إنهار بناء السلطنة العثمانية، لأنه قام على نظام فاسد هو نظام الـخلافة والدولة الدينية. فأدرك الأتراك أنّ الأمة والدولة الـمتينة لا تقومان على الدين ولا على الروابط الثقافية بل على التجانس الداخلي في الـحياة القومية. وعلى الأساس القومي أخذ الأتراك يعيدون بناءهم، فأحدثوا نهضة حرّكت كل قواهم وحوّلتها إلى العمل لـمنفعتهم، وأنشأوا دولتهم الـحديثة القومية بدلاً من الدولة الدينية السابقة، وبعد أن قضوا على عناصر الرجعة وعواملها في الداخل تـحوّلوا إلى معالـجة القضايا السياسية الإنترناسيونية التي لهم فيها مصلحة. ومصلحة الدولة التركية هي في الشرق الأدنى حيث تقوم دول ضعيفة لا خبرة لها بالشؤون السياسية الإنترناسيونية ولا قوة حربية تذكر.
ونهضة تركية قد نبهت في الأتراك حب رفع مستوى معيشتهم، والبحث عن موارد اقتصادية تؤمّن الـمطاليب الـجديدة. فاكتسبت تركية نظرة الدولة العصرية في التوسع وبسط النفوذ على مناطق اقتصادية تكون مجالاً للاستثمار التركي. وعملت للحصول على حاجاتها بالأساليب العصرية في السياسة، فاجتذبت نحوها إيران والعراق تـحت ستار تأليف جمعية أمـم شرقية، ومدت نفوذها إلى هاتين الدولتين الـحديثتين. ووقفت تراقب تطور سورية تـحت الانتداب إلى أن كانت الـمعاهدة السورية - الفرنسية الأخيرة التي تضع حداً للانتداب وتعيد السيادة الكاملة إلى الدولتين الشامية واللبنانية، فتحركت مطالبة بحاجتها إلى لواء الإسكندرونة السوري. وكانت تهيّىء لهذه الـمطالبة بالوسائل الدبلوماسية مع فرنسة وبريطانية منذ زمان. وتـمكنت من توليد ضغط كاف، بالنسبة للتطورات الـخطيرة في البحر الـمتوسط، لـحمل فرنسة وبريطانية على الاقتناع بأن انتصار الـمطامع التركية في سورية يقرّب بين مصالح تركية ومصالـحهما.
وساعد تركية على اغتنام هذه الفرصة خلوّ سورية مدة طويلة من الزمن من الـمنظمات القومية والسياسية الـحديثة فلم يقابل مناوراتها شيء مثلها من الـجانب السوري. فتمكنت من الـحصول على الاتفاق الذي يجعل منطقة الإسكندرونة ذات سيادة محلية منفصلة عن سورية، وخاضعة لـحماية كلتا الدولتين الفرنسية والتركية، ويخوّل تركية حق استعمال مرفأها »إلى أقصى حد مـمكن« ولهذه العبارة الدبلوماسية مدلول عظيم الـخطورة.
أما سورية فقد هاجت فيها الـخواطر لهذا الـحادث ولكن الأمر وقف عند هذا الـحد لأن حكومة الشام كانت نظاماً مشلولاً بليداً لا يصلح لفعل شيء.
ومن الغريب أن يكون رجال الـحكم في دمشق مقتنعين بأن نفاذ الأتراك إلى الـمنطقة الـجبلية الوحيدة الباقية لتحصين الدولة في الشمال، شيء لا يفيد الأتراك كثيراً ولا يحسب خسارة للسوريين. فبعض الوزراء الشاميين يعتقدون أنّ الأمانوس وهضاب أنطاكية لا تصلح لاستحكامات الدفاع. ولا يدور في أدمغتهم أنها تصلح لأن تكون مراكز هجومية دفاعية للجيش الـمكلف السهر على سلامة الـحدود. ومن جهة أخرى هم يعتقدون أنّ الأتراك قد جلبوا لأنفسهم الـمشاكل بتدخّلهم في منطقة جديدة غير متجانسة. وهم يغلطون بتبني هذه النظرية غلطاً فاحشاً، لأنهم لا يحسبون للنظام التركي الـحديث حساباً قريباً من الـحقيقة.
تـجاه هذا الشلل السياسي القومي الـمصابة به الدولة الشامية لا يقف الأتراك مكتوفي الأيدي بل يتابعون أعمالهم بنشاط عظيم. فهم قد أخذوا منذ الآن يحسبون الإسكندرونة السورية تركية ويوثّقون علاقاتهم القومية بها حتى أنهم أطلقوا عليها اسماً تركياً جديداً. ولم يكتفوا بذلك، بل هم يتطلعون الآن إلى ما أمام الإسكندرونة، إلى حلب - الـجزيرة. والسائح في تلك الـجهات يشعر بفعل الدعاوات التركية الـمستمر بينما إدارة الشام غارقة في الـمنازعات الداخلية على الأساس الـحزبي الضيق.
وقد قام الـجيش التركي مؤخراً بـمناورات عظيمة على مقربة من الـحدود السورية. وحجة الأتراك في الاهتمام بخط حلب - الـجزيرة هي في وجود جماعات كردية في هذه الـمناطق قد تقلق راحتها على الـحدود، ولو لم يكن هنالك أكراد لـما عدمت الـحكومة عذراً أو حجة. أما رأي بعض الوزراء الشاميين فهو أنّ مشاكل الأتراك ستتكفل بحماية سورية.
الـحقيقة أنّ الـخطر التركي قد أصبح مداهماً. وفي حالة حرب لا يستغرق زحف الـجيش التركي أكثر من ثلاثة أو أربعة أيام حتى يصبح عند مداخل لبنان!
ترى تركية أنْ لا تقف متبسمة لـما يظهر بالقرب من حدودها من منابع بترول. فهي تقول في نفسها على الأقل إني أحْوَج إلى موارد الثروة من غيري فلا بد لي من الـحصول على هذا النصيب من الثروة القريب من متناولي.
إنّ مطامع تركية قد أصبحت واضحة، واستعداداتها الـحربية تدل على اتـجاهها. والظاهر أنّ انشغال فرنسة وبريطانية بحركات إيطالية وألـمانية سيفسح للأتراك مجال التمادي في مطامعهم.
أما الشام فحكومتها مطمئنة إلى الـمشاكل الداخلية التي يتعرض لها الأتراك.
وأما لبنان فبُعد حدوده مسيرة ثلاثة أو أربعة أيام عن حدود الـجيش التركي يعطيه وقتاً كافياً لتحقيق مبدأ التنازع الطائفي اللاقومي أولاً، ثم لاتخاذ التدابير لصدّ الزحف التركي ثانياً.