ليس فَقْد لواء الإسكندرونة عائداً إلى السياسة الإنترناسيونية فحسب، بل إلى سياسة الـحزبية والعنصرية التي سارت عليها »الكتلة الوطنية« مضافة إلى عوامل السياسة الإنترناسيونية.
فالذين يتتبعون انتخابات الشمال والإنذارات التي سبقتها، يجدون أنّ الكتلة أبت أن تأخذ بعين الاعتبار خطورة بعض الـمسائل السياسية في جبل الأكراد، مـما أدى إلى انصراف بعض العناصر عن تأييد الحكم السوري الوطني، وإلى احتكاك بعض الرؤساء الأكراد بالقنصلية التركية وتوددهم إلى الأتراك إظهاراً لنقمتهم على سياسة الكتلة.
وحتى الآن، تستند سياسة الـحكومة في معالـجة مشكلة لواء الإسكندرونة على النعرة العنصرية. فهي تعطي الأساس الـحقوقي من وجهة العنصر العربي مهملة العناصر الأخرى التي لها شأن عظيم في تقرير مصير اللواء. فأدت هذه السياسة العنصرية إلى النتيجة الوحيدة لكل سياسة عنصرية وهي تنافر العناصر الداخلة في سورية وتصادمها.
والظاهر أنّ السياسة عينها التي اتّبعت في معالـجة مسألة الإسكندرونة تتَّبع في معالـجة مسألة الـجزيرة. فالعناصر هناك تتذرع بالـخطر العنصري عليها لتدعو إلى التفكك وعدم الثقة بالـحكم الوطني. فماذا تفعل حكومة الشام في سبيل اكتساب هذه العناصر ونزع سلاح الـمشاغبين؟
أن تفضل أن تكون بربـونية[1] على أن تكون قوميـة متساهلـة. وكما أنّ البربـون
ظلوا يكررون أغلاطهم، حتى قيل فيهم: إنهم لم ينسوا شيئاً قديـماً، ولم يكتسبوا فائدة جديدة. كذلك تريد الكتلة ألا تنسى شيئاً عقيماً، وألا تستفيد درساً جديداً، ولو تبعت الـجزيرة العليا لواء الإسكندرونة.
طبعاً إنّ رجال الكتلة سيجدون الداء كل الداء في الـمطامع الـخارجية، وسيضعون كل التبعة على هذه الـمطامع. ولكنهم من هذه الـجهة عينها يخطئون، لأن الطريقة الوحيدة للإبقاء على لواء الـجزيرة هي طريقة اكتساب العناصر كلها للوحدة القومية.
ولقد تسرب إلى بعض الأوساط أنّ بعض الأحاديث التي دارت بين زعيم الـحزب السوري القومي ودولة رئيس الوزارة الشامية تناولت مسألة الـجزيرة العليا، وإمكان تعاون الـحزب مع الـحكومة لإيجاد الـحل الـملائم للمصلحة القومية. وقد أثبت الزعيم لدولة رئيس الوزارة صحة الإمكانيات الواسعة لعمل الـحزب في سبيل تأييد الـحكم الوطني وتثبيته. وظهر أنّ دولة رئيس الوزارة اقتنع بوجهة نظر الزعيم.
ولكن الأمور عادت فسارت على عكس الـمرغوب. وقيل إنّ السبب هو في الـخلاف الداخلي على بعض وجوه النظر الأساسية في محيط الكتلة. فإن بعض أعضائها يتشبثون بـمبدأ الـحزبية قبل كل شيء، وضرورة منع التطور القومي إلا ضمن قالب الكتلة، وإن تكن الكتلة لـمّا تضع برنامجاً اقتصادياً اجتماعياً يصح السكوت عليه.
لقد جربت الكتلة الـحكمة من هذه السياسة العقيمة في لواء الإسكندرونة. واختبرتها مكرراً في جبل حوران حيث نكبت سياستها أكثر من مرة. وهي لن تنفك عنها حتى تأتي بنتائج فادحة لا تستطيع الأمة تـحمّلها.
لا نعتقد أنّ الـحزب السوري القومي يريد أن يزاحم رجال الـحكم في الشام على الـحكم، فللحزب من الـمشاغل القومية ما يصرفه عن هذا الأمر. ومـما لا شك فيه أنّ مبادئه قد أعطت نتائج حسية في إيجاد الاتـحاد القومي لـجميع العناصر الداخلة في وجود الأمة، وأنّ تعاون هذا الـحزب مع حكومة الشام يعطي نتائج كبيرة للمصلحة القومية.
يقول رجال الـحكم في الشام للحزب السوري القومي: اشتغلوا في الإسكندرونة والـجزيرة ولا تشتغلوا في دمشق ومدن الشام. فكأنهم بهذا القول يريدون عملاً عقيماً أو غير مـمكن الحدوث، إذ كيف يستطيع حزب [أن] يعمل من غير قاعدة؟
إنّ طرق التفاهم للمخلصين للقضية القومية غير وعرة، ولكنها تـحتاج إلى نفي الأنانية والنظرة الـخصوصية. فهل تستفيد الكتلة من الدروس الماضية وتفسح للعناصر القومية مجال العمل لمصلحة الأمة والوطن؟
الحقيقة أننا تجاه مشاكل قومية خطيرة لا تفيد فيها العجرفة البربونية ولا يفيد فيها إلا الضمير القومي الحي!
[1] البوربون عائلة ملكية فرنسية حكمت بين عامي 1589و1792. مارست الإذلال واستنزاف الشعب ونهب موارده، وكان آخر ملوكهم لويس السادس عشر وزوجته ماري أنطونيت. أطاح بهم نابليون ثم عادوا بعد سقوطه عام 1814 ومارسوا نفس الأسلوب في الحكم مع لويس الثامن عشر حتى أطاحت بهم ثورة 1830 فأطلقت عليهم المقولة الشهيرة: عاد البوربون، لم ينسوا شيئاً ولم يتعلموا شيئاً.