في شرحي في الاجتماع الـماضي للنفسية السورية، وفي تـحليلي للنفسية السورية قلت إنّ السوريين ليسوا شرقيين. ليسوا شرقيين في نفسيتهم، في روحيتهم، في اتـجاهاتهم النفسية الروحية. وبتعبير آخر قلت إننا لسنا «نرفانيين» أي لسنا من شعوب النفسية الشرقية.
«النرفانا» هي لفظ هندي معناه التخلص من الـحياة، التخلص من متاعب الـحياة، التخلص من ألم الـحياة، إلى الـموت الهادىء الذي يعطي السلام. الركود والسلام الأخير، هو الـمطلب الأعلى «النرفاني» وهو الباعث على نظرة تشاؤمية جداً في الـحياة، تطلب من الإنسان أن يشيح بوجهه عن الـحياة ويتجه نحو الفناء.
من هذه الناحية، نحن لسنا شرقيين، لسنا نرفانيين. ولا نتجه في حياتنا نحو الفناء بل نتجه نحو البقاء.
نحن لا نقول إنّ الـحياة كلها ألم وتعب، وإنّ الغاية العظمى هي التهرب من الـحياة ومتاعبها ومصاعبها.
نحن نقول بأننا كُفءٌ، نقول بأننا أكفاء للاضطلاع بالـحياة ومتاعبها، وإنّ لنا الـمقدرة على حمل أتعابها بسرور، عاملين بتقدم نحو الفلاح، نحو التغلب، نحو الـمقدرة، لا نحو الفناء ونحو الـخضوع ونحو التلاشي.
هذا الـموضوع عرض في كتابي الصراع الفكري في الأدب السوري أريد أن أقرأ لكم بعض مقاطع منه لتروا الصورة الواضحة للموضوع (هنالك كلام ورد لـمفكر وسياسي مصري هو حسين هيكل باشا). أقول في تعليقي على هذا الكلام في الكتاب: «هي أول محاولة للانتقال من الغموض إلى الوضوح ومن التعميم إلى التخصيص، ومن السلبية إلى الايجابية ولكنها محاولة غامضة، متخبطة، مطلقة، مستبدة. ففيها ينظر هيكل إلى الفن من زاوية «الشرق والغرب» ويحدد الشرق بكلام لا تـحقيق فيه لتاريخ «الشرق» الذي يذكره ولا لفلسفة ذلك التاريخ ولا للمحمدية نفسها التي يطبعها، استبداداً، بهذا الطابع الـجزئي، وكان الأفضل أن لا يحاول تـجريدها من خصائصها العملية في مادية حياة البيئة التي نشأت فيها».
لأنه من الـمعلوم أنّ الذي يتداوله الكُتّاب والـمفكرون أنّ من الصفات الـممتازة في الدين الـمحمدي أنه عملي، والعملي ليس الذي يتجرّد من الـحياة ويطلب الفناء في وحدة الوجود.
«أما تـحديده الـمثال الأعلى للشرق كله، مدخلاً فيه العالم العربي كله، فهو من التحديدات الاستبدادية الضيقة، التي تكون أكثر قبولاً عند عامة الـمتعلميـن وعند قليلي التعمق من خاصتهم، نظراً لبساطتها وقلّة ما تطلبه من إنعام نظر وجهد في التفكير، ولكنها ليست ما يـمكن العقل الفلسفي الأساسي الاطمئنان إليه وقبوله مستقراً لتفكيره وشعوره. وكم يخالف هذا التفكير السطحي الـمتمركز في تـحديد التصور بالأمر الواقع رأي الدكتور خليل سعاده في روحية الشرق الدينية إذ قال: «الدين في الشرقي قطعة من حياته. فهو يحسب الـحياة وسيلة لتشريف الدين (تقوى الله والفناء الروحي في وحدة الوجود) لا الدين وسيلة لتشريف الـحياة والسمو بها من مرتبتها الـحيوانية إلى مرتبة روحانية تظهر الأخلاق وتهدم الفواصل غير الطبيعية القائمة بينه وبين أخيه في الوطنية والبشرية».
في نظرنا إلى الدين، من حيث ناحيته الروحية لا السياسية، نحن نقول: إنّ الدين للحياة ولتشريف الـحياة وليست الـحياة للدين ولتشريف الدين.
نحن كما قلت قوة فاعلة في هذا الكون. وإذا كان الله قد خلقنا وأعطانا مواهب فكرية، أعطانا عقلاً نعي به ونفكر ونقصد ونعمل، فهو لم يعطنا هذا عبثاً.
لم يوجد العقل الإنساني عبثاً.
لم يوجد ليتقيد وينشلّ. بل وجد ليعرف، ليدرك، ليتبصر، ليميّز، ليعيّن الأهداف وليفعل في الوجود. وفي نظرتنا أنه لا شيء مطلقاً يـمكن أن يعطل هذه القوة الأساسية وهذه الـموهبة للإنسان.
العقل في الإنسـان هو نفسه الشـرع الأعلى والشرع الأساسي. هو موهبة الإنسان العليا. هو التمييز في الـحياة فإذا وضعت قواعد تبطل التمييز والإدراك، تبطل العقل، فقد تلاشت ميزة الإنسان الأساسية وبطل أن يكون الإنسان إنساناً وانحط إلى درجة العجماوات الـمسيّرة بلا عقل ولا وعي.
سنّة الله أو سنّة الطبيعة هي التي لا يفعل فيها عقل مـميز مدرك، وهذه للجمادات والعجماوات.
أما الإنسان فالله قد أعطاه القوة الـمميزة الـمدركة لينظر في شؤونه ويكيّفها على ما يفيد مصالـحه ومقاصده الكبرى في الـحياة. فليس معقولاً إذن أن يعطل الله نفسه هذه القوة بشرع أبدي أزلي جامد. لذلك كان العقل الإنساني. كان الإنسان، كان الـمجتمع الإنساني حراً بإرادة الله، حراً بإرادة الـمصدر الذي نشأ عنه لكي يسير نحو ما هو الأفضل، ليقرر بذاته ما هو الأفضل في حياته. ليسير بقوة تـمييزه وإدراكه نحو ما هو الأفضل ليقرر من ذاته وبذاته ما هو الـمصير الأفضل في حياته.
والدين نفسه إذ يجعل قاعدة الـحساب يوم الـحشر أو يوم الدينونة، هو نفسه يقرّ هذا الـمبدأ، مبدأ أن يختار الإنسان بـملء حريته اتـجاهه، والـمصير الذي يريده لنفسه.
من هذه الوجهة نرى أنّ لنا نظرة خاصة ليس فقط في الدين من حيث هو سياسي، من حيث هو مؤسسات، وليس فقط في هذه الناحية،، بل في الدين أيضاً من حيث هو اتـجاه ديني ونظرة إلى الـحياة والقيم في الكون.
ولذلك قلت في هذا الكتاب، الصراع الفكري في الأدب السوري، رداً على ما كان يقوله الكاتب السوري ميخائيل نعيمة، الذي صوّر النفسيتين الشرقية والغربية بهذه الصورة:
«إنّ الشرق يستسلم لقوة أكبر منه فلا يحاربها، والغرب يعتقد بقوّته ويحارب بها كل قوة. الشرق يرى الـخليقة كاملة لأنها صنع الإله الكامل. والغرب يرى فيها كثيراً من النقص ويسعى لتحسينها. الشرق يقول مع محمد: «قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا»، ويصلّي مع عيسى: «لتكن مشيئتك». ومع بوذا يجرّد نفسه من كل شهواتها. ومع لاوتسو يترفع عن كل الأرضيات ليتحد بروحه مع «الطاو» أو الروح الكبرى (تـجنباً للألم طبعاً). أما الغرب فيقول: «لتكن مشيئتي». وإذ يخفق في مسعاه يعود إليه ثانية وثالثة ويبقى يعد نفسه بالفوز وعندما يدركه الـموت يوصي بـمطامحه لذريته». وفي اعتقاد نعيمة «أنّ فرسخاً مربعاً من بلاد الصين «الـخاملة» يحوي من الـجوهر أكثر من كل جزائر اليابان «الناهضة».
في تعليقي على هذا الكلام أقول:
«هذا كلام إذا أزلت منه زخرف التعبير الأدبي، الشعري لم تـجد فيه حقيقة واحدة غير جهل شؤون الـحياة وتطورها منذ ظهر الإنسان على مرسح الطبيعة وجهل التاريخ وفلسفته. فالشرق، لعلة طبيعية، على الأرجح، حاول من قبل «تـحسين الـخليقة»كما حاول الغرب تـحسينها من بعد. ولذلك نشأت الأديان في الشرق، أي لتحسين الـخليقة. وقد «حسنّت» الأديان الـخليقة تـحسيناً كبيراً، ولا شك. ولكنها عصت كل تـحسين جديد نشأ بعد أحكامها، فأصحابها لا يقرّون بـمعرفة جديدة إلا مكرهين».
لو قال لهم نص ديني إنّ الشمس يـمكن أن تقف أربعاً وعشرين ساعة حتى يـمرّ يشوع بن نون يقولون هذا صحيح ولا يسلّمون بأن الأرض تدور إلا بعد مقاومة وعناد، وبعضهم لا يسلّمون أبداً، لأن ذلك يوافق النص الديني أنّ الشمس تدور ولو أُعطوا ألف برهان ساطع على أنّ الأرض تدور وليس الشمس.
«وإذا كان عيسى، السوري البيئة، رمى إلى تأديب النفوس بقوله: «لتكن مشيئتك» فهو أعلن الانتقاض على «الـمنزل» بالذهاب إلى «تكميل الناموس» ومحمد نفسه الذي نشأ في بيئة بعيدة عن التفكير بالقضايا الفلسفية الكبرى نطق بالوحي «ولكل أجل كتاب». فليس في سنّة الـمسيح ولا في سنّة الرسول، إذا أخذت كلها، ما يـمنع «تـحسين الـخليقة» أو ما يرفضه. ولست أعتقد أنّ تعاليم بوذا ولاوتسو أنشئت بقصد منع التفكير في «تـحسين الـخليقة» ولكن العقلية الشرقية، التي عجزت عن حل قيود الروح الـمادية بنظرة إلى الـحياة والكون فاهمة، هي التي وقفت عند «أحكام» الفلسفات الدينية وتعليلاتها الافتراضية الـمستندة إلى «قوة أكبر منها» حددتها تلك الفلسفات تـحديدات متباينة جعلت الـخالق الواحد «ينزل» تعاليم غير واحدة فيما يختص بالـحياة الإنسانية ضمن الوجود وقبل «الفناء في وحدة الوجود».
«إختار ميخائيل نعيمة التكلم على «الـخليقة» و«تـحسينها» ليضع القارىء أمام الاصطلاح.وكلامه كلام أديب لا كلام فيلسوف أو عالم أو فنان.وها هي الصين تترك اليوم «جوهر» الـخمول لتأخذ «بعرض» النهوض وليس يعني ذلك زوال القواعد الصالـحة من تعاليم لاوتسو.
«مـما لا شك فيه أنّ نفسية الذين يذعنون لكل «ما كتب الله أن يصيبهم» ترى في هذا الإذعان أجمل الـمثل العليا وأحبها وأفضلها. وسواء أكانت هذه النفسية شرقية أم غربية، فهي نفسية لها مصيرها وهو غير مصير النفسية التي لا تقبل بـما هو دون «ما يكتبه الله» للذين يعملون بالـمواهب التي أعطاهم».
حتى الـمسيح جاء لتكميل الناموس، كان الـمسيح يقول إنه يريد أن يكمل الناموس، وهذا يعني أنّ السنّة التي أعطاها الله لـموسى كانت ناقصة وجاء الـمسيح ليكملها، وفي العمل لتكميلها قد نقض بالفعل كثيراً مـما جاء ليكمله نقضاً باتاً.
»ذهب إلى تكميل الناموس« «أتيت لأكمل الناموس» و «لكل أجل كتاب».
إنّ الفناء في وحدة الوجود يعني مصيراً واحداً هو مصير الإذعان والاستسلام، مصير ابتغاء الفناء في وحدة الوجود والهرب من الـحياة إلى النرفانا هو عمل بغير «الـمواهب التي أعطاهم».
ما كتب الله هو الواقع أو الـمفعول وليس هو القصد ولذلك استعملت فعل كتب بالـمضارع لا بالـماضي.
إنّ الذين يستسلمون للواقع كما كتب الله... لهم مصيرهم.
ولكن الذيـن يعملـون بالـمواهب التي أعطاهم الله غيـر مستسلميـن إلى أمر مفعول لا رأي ولا إرادة لهم فيه، هؤلاء لهم مصير هو مصير أن يكتب الله لهم ما استحقت مواهبهم.
«إنّ صوفية نعيمة الهدامة التي أبرزها في إحدى خطبه في بيروت سنة 1932 أو 1933 بقوله: «إنّ القوة هي في الأمـم العاجزة «الـمستغنية» عن التسلح (وإن يكن استغناؤها قهراً أو كرهاً) وإنّ الضعف هو في الأمـم الـمستكثرة من آل الـحرب»، قد نبذتها سورية ولا تفكر في جعلها مثالاً أعلى لها».
ميخائيل نعيمة يقول إنّ استسلامنا، عدم طلبنا أن نـجيّش الـجيوش وأن نتسلح وأن نهبّ لتحقيق مثلنا العليا هو القوة بذاتها، إنّ عدم إمكاننا ذلك هو القوة.
أما إمكان الأمـم الكبرى العظمى التسلح وبناء الأساطيل والـمعدات والاختراع والاكتشاف في الكيمياء والفيزياء والطب، إنّ كل ذلك مع العناية بتسلحها يدل على الـخوف والـجبن والضعف.
ويظهر أنّ الأستاذ نعيمة لم يصل إلى معرفة هذه الـحقيقة السطحية التي تظهر في التعابير الاعتيادية (الـما عندو شي ما بيخاف على شي).
نحن إذن قوة فاعلة لها مقاصد في الـحياة وهذه الـمقاصد لا يـمكن أن تـحدد أو أن تـحور إلا إذا كنا غير أهل للاضطلاع بها، وعدم أهليتنا تكون بالاستسلام بطلب الفناء الروحي، بطلب الهرب من الـحياة، بالنظر إلى الـحياة كآلام مرة وشقاء وتعب. وإنّ الغاية العظمى الكبرى هي الهرب منها إلى الـموت، إلى الـموت الأبدي الهانىء. إلى النرفانا التي هي الـخلاص الأخير من العذاب والتعب والشقاء، التي هي كل الـحياة وكل ما في الـحياة.
نحن لسنا مستسلمين. نرى في الـحياة متاعب ونرى أننا قادرون على حمل تلك الـمتاعب والانتصار عليها.
نحن نحمل الـمتاعب، لا ننوء ولا نرزح بها، ننتصر عليها ونخرج إلى مرح وانشراح في الـحياة إلى تـحقيق للوجود، الذي لا يـمكن أن يكون عبثاً أو وهماً، للذهاب إلى وجود وهمي مفترض، هو التعويض الوحيد عن العجز عن تـحقيق الـحياة في الوجود.
نحن لا نطلب التعويض، نطلب الـحقيقة بذاتها وهذه الـحقيقة هي حقيقة انتصار النفس السورية على كل ما يعترض سبيلها في تـحقيق نفسها، تـحقيق مثلها العليا، تـحقيق مقاصدها الكبرى.