رفيقي العزيز إبراهيم حبيب طنوس،
تأسفت كثيراً، لأنّ كتابي الأخير إليك الذي أرسلته منذ مدة غير قصيرة لم يصل. فقد تناولت في ذلك الكتاب بعض أمور هامّة، وعلّقت على مقاليك الـمنشورين في عددي سورية الـجديدة 46 و47 الواحد بعنوان »ننظر إلى الـماضي لا لنقف...« والثاني بعنوان »إلى أن تغيّبهم الصحراء..« والتعليق هام لأنه توجيهي وسأعود الآن إلى ذكر أهم ما تـجب ملاحظته في مقاليك الـمذكورين: في الـمقال الأول »ننظر...« يلاحظ الدارس الفاحص تـجزؤ الوحدة الروحية وتعارض أجزائها وتعاكسها أحياناً كما في الفقرة الثالثة حيث تقول: »ومع أنّ الوطن السوري في العصور القديـمة كانت تسكنه جماعات مستقلة عن بعضها (كما هي الـحال الآن...) ومحكومة كلها من جارتيها مصر وأشور«. فهذه العبارة الـخطيرة تنقض ما ورد في سياق الـمقال من أنّ السورييـن لم يكونوا يستكينون للذل أو للحكم الأجنبي. ومهما يكن من شيء فالقول في بدء الـخطاب إنّ جماعات سورية كانت كلها محكومة هو قول خطر جداً من الوجهة النفسية، فضلاً عن أنه مخالف للحقائق التاريخية التي لم يعد كتاب مثل كتاب سيزار كنتو صالـحاً لأن يكون مصدراً لها لسببيـن: 1 - إنّ مؤلف كنتو خالٍ، لقدمه، من الـحقائق التي أثبتتها التنقيبات والتحقيقات الـمتأخرة. 2 - إنّ سيزار كنتو هو مؤرخ إيطالي، وهذا يعني أنّ وجهة نظره إلى التاريخ هي وجهة نظر الـمؤرخيـن الإغريقييـن والرومان الـمتقدميـن الذي وضعوا تواريخهم بروح عدائية للسورييـن والـحقائق التي في مصلحة السورييـن بـما أنهم كانوا أعداءهم ومزاحميهم على مستعمراتهم. وهكذا نرى في سيزار كنتو الـميل لتأييد كل ما ورد في الـمصدر الأول لتاريخ الـحرب الفينيقية، خصوصاً الـحرب الهنيبعلية، بليبيو الذي حاول الانتقاص من عظمة هنيبعل في عبوره الألب متذرعاً بالـحجة أنّ بعض قطعان الـجلالقة الـمتوحشة عبرت الألب قبل هنيبعل، واضعاً مقياساً واحداً للقطعان الـمتوحشة الضاربة في الأرض على غير هدى وللحملة العسكرية الـمنظمة التي لها قصد وموضوعة لها خطة، إنّ في سيزار كنتو وأمثاله حقائق كثيرة يجب نشرها ولكن يجب الـحذر من اعتبار كل ما يرد في مثل هذه الكتب »حقائق« ثابتة، خصوصاً في كل ما يتعلق بـمدنية سورية ومنشآتها وامتداد سلطتها وحروبها وأبطالها، فهذه جميعها كثيراً ما تكون مـمسوخة، ويكاد الـمسخ يكون أكيداً حيـن تكون الـمسألة بيـن سورية وإغريقية، أو بيـن سورية ورومة أو إيطالية.
لم تسمح لي أشغالي الكثيرة بتتبع كل ما تترجمه لسيزار كنتو بدقة. وقد أعود إلى قراءة السلسلة كلها دفعة واحدة فيما بعد.
لم أستحسن أتخاذك أمثلة من الأقاصيص اليهودية لإيضاح فكرة سورية جالت في دماغك حيـن كتبت مقالك »إلى أن تغيّبهم الصحراء...« وقبولك هذه الأقاصيص الـخرافية، أو الـمنسوخة عن حكايات وسير شعب آخر كحقائق تاريخية. هكذا قبلت فكرة دخول اليهود شبه جزيرة سيناء وبقائهم فيها أربعيـن سنة كما قبلتها الأجيال القديـمة. والتحقيقات الأخيرة ترجّح وتؤكد عدم مجيء اليهود من مصر، وأنّ حكاية يوسف كتبت بعد السبي على الأرجح، وأنّ العبرانييـن أخذوها عن حكاية من حكايات ما بين النهرين. وأنت قلت في موسى إنه كان »مفكراً وقائداً محنكاً.. وكان صدره طافحاً بالآمال العظيمة وقلبه مسكراً بالـمثل العليا ومحبة الإقدام على جلائل الأمور«، ومثل هذا القول لم يقله كاتب إغريقي أو روماني، حتى ولا في هنيبعل أعظم نابغة حربي ظهر على وجه البسيطة، حتى ولا في معرض الهزل. ومثل هذه الأمثلة اليهودية تولد حالة نفسية لـمصلحة اليهود تكون أقوى من الـحالة النفسية الـمقصود توليدها من الـمقالة وموضوعها.
