إذ كان مصيرها من الوجهة الإنترناسيونية لا يزال معلقاً على تطور الظروف. ولـمّا كان الشعب السوري شعباً نشيطاً قابلاً للتنبه السياسي والأخذ بالـمبادىء القومية الصحيحة وكانت هذه الـمبادىء قد وجدت، فإن هذه الـحقيقة استدعت النظر الـجدي في مصير سورية الإنترناسيوني وكان لا بد من الالتجاء إلى سياسة أكثر تـحديداً من ذي قبل، خصوصاً قبل وقوع الـحرب التي يظهر أنّ العالم سائر نحوها بسرعة القطار الـمستعجل.
ويظهـر أيضاً أنّ مسائـل شرقي البحر السوري أوجبت إشراك تركية نهائياً في تقرير مصير هذه الناحية من العالم، لأنه لا يـمكن مطلقاً إغفال خطورة تركية في الشرق الأدنى فكانت النتيجة أنّ تركية قدّمت مطاليبها بشأن لواء الإسكندرونة وكان أنّ هذه الـمطاليب أجيبت بغاية السرعة على حسابنا وحساب النفوذ السياسي الفرنسي شرقي البحر السوري.
أوجبت هذه الـحالة الـجديدة وتطور العالم نحو الـحرب أن يتخذ الاستقرار السياسي في هذه البلاد شكل استقرار حربي، وأخذت التقسيمات السياسية في سورية تسير على الـخطط الـحربية. فالـمناطق الـجبلية الساحلية من سورية الشمالية كان لها امتياز ومعالـجة خصوصيان في الـمعاهدتين الشامية - الفرنسية واللبنانية - الفرنسية. وجاءت مقترحات البعثة الـملكية البريطانية بشأن تقسيم جنوبيّ سورية موافقة كل الـموافقة لهذا النهج الـجديد السياسي الـحربي. فإنشاء دولتين سورية ويهودية في الـجنوب وإبقاء مـمر له مزايا خاصة تـحت الانتداب البريطاني الـمباشر، فضلاً عن إنشاء موانىء ومواقع حربية، كل هذه شؤون مقصود بها تسوية نهائية سياسية حربية.
هذه هي الوجهة السياسية الـحقيقية للوضع الـجديد في بلادنا. وهذه هي النظرة السياسية الصحيحة التي لا تتمكن «الكتلة الوطنية» في الشام، ولا النواب من معارضين وحكوميين في لبنان ولا رجال السياسة التقليدية في فلسطين، من إدراك كنهها. وإذا كان لا بد لنا من التكلم بالسياسة بالـمعنى الصحيح فيجب أن نعالج الـمسائل بالفن السياسي القومي العالي وأن نطرق الـموضوع في لبابه.
ولا بد لنا في هذا الـموقف من القول إنّ السياسة الكتلوية الاعتباطية قد ساعدت هذه السياسة الإنترناسيونية من حيث لا تدري، وهي تظن أنّ الـمعاهدة من صنع يديها، مع كل ما جلبته على البلاد من الـخسارة والهوان.
قلنا في مقـالات سـابقة في هذا الباب إنّ إمكانيات سورية لا تبرر مطلقاً هذا التقلص في حدودها وفي نفوذ فرنسة في الشرق. ونقول الآن إننا نعتقد أنّ مصير شرقي البحر السوري يحتاج إلى سياسة تشجع نهضة سورية القومية. فإن سورية بعد النهضة القومية هي عامل هامٌ من عوامل تقرير شؤون الشرق الأدنى.
إنّ الـموقف الـحاضر موقف حرج جداً يجب على سورية أن تتنبه لـخطورته وخطره على حياتها ومستقبلها. ولا مخرج لسورية من هذا الـمأزق إلا بالاعتصام بنهضتها القومية وتقويتها. ونحن نعتقد أننا نكون حلفاء أفضل إذا كنا أقوى.