قد وصلنـا إلى الأمـر الثاني من الأمـور التي رمى إليها السيـد حداد في «مقاله الصغير» وهو الحطّ من منزلة جبران مسوح بإيهام الناس أنه لا يقدر على كتابة مثل مقال «أدب الرجعيين». وقد كان في الإمكان أن ينجح السيد حداد في هذا الأمر لو لم يكن جبران مسوح صار سورياً قومياً. فلو بقي جبران مسوح لا قومياً لبقيت نفسه خالية من التأجج الروحي الذي يصاحب قيام العقيدة ونشوء الإيمان. وإذا كان السيد حداد يعتقد بصحـة ما يقـول فيكون اعتقاده دليـلاً على شلل عقله حتى لا يقدر أن يتصور كيف ينقلب الحمل اللاقومي السهل الافتراس سبعاً قومياً يدافع عن حقه ويهدد كل من تسوّل له نفسه مساورته ولا يسيغ له غصته بل يأخذه في أية حالة وجده فيها.
إذا كان السيد عبد المسيح حداد من أولئك الأدباء الجامدين الذين لا يعرفون ما هو التطور والتبدُّل في حياة الأمم والأفراد فليس ذلك دليلاً على أنّ التطور والتبدّل غير موجودين في العالم. وإذا كانت روح النهضة السورية القومية أخذت تنمو وتقوى في جبـران مسوح منذ اتصاله بها وانضوائه تحت لوائها فهذا لا يعني أنّ شخصية جبران مسوح قد زالت، بل يعني أنها قد قويت وزادت غنى. وما اكتسبه جبران مسوح في الحركة القومية الاجتماعية من الدروس والنظريات القومية الاجتماعية يجاهر هو به ولا يخفيه شأن الجبناء والعاجزين وهذا دليل على شدة ثقته بنفسه وبأن أدبه لا يخسر شيئاً باكتسابه من ثقافة القومية الاجتماعية، بل يكسب. وإذا كان جبران مسوح قد تأثر بأفكار أنطون سعاده الفلسفية ونظرته القومية الاجتماعية فهذا لا يسيغ للسيد حداد أن يقول «إنّ أنطون سعاده يكتب بإمضاء جبران مسوح». فإذا كان التوجيه القومي الاجتماعي بجمع جميع الأدباء السوريين القوميين الاجتماعيين ويوحد نظرتهم إلى الحياة ويجانس بين نظراتهم إلى الفن فإنه لا يزيل عن أي أديب منهم شيئاً من شخصيته ومناحي تفكيره وأسلوبه الأدبي كيفية شعوره ولا أي شيء من خصائص ذاتيته. ومع أنّ جميع الأدباء السوريين القوميين الاجتماعيين يرجعون إلى توجيه فكري واحد، فليس بينهم واحد، يصح أن يطلق عليه هذا اللقب، يحاول أن يجعل هويته في مقام هوية غيره، أو هوية غيره في مقام هويته هو، كما فعل السيد عبد المسيح حداد حين أخذ عبارة لجبران خليل جبران وجعلها وسيلة ليتشبه بجبران خليل جبران أو ليصف نفسه بصفة جبران وصفة أدبه. وهذا عيب من العيوب القبيحة الشائعة عند جميع الأدباء المجزرين. فإن الواحد منهم إذا قرأ قولاً لأديب كبير أو عالِم شهير أو فيلسوف خطير لاح له أنه فهمه وأعجب به فهو لا يتمالك من الخلط بين نفسه وصاحب القول وحسبان نفسه كأنه قد قـال ذلك القول ضاربـاً عرض الحائط بكل فارق بين هويته ومنزلته من جهة وهوية صاحب القول ومنزلته من جهة أخرى. وقد خطر لواحد من هؤلاء الذين يتعاطون الأدب، بعد أن قرأ مبادىء الحزب السوري القومي وشروحها بقلم الزعيم، أن يقول «هذا هو تماماً ما كنت أفتكره»! وهذه الاستعارة للهوية يسمونها في الأدب اللاتيني والسكسوني... Identificarse con أو with oneself identify To ، يعني مزج هوية بأخرى أو اتخاذ المخالف صفة مخالفه.
قـال جبـران خليل جبـران «تعلمت الصمت من الثرثـار». وهذا القول لا يعني أنّ كـل متكلم ثـرثـار ولا أنّ كـل صامت حكيم. والثرثار الذي يدّعي أنه يصمت عن أشياء بينما هو دائب الثرثرة في أشياء أخرى هو أغبى الهفاتين وأحقر الثرثارين. وكان الأحرى بالمتكلف الصمت عمَّا يسميه ثرثرة أن ينشر في جريدته تلك الثرثرة التي علّمته الصمت لُيطلع قرّاءه على صواب رأيه كما فعلنا نحن بنشرنا كل ثرثرة صدرت من السيد حداد ضد الزوبعة أو مديرها أو الحركة القومية التي تخدمها ليطّلع قراؤنا على صواب تسفيهنا لمثالب هذا الأديب وهفته وجهله.
أما الأمران الثالث والرابع اللذان رمى إليهما السيد حداد وهما التذرع بصيت السائح القديم لتشويه سمعة أنطون سعاده بالاختلاق وإيهام القرّاء غير المطلعين أنّ الحركة السورية القومية كلها ليست شيئاً مذكوراً بالنسبة إلى عظمة أنانيته فنقول في الأول منهما المشتمل على وصف أنطون سعاده بالثرثرة أنّ كل تهمة يجب أن تُدعم بالدليل والبرهان وإلا كانت اختلاقاً. ولما كان السيد عبد المسيح حداد لم يأتِ ببرهان واحد على ثرثرة أنطون سعاده فلا بدّ من الحكم عليه بالاختلاق ومحاولة ثلم الصيت. وقد لا يصل هذا الحكم إلى جميع قرّاء السائح في الوقت المناسب ولكننا نذكّر السيد حـداد بقول المثـل: «يمكنك أن تخدع كـل الناس بعض الوقت. ويمكنك أن تخـدع بعض الناس كل الوقت. ولكن يستحيل عليك أن تخدع كل الناس كل الوقت». فلا يهم ما يقول السيد عبد المسيح حداد عن أنطون سعاده، بل ما يصدقه المطلعون والفاهمون عن أنطون سعاده. فإذا وجدت زمرة دخل فيها السيد عبد المسيح حداد دخول الشيطان وسد عليها أبواب الاطلاع والمعرفة فيأتي زمن يهلك فيه الشيطان وتتفرق زمرته!
وأما الأمر الأخير فلا نعالجه لأنه شيء خصوصي. فنحن لا يهمنا في أية منزلة يضع السيد عبد المسيح حداد نفسه بالنسبة إلى الحركة السورية القومية الاجتماعية، ولا في أية منزلة يضع هذه الحركة بالنسبة إليه. فهذا أمر يبقى من خصوصيات السيد عبد المسيح حداد وحده.
والآن يجب أن نبيّن من هم هؤلاء الأدباء المجزرون، الهفاتون الذين ينتمون، مع غيرهم، إلى «الرابطة القلمية» في نيويورك وما هو هذا الصيت الباطل الذي اكتسبوه بانتمائهم إلى الرابطة المذكورة ولأجل أي شيء يستخدمونه.
يظن السيد عبد المسيح حداد وأضرابه أنهم إذا اتخذوا أو اقتبسوا بعض عبارات لأحد منتجي الفكر والروح فقد صاروا أشباهه أو في منزلته. وهذا الظن هو من أسوأ حالات فساد الفكر.
إقتبس السيد عبد المسيح حداد عبارة «تعلمت الصمت من الثرثار» عن جبران خليل جبران وجعلها عنوان «المقال الصغير» الذي أظهر فيه بعض فساد طيته [نيّته] ومثالبه. ولم يُخفِ قط أنه يريد أن يضع نفسه في مقام جبران، لأنه يريد أن يصمت كصمته ولكن في أية حالة؟ أفي حالة العجز عن إعطاء جواب لمقال جبران مسوح «أدب الرجعيين» أم في حالة العجز عن المضي في دسائسه اللئيمة ضد الحركة السورية القومية الاجتماعية التي هي أروع حركة اجتماعية ــــ اقتصادية ــــ سياسية ظهرت خارج أوروبة وقامت بمبادىء ونظريات روحية واجتماعية عامة مستقلة تجعل أوروبة ذاتها محتاجة إليها كما تحتاج إليها جميع القارات على السواء وجميع ساكنيها ــــ هذه الحركة العظيمة التي يقول فيها السيد حداد، الذي كان من مصائب «الرابطة القلمية» في نيويورك أن ينضم وأمثالـه إليها، إنها «سيـاسـة عالمية مشتبه بها»؟ أهكذا التشبه بالحكماء الكبار الذين يتعلمون الصمت من الثـرثـارين؟ فإذا كـان هكذا يفهم السيد حداد حكمة الحكماء فتشبّهه بهم ليس إلا من قبيل تشبّه القردة بالناس.
السيد عبد المسيح حداد يحاول أن يكون في درجة مهارة زملائه، على الأقل، في ستر عجزه وتجنب فضيحتـه فيقول في «مقاله الصغير» إنّ أنطون سعاده قد جعل لسانه وقلمه عاملين لإهاجة الأدباء على ذكر اسمه حتى تبقى له الشهرة بعد أن طلقته. ولكن هل يحتقر السيد حداد مدارك قرّاء جريدته إلى هذا الحد؟ ألا يخشى أن يطالبه بعضهم بإعطاء برهان واحد على كيفية «إهاجة» أنطون سعاده الأدباء على ذكر اسمه وعلى كيفية تطليق الشهرة له وعلى ثرثرته التي تكرّم بالصمت عنها؟ ألا يوجس أن يشك قـرّاء السائح بهذه الأحكـام المرسلـة اعتباطـاً من غيـر دليل ويتنبهـوا إلى أنّ السيـد حداد ليس سوى هفَّات، ثرثار، سِبٌّ [شتّام]، سفيه يريد اكتساب الشهرة بالتطاول على مقام قائد الحركة السورية القومية الاجتماعية وبالدسّ على هذه الحركة التي أصبحت مدار أمل الأمة السورية بالحياة ومنارة وسط متخبط العقائد الإنسانية؟
إننا إذا اتهمنا صاحب السائح بالتطاول والدسّ فلنا دليل تعاقبي وبرهان مما نشره بقلمه وقد بيّنا ذلك في القسم الأول من هذا المقال. ولكن ما هو دليل صاحب السائح على أنّ أنطـون سعـاده نفسه تعرّض له ليستفيد بهذه الطريقة الشهرة التي يـريد السيد حداد أن يوهم قرّاءه أنها طلقته؟
إنّ مقالـة «أدب الرجعيين» هي جـواب جبـران مسـوح الأديب المؤلف على ما تناوله به صاحب السائح من النقد الشخصي في معرض التعليق على كتابه القاموس الحزين. فما شأن أنطون سعاده في هذا المقال وغيره من المقالات التي كتبها قوميون بادروا إلى كشف النقاب عن أغلاط السيد حداد وسوء نيته؟ إلا إذا كان السيد حداد يريد أن يحمّل أنطون سعاده مسؤولية كل ما يفكر به ويكتبه ويقوله رفقاؤه القوميون الاجتماعيون، لأنه هو الذي أضرم في نفوسهم هذه الثورة الروحية الفكرية. وماذا يريد السيد حداد أن يفعل بشخصيات أدباء الحركة القومية الاجتماعية؟ أيريد أن يعدمهم بالمرّة؟ وهل باستطاعته أن يفعل ذلك بمخرقته وهفته وثرثرته؟
إنّ شخصيات الأدباء القوميين ليست مؤلفة من المادة الخزفية المصنوعة منها شخصيات أدباء الفناء أمثال السيد عبد المسيح حداد. إنّ تعلمهم من زعيمهم لا يوقف تفكيرهم الخاص ولا فنهم. إنهم لا يصيرون لتّاتي كلم [كلام] لا يعرفون له معنى شأن أدباء الجمود الذين يعيشون على أدب سواهم كالحلميات يأخذون ولا يعطون. إنّ الأدباء القـومـيين يـأخـذون ويعـطـون. يتعـلمـون ويفهـمـون ويـدركـون ويتـأمـلون وينتجون. وإنتاجهم جدير بهم وبزعيمهم، وزعيمهم فخور بهم كما هم فخورون به.
عندما انتقد الأدباء القوميون صاحب السائح تناولوا مواضيعه وبيّنوا وجوه انتقادهم. إنهم لم يقولوا عن السيد حداد إنه ثرثار، لأنهم أرادوا أن يحسنوا الظن به ويُأوّلوا ثرثرته على وجه الغفلة أو السهو أو عدم وجود الحافز. ولكن السيد حداد، بدلاً من أن يدافع عن كتابته ويبيّن غلط منتقديه، لجأ إلى سبّهم بسفاهة يخجل من إتيانها صبيان الأزقة عديمي التربية. وهو لم يقف عند حد سبّهم هم، بل اندفع يسبّ زعيم الحركة السورية القومية الاجتماعية وينسب إليه الثرثرة ويعزو مقال جبران مسوح إليه من غير حجة ولا برهان! أهذا هو شـأن الحكيـم الذي يعرف الثـرثـرة والحكمـة؟ من هو الذي قام يثرثر على الآخر أأنطون سعاده على السيد عبد المسيح حداد أم السيد حداد على أنطون سعاده؟ الواقع أنّ السيد حداد هو الذي يحاول ما حاوله غيره من طلب الشهرة بالتعرض للحزب السوري القومي والتهجم على زعيمه. والسيد حداد يعجز عن أن يأتي ببرهان أو دليل واحد على العكس الذي ادّعاه.
إنّ الذين لا تصل إليهم الزوبعة سيظلون، مدة من الزمن، جاهلين هذه الحقيقة. وسيظنون أنّ السيد عبد المسيح حداد على حق في ما يدّعي. ولكن الحقيقة لا بدّ أن تصل إليهم يوماً ما. فالحركة السورية القومية تمتد وتنتشر ويزيد عدد المؤمنين بعقيدتها، العارفين نزاهة غايتها وهؤلاء المؤمنون بحقهم في الحياة العارفون الفرق بين الحقائق والأوهام سيتكفلون بإيصال حقيقة أمر السيد عبد المسيح حداد وأمثاله مع الحركة السورية القومية الاجتماعية ومع قضية الجنس السوري وشرفه في المهاجر إلى جميع الذين قادهم نكد الدنيا إلى الوقوع في شراك دجالي الأدب والعلم!
لو أنّ محتكري الشهرة من دجالي الأدب وقفوا عند حد الكيد لأنطون سعاده وحده لكي يمنعوا وصول أنوار تفكيره إلى جميع الأوساط السورية فيصيب نورهم الخسوف، لكانت المصيبة بهم أخف وطأة. ولكن إقدامهم على رمي نهضة الأمة بالتّهم الشنيعة التي لا تليق إلا بنفوسهم القائمة، بتجرّد غريب عن كل شعور بالمسؤولية في صدد هذه القضية المقدسة، يجعل المصيبة بهم فادحة ويعظّم جرمهم ضد الشعب السوري وحقوقه ومصالحه.
إنّ السوريين القوميين الاجتماعيين الذين دخلوا، بواسطة النهضة القومية الاجتماعية، في عهد جديد لا محل فيه لعدم الشعور بالمسؤولية، يستغربون جداً أن تصدر عن رجل يقوم على إدارة صحيفة سورية مطاعن ودسائس خبيثة، سافلة، في صدد حركة الأمة السـوريـة القوميـة الاجتماعية كالتي وجّهها إليها السيد عبد المسيح حداد دون أن يكلف نفسه مشقة تخمين المسؤولية التي تقع عليه وعظم الجرم الذي سيحمله بدسّه على الحركة السورية القومية من غير الاستناد إلى دليل منطقي ولا إلى نص أو وثيقة يتخذ منها شبه تبرير لدسّه الشائن. ولكن الأدباء المجزرين الذين اتخذوا قاعدة تفكيرهم «أن لا يحصرهم حيّز من فكر أو مادة»، كما قال أحدهم إيليا أبي ماضي، لم يتعودوا حمل شيء من المسؤولية تجاه أحد. فهم قد أقام كل واحد منهم نفسه سلطاناً مطلق التصرف مستبداً كل الاستبداد بكل قول وفعل، عابثاً بكل حق عام أو خاص، محاولاً استعباد نفوس قرّائه السليمي النية بالشعوذة والمخرقة والغش. وبعد كل ذلك يـدّعـون أنهم يحـاربـون «الدكتـاتوريـة» التي لجهلهم حقيقتهـا السيـاسيـة وأشكالها التاريخية، والعصرية، يصوّرونها بأقبح الصور التي لا تنطبق إلا على عجرفتهم البشعة وخنزوانيتهم البعيدة عن عرف الأدب الراقي ومستوى الثقافة العالية الذي يحاولون إيهام الناس أنهم قد ارتفعوا إليه مع أنهم دونه بمراتب.
كان هؤلاء الأدباء يعيشون كقطّاع الطرق، يتعرضون لكل سائر نحو غاية نبيلة وكـل عـابر طريـق فيحاسبونـه بمطلق استبـدادهم ويعيّرونـه بجهلهم ويسلبونه ما معه ويرفضون أن يعطـوا حسـابـاً لأحد عما يفعلون. شهواتهـم شريعتهـم ومـآربهم الخصوصية منطقهم. ويكفي، عندهم، مبرراً لعيثهم [فسادهم]، معرفتهم بصرف اللغة ونحوها واجتهادهم في اختيـار الألفـاظ السلسلة الجزلة وإن كانوا، في أكثر الأحيان، يضعونها في غير مواضعهـا وليس لهم في ذلك مقيـاس غير حـاجـاتهم الخصـوصيـة من زلفى أو تملق أو تظاهر بالتضلع في اللغة وإتقان رصف الألفاظ.
إنهم يظنون كل ما يكتب أدباً. والأدب عندهم هو الألفاظ والأسلوب الشكلي. أما المواضيع وأصولها فهي من توابع الأسلوب وأشكال التفنن اللفظي. فيكتبون في السياسة ومواضيعها وفي القضايا العلمية أو الفلسفية كما يكتبون في الحوادث العاطفية أو في الشؤون والأذواق الخصوصية. كل المواضيع عندهم هي مسألة ذوق. فكل واحد منهم يكتب في كل موضوع يخطر له طرقه ويخوض فيه غير معتمد إلا على ذوقه. لا علم ولا أصول ولا بلّوط. وإليك هذا المثال من هفت السيد عبد المسيح حداد في مقالة رئيسية في السائح بتاريخ 19 فبراير/شباط الماضي. عنوان المقالة «من أنا في عالم السياسة؟» وهو موضوع هام جداً. إنه أهم من جميع المواضيع السياسية الموضوعة على بساط البحث بمناسبة هذا الصراع السياسي ــــ الاقتصادي ــــ الحربي الهائل. المتعطش إلى معرفة حقائق الأمور السياسية لا يحتاج إلا لمعرفة من هو السيد عبد المسيح حداد في عالم السياسة. فمتى عرف ذلك عرف ما هي السياسة والمذاهب الاجتماعية ــــ السياسية وأهمية كل مذهب منها وحسناته وسيئاته واستغنى بهذه المعرفة عن كل رأي ومذهب وعلم سياسي!
أُنظر إلى مثال هذه السفسطة التي قتل بها هؤلاء الصحافيون المتاجرون بالعلم والأدب توق السوريين المهاجرين إلى المعرفة والتجهز لخوض تنازع البقاء. قال