الفقرة الأولى والثانية من هذا الـمقال تشتملان على خلط تاريخي قصد منه وصل تاريخ »الهكسوس« العظيم »بتاريخ« الأقاصيص اليهودية. فالهكسوس لم يدخلوا مصر باتفاق مع اليهود، ولا علاقة لليهود مطلقاً بامتداد سلطة الهكسوس على مصر، لأنهم لم يكونوا في مصر ولم تكن لهم بها علاقة. وقد أثبت ذلك ليوني غيتاني في كتابه دروس في التاريخ الشرقي الذي يكون أحد مستندات مؤلفي نشوء الأمـم.
إنّ مقالاتك الأخيرة قد أعجبتني جداً، وترجمتك فصولاً من سيزار كنتو ستكون مفيدة جداً، لأنها تعمم درس التاريخ السوري.
منذ نحو شهر أو أقلّ كتبت إلى الرفيق وليم [بحليس] جواباً على كتب منه ومنك في مسألة نـجيب العسراوي، وأخبرته حقيقة ما كتب العسراوي إليّ، وما كتبت إليه، وطلبت منه إبلاغك ذلك ووجوب قبوله رفيقاً، وإبلاغك وجوب الاهتمام في مقالاتك الـمقبلة بـمسألة عقد مؤتـمر سوري قومي في الـمهجر التي نشرت سورية الـجديدة شيئاً عنها في إحدى رسائل أرجنتينية. لا أدري إذا كان كتابي قد وصل، وقد أصبح راجحاً عندي أنه لم يصل مع أني أرسلته بالبريد الـمسجل كما أرسل هذا الكتاب إليك.
وقد وردني منذ نحو عشرين يوماً كتاب من السيد نـجيب العسراوي يحلف فيه أمامي أنه اعتنق مبادىء الـحزب السوري القومي، وأنه يكون في جميع الـحالات سورياً قومياً نظامياً. وهو يطلب أن أزوده بـما يلزم للقيام بالعمل في منطقته. وسأكتب إليه أني قبلته سورياً قومياً مع وجوب تتميم الـمراسيم الشكلية التي لا بدّ منها، وأطلب منك أنت ووليم الاهتمام بهذه الـمسألة بجد والتعاون على بث الـحركة في منطقتكم.
قد سافرت أول أمس إلى سان باولو الرفيقة مريانا دعبول فاخوري التي مدحتها مع الرفيقتيـن بلوميا مسوح وليلى فاخوري في مقالة قصيرة. وقد رأيت، بهذه الـمناسبة، أن أكتب إليك في وجوب التحفظ مع هذه الرفيقة لوجود ضعف في أخلاقها، يفسد أحياناً الـحسن من أعمالها. فهي مخلصة ومندفعة على ما يبدو منها، ولكنها كثيرة الثرثرة والتبجح وتـحب التظاهر بأنها هي كذا وكانت كذا، وقالت كيت وسمعت كيت. وهي لا تعرف في كل ذلك حداً تقف عنده، حتى أنها أخذت تستعمل إسم الزعيم لتبدي آراءً وأحكاماً عن لسانه، ولتدّعي أنها مقرّبة إليه أكثر من جميع القوميات والقومييـن. والـحقيقة أنها قد استغلت مرضي في هذا السبيل إلى أبعد حدّ. فتحت مظاهر اهتمامها بصحة الزعيم بعرضها وإلـحاحها أن تـحضر له الطعام الـخصوصي الذي يصفه له الطبيب، كانت لها لبانات أبرزها حب استغلال الـموقف للظهور أمام الآخرين أنها ذات مركز مـمتاز عند الزعيم واستغلالها أحاديث الزعيم في بيتها حيـن يكون مدعواً للغداء أو العشاء أو الشاي لتظهر أمام الرفيقات أنها تعلم ما لا يعلمه غيرها، وأنها في مركز يخوّلها اتخاذ بعض الـمواقف. وقد أدى تصرّفها هذا إلى تشويش واسع. فأطلب منك أن تكون متحفظاً كل التحفظ مع هذه الرفيقة وأن تبلّغ القومييـن الذين تتصل بهم أن يكونوا كذلك، فتقول لهم إنّ عندك أسباباً كافية تـحملك على الطلب منهم أن يكونوا متحفظيـن مع هذه السيدة، فلا يغرقوا في الـمديح ولا يقبلوا كل ما تقوله فهي مبالغة إلى حدّ كبير. ومع ذلك فيجب ألا تعامل باستنكار أو نفور. فهي مفيدة في الأول ثم لا تلبث أن تبدأ بإفساد الـمفيد الذي قامت به.
سأرسل إليك عدداً من البطاقات الرسمية الـجديدة فهي أكمل وأضبط ويـمكنك أن تـجعل الرفيق العسراوي يوقّع اثنتيـن منها.
صار رفيقاً لنا في سان باولو الصناعي فؤاد لطف الله وغالب صفدي، وهذان الرفيقان الـجديدان يجب أن يبقيا مكتوميـن حتى عن الأعضاء، ولكن أحببت أن تعرف أنت ويعرف وليم بهما وأن تتصلا بهما وتتخابرا في الشؤون العامة وهذا ضروري، لأنّ الـحركة مشلولة بسبب شلل الرفيقيـن توما توما وإلياس بخعازي اللذين يظهر أنهما اكتفيا بوجود أعضاء وفرع. وليس هنالك ما يدل على أنهما يدركان أنّ الفرع يوجد لغاية، وإلا فوجود فرع وعدم وجوده سيان. فأريد أن تتصلا بالرفيقيـن الـجديدين والرفيق إلياس فاخوري الذي هو أفضل من امرأته الرفيقة مريانا، وبعد تـمام الاتصال والتفاهم يجب أن تتجنبوا قول كل شيء للرفيق إلياس خشية إيصاله إلى امرأته التي لا سر عندها. وكنت قد كتبت في أمر إيجاد الاتصال بينكم إلى الرفيق فاخوري ولا أدري ماذا جرى، وسأكتب إليه في البريد الـجوي غداً أو بعد غد.
إنّ الـحرب تسير بسرعة إلى نهايتها، كما ترى، ومع أنها دائرة على أعدائنا فلا يـمكن التأكيد أنها مع أصحابنا. فنحن حتى الآن نعرف أعداءنا ولكننا لا نرى أصدقاءنا، والـحق على غفلة الشعب. وإني أتألم كثيراً لأنّ الكثير من شعبنا يظن أنّ انكسار أعدائنا وحده يوصلنا إلى مطلوبنا. هذه الروح الاتكالية القبيحة، هذا التراث النفساني الـملعون متى يـمحى أثره. إني أريد أن أرى زواله بسرعة.
عسى أن تكون والعائلة بخير. إني أشعر بألـمك من الـحالة التي لا تسمح لك بفعل كل ما كان يكون في مقدورك فعله من أجل القضية.
لا أدري إذا كنت أتـمكن من السفر إلى الـمكسيك. والأرجح أنّ القنصلية الفرنسية تلغي جواز سفري كما فعلت بجواز خالد [أديب]. ولكني سألـجأ إلى خطة قد يكون فيها التوفيق، فإذا تـمّ ذلك سافرت قريباً جداً، وإلا فأنا باق طويلاً في أرجنتينية، وعلى ذكر خالد أقول إنه خيّب ظني في جميع الأمور الأساسية، وفي الـمسائل الشكلية أيضاً، وكانت مظاهره أضخم كثيراً من حقيقته. ليس من جهة العقيدة، بل جهة النفسية الشخصية والـمقدرة العملية. فهو وأسد [الأشقر] الـمسؤولان أمام إدارة الـحزب عن كيفية توقيفنا في البرازيل وذيوله. فقد علما أنّ التحري يبحث عني لتوقيفي، ولم يهتما بتبليغي الأمر، ولم يسألا عني طول ذلك النهار، ولم يهتما بإخفاء الأوراق الهامّة. وقد أقلتهما حال وصولي إلى أرجنتينية من وظيفتي ناموسيـن في مكتب الزعيم، وأخيراً فصلت خالد عن مرافقة الزعيم وأقلته من وظيفة »معاون وكيل مكتب عبر الـحدود« لعدم قيامه بشيء من هذه الوظيفة، وأحلته على سلك الإذاعة برتبة مذياع عام بدون وظيفة أولوية. فأطلب منك تبليغ هذا الأمر إلى القومييـن الـمتصلين بك. سلامي لك وللعائلة والرفقاء حولك. ولتحيى سورية.
بعد - أحببت أن أضيف إلى ملاحظاتي ملاحظة على ما ورد في مقالك »ننظر إلى...« في صدد العهد الأموي في سورية. فصحيح أنّ الـخلفاء الأموييـن كانت لهم نقائصهم، ولكن هذا العهد لا يـمكن أن يحسب عهد انحطاط للسورييـن، فسورية ازدهرت على العهد الأموي. ويحسن ألا نـجعل الـماضي أكثر ظلاماً مـما كان لأنّ الظلمة تعمي وتخيف.