وننتقل اليوم إلى الـمبدأ السابع. الـمبدأ السابع يقول: «تستمد النهضة السورية القومية الاجتماعية روحها من مواهب الأمة السورية وتاريخها الثقافي السياسي القومي». يتضح من هذا الـمبدأ وهذا الكلام أنّ الاستقلال الروحي شيء واضح جداً ومبدأ فاعل له فاعلية عظيمة في حركة الـحزب السوري القومي الاجتماعي. هو يوجه الفكر والشعور إلى الـحقيقة الداخلية، إلى حقيقة هذه الذات الفاعلة التي هي الـمجتمع السوري بكل طبيعته بكل مواهبه بكل مثله وأمانيه. وقد قلت في حديث سابق وفي الاجتماع الأخير أيضاً إنّ النفسية السورية، إنّ هذه الـحركة التي تـميّز وتعبّر عن هذه النفسية هي الناحية الذاتية من هذا الوجود، الناحية الفاعلة فيما هو وضع وفيما هو كون.
نحن نكوّن الناحية السلبية، والأرض، وهذا الكون الذي أمامها هو الناحية الايجابية لنا. ومن هذا يقتضي أن يكون لنا استقلال روحي وفي خطاب قديـم عبّرت، أنه استقلال فكري أيضاً.
إنه استقلال روحي فكري أي إنه استقلال نفسي بكل معنى الكلمة. ولست أدري كيف أنّ وجود مبدأ مثل هذا الـمبدأ، الـمبيّن في تعاليم الـحركة السورية القومية الاجتماعية، لم يكن كافياً للمفكرين والأدباء في هذه البلاد ليدركوا أنّ حركة تقول بـمبدأ من هذا النوع ليست بالـحركة التي يـمكن أن تخضع أو تسخّر لأغراض غريبة عن ذاتيتها أو مقاصدها في الـحياة والفن.
لقد جاء في شرح الـمبدأ: «والـحقيقة أنّ من أهم عوامل فقدان الوجدان السوري القومي، أو من عوامل ضعفه، إهمال نفسية الأمة السورية، الـحقيقية، الظاهرة في إنتاج رجالها الفكري والعملي، وفي مآثرها الثقافية، كاختراع الأحرف الهجائية، التي هي أعظم ثورة فكرية ثقافية حدثت في العالم، وإنشاء الشرائع التمدنية الأولى، ناهيك بآثار الاستعمار والثقافة السورية الـمادية ـ الروحية والطابع العمراني، الذي نشرته سورية في البحر السوري الـمعروف في الـجغرافية بالـمتوسط، وبـما خلّده سوريون عظام كزينون وبارصليبي ويوحنا فم الذهب وأفرام والـمعري وديك الـجن الـحمصي والكواكبي وجبران وطائفة كبيرة من مشاهير الأعلام قديـماً وحديثاً.
«أضـف إلى ذلك قـوادهـا ومحاربيهـا الـخـالدين من سرجون الكبير إلى أسرحدون وسنحاريب ونبوخذ نصر وأشورباني بال وتقلاط فلاصر إلى حنون الكبير إلى هاني بعل أعظم نابغة حربي في كل العصور وكل الأمـم إلى يوسف العظمة الثاوي في ميسلون».
إذا تأملنا في هذا الشرح وجدنا منه خصائص ومزايا للنفس السورية التي قلت إنها ليست شرقية كما يظن وكما لا يزال يتكرر في الصحف والكتب في مجتمعنا.
من النظر في مآثر هذه الأمة، من النظر في أعمالها، من النظر في سيرها، في أدبها، في مكتشفاتها يتضح جلياً أنّ هذه الأمة ليست شرقية بالـمعنى النفسي. هي ليست ذات نفسية شرقية لأن من خصائص النفسية الشرقية الـمعروفة والـمعرّفة بهذا التعريف، إنّ من خصائص هذه النفسية ليس الاتـجاه إلى الـمستقبل وليس النظر في الكون وطبائعه بقصد معرفته وبقصد تسليط العقل عليه، بل هي نفسية منصرفة إلى الشؤون الـخفية من الاتـجاهات النفسية. هذه النفسية لها نقطة ارتكاز أساسية هي ما يسمونه باللغات الفرنـجية Mysticism. إنها تـجنح بكليتها إلى الـخفاء، إلى التعاليل الـخفية للوجود وأغراض الوجود وتنتهي في الأخير في الغيب وفي الاعتناق الغيبي للمفترض الغيبي الذي تتجه إليه النفس، وتنتهي أخيراً فيما يسمونه باللغة الهندية «النرفانا».
نحن لسنا نرفانيين. إنّ الاتـجاه إلى اختراع الـحروف الهجائية يدل على أنّ لنا ناحية عملية قديـمة في الـحياة.
إنّ الاستعمار وتنظيم الـمستعمرات وسلك البحار وإنشاء الـمستعمرات وتنظيم التجارة والـمعاملات، درس طبائع الأشياء، الاتـجاه إلى الاختراع والاتـجاه نحو الفتوحات الـحربية والفكرية تستر نظرة ذاتية مسيطرة طالبة التفوق وإخضاع الـمادة لأغراضها وذاتيتها.
هذه حقيقة قوية تختلف كل الاختلاف عن حقيقة التجرّد الوجودي والاتـجاه نحو الغيب وترك محل الكيان الذاتي في الوجود.
في هذا الـمبدأ يتضح أننا لسنا من الذين يصرفون نظرهم عن شؤون الوجود إلى ما وراء الوجود. لسنا من الذين ينصرفون إلى ما وراء الوجود بل من الذين يرمون بطبيعة وجودهم إلى تـحقيق وجود سام جميل في هذه الـحياة وإلى استمرار هذه الـحياة سامية جميلة.
إذا قلت إنّ سورية هي التي نشرت الطابع العمراني في البحر الـمتوسط الذي صار أساساً للتمدن الغربي الـحديث، فإني أقول ذلك بأدلة وثيقة حتى من التاريخ الذي كتبه مؤرخون هم من تلامذة الـمدرسة الإغريقية ـ الرومانية، بعد انقراض الـمدرسة السورية للتاريخ. وعندما أقول تلامذة الـمدرسة الإغريقية ـ الرومانية للتاريخ أعني مدرسة التاريخ التي رمت إلى تشنيع كل صفة للشعب السوري بعامل العداوة بين السوريين والإغريق أولاً ثم بين السوريين والرومان أخيراً.
ففي الصراع العنيف على السيادة البحرية في الـمتوسط بين السوريين والإغريق أولاً ثم بين السوريين والرومان نشأ صراع قوي جداً بين أدب الإغريق وأدب السوريين وبين أدب السوريين وأدب الرومانيين. وقد أتيت بلمحة صغيرة في حديثي الـماضي عن كيفية تشويه الـحقائق التاريخية مثلاً ما رواه «النبع»، الـمصدر التاريخي للحروب الفينيقية الـمعروفة بالتسمية (بونك) تـحريف الفينيقية عن الإغريق.
فوليبيـو هو الـمصدر الأساسي لكل من يريد أن يكتب في تـاريخ الـحروب الفينيقية الثلاث التي نشبت بيـن قرطاضة ورومة. ففي رواية فوليبيو عن كيفيـة قطع هاني بعل لـجبال الألب والبيرينيه قصد تشويه هذه الـحملة التي لم يسبق لها مثيل ولم تصل إلى عظمتها أية محاولة شبيهة بها من قبلها أو من بعدها. قال مخطّئاً الذين يرون في هذا القطع لأعظم جبال في أوروبة عملاً عظيماً ـ قال إنه سبق لـجماعات بشرية أن قطعت جبال الألب، وعنى بالذين عبروا تلك الـجبال جماعات متوحشة من الـجلالقة أو غيرهم وأراد أن يقرن بين إنتشار جماعات متوحشة بغير قصد، تدفعها في ارتـحالها عوامل عمياء أو اضطرار قاهر، وبين حملة عسكرية مرتبة منظمة في الدماغ من قبل، مهيأة بترتيب ومجهـزة بقصد واضح وترتيب للقيام بها مع تقدير لكل خطورتها وبقصد، ليس فقط اجتياز هذه الـجبال، بل إخضاع العدو.
إنّ تصميماً عظيماً من هذا النوع لا يـمكن أن يـمثل بجماعات متوحشة يـمكن أن تصعد وتنزل في الـجبال. إنّ فرقاً عظيماً بين هذين.
مع ذلك لم يجد فوليبيو أي فرق ولم يرد أن يجد أي فرق لأنه قصد في روايته لها أن يحقر كل عمل قام من الناحية السورية.
هذا مثل واحـد وهنالك أمثـال عديـدة من هذا النوع تدل على كيفية رمي الـمدرسة الإغريقية ـ الرومانية التاريخية إلى تشويه الـحقيقة السورية وعدم الاعتراف بأي فضل لها أو بأية قيمة. ولـما كان لم يسلم، لا من حريق صور بعد فتح الإسكندر ولا من حريق قرطاضة بعد فتح سيبيو، كتبٌ عن التاريخ السوري أصبح التاريخ السوري وتأويل التاريخ ورواية التاريخ وقفاً على اتـجاه الـمدرسة الإغريقية ـ الرومانية التي بخست السوريين حقهم في الإنشاء والإبداع والعمران.
أعود إلى الشرح: «إننا نستمد مثلنا العليا من نفسيتنا ونعلن أنّ في النفس السورية كل علم وكل فلسفة وكل فن في العالم... إذا لم تقوَّ النفس السورية وتنزه عن العوامل الـخارجية وسيطرة النفسيات الغريبة فإن سورية تبقى فاقدة عنصر الاستقلال الـحقيقي، فاقدة الـمثل العليا لـحياتها».
في حديث سابق ذكرت لكم شيئاً، مع شيء من التعليق، عن طبيعة الشعب السوري وعن مزيجه السلالي الـممتاز وعن نوعية هذا الـمزيج وأهميته وعن أهمية الانتباه إليه لـمعرفة الـحقيقة السورية. وما أقصد بالقول: «في النفسية السورية كل علم وكل فلسفة وكل فن في العالم» ليس أي شيء منساق مع فكرة تصل إلى نفي العقل تقريباً. وليس شيئاً مجارياً لبعض نظريات بركسون تقريباً، أو للمنطق الذي، صار في الأخير، من جملة دعائم الـحركات التي لها الـمزايا العمياء من الناحية النفسية، كحركات النقابات مثلاً التي تقوم على ناحية ليست فلسفية، من الـ (Intuition) ولا في الانسياق مع استنتاجات من هذا النوع، تقوم أيضاً وتنتقل في الاتـجاهات الروحية القائلة باستقلال الروح عن الـمادة واستقلال مصدرها الـمطلق واستمرار العوامل الـخفية في كل الـمقاصد الروحية والتسليم إليها بتنزّه عن العقل والقوى العقلية والـمنطق العقلي. ولا شيء يذهب مع بعض الـمدارس الناشئة حديثاً، أي أنه مع الإقرار بوجود العقل والفكر يجب أن يظل الفرد شاعراً بحريّة عن العقل والفكر، بل قصدت أنّ العقل والشعور، أنّ عمل الإحساس والفكر، هو كلٌّ نفسي لا يـمكن أن يزال العقل منه، وقصدت أنّ النفسية السورية قد برهنت وتبرهن اليوم بالبرهان التشريحي والعملي على أنها عظيمة الـمقدرة مستكملة شروط الوعي الصحيح والإدراك الصحيح، وأنّ لها مقدرة على إدراك واستيعاب كل ما يـمكن النفس أن تستوعبه وتدركه في هذا الوجود.
إنها نفس قادرة في ذاتها على الـمعرفة والإدراك وتـمييز القصد وتصوّر أسمى صور الـجمال في الـحياة. إنها نفس تسير بوعي ولها كل مؤهلات الإدراك الشامل العام لشؤون الـحياة والكون والفن.
«إذا لـم تقـوَّ النفسيـة السـوريـة وتنـزّه عن العـوامـل الـخـارجيـة وسيطـرة النفسيات الغريبة فإن سورية تبقى فـاقـدة عنصر الاستقلال الـحقيقي وفاقدة الـمثل العليا لـحياتها».
تشير هذه العبارات إلى أنّ عوامل خارجية قد سيطرت مدة، وأخضعت اتـجاهـات النفسيـة السوريـة الـحقيقيـة لاتـجاهات غريبة عنها. وإذا بقي بعض تـأثيرات لتلك النفسيات الغريبة وتأثيرات نظرتها إلى الـحياة مخضعة ولو جزءاً من النفسية السورية ومراميها الصحيحة، لا يـمكن التأكد من أننا نصل إلى هذا الاستقلال الكلي الصحيح، إلى فسح الـمجال بكامله أمام فاعليتنا الذاتية في الوجود.
فيجب إذن أن نعود إلى حقيقتنا وأن ننزّه حقيقتنا عن العوامل الـخارجية.
لا يعني هذا أيضاً أنه لا يـمكن لنفسيتنا أن تتفاعل مع النفسيات الأخرى. لا يعني ذلك مطلقاً بل إنه يفسح الـمجال لهذا التفاعل. وكما قلت في عبارة في بعض الـمراسلات إنّ من شروط اعترافنا بحق أو خير أو جمال في العالم هو أن نرى نحن ذلك الـحق وذلك الـخير وذلك الـجمال أو أن نشترك في رؤيته.
فإذا لم نَرَ نحن حقاً ولم نَرَ خيراً ولم نَرَ جمالاً لا يـمكن أن نرى حقاً وخيراً وجمالاً تعلنه ذات أخرى. فلنا نحن لا يكون حق وخير وجمال حتى نراه أو حتى نشترك في رؤيته، فلا يـمكن أن يفرض علينا فرضاً، لأننا نـملك ذاتاً واعية فاحصة مدركة تقدر أن ترى الـحق والـخير والـجمال، وأن تشترك في رؤية الـحق والـخير والـجمال بعواملها الـخاصة باستقلالها الروحي ـ الفكري والشعوري.
فالاستقلال الفكري والشعوري ـ النفسي لا يعني مطلقاً الانعزال عن العالم أو الانعزال عن التفاعل مع العالم.
هذا الشرح يتفق كل الاتفاق مع ما ورد في خطابي 1935 إذ قلت إنّ الـمبادئ للمجتمع لـحياة الـمجتمع لا الـمجتمع وحياة الـمجتمع للمبادىء.
إنّ الفرد يعطي حياته كلها لـمبدأ لأن في الـمبدأ حفظ حياة الـمجتمع ولأن الفرد من الـمجتمع. الـمجتمع هو الكل الذاتي ولكن لا يـمكننا مطلقاً التسليم بأن الـمجتمع كله يجب أن يضحي نفسه أو أن يهلك نفسه من أجل مبدأ من الـمبادىء. يـمكن أن تُهلِك بعض الأفراد أو جزءاً منهم لتنقذ الكل ولكن لا يـمكن أن نسلّم بأن يكون مبدأ صحيحاً بإهلاك الـمجتمع في سبيل ذلك الـمبدأ. ولذلك أردت الـحياة التي ذكرتها في مراسلة سابقة لهذا السؤال: «وماذا يفيدنا لو ربحنا العالم كله وخسرنا أنفسنا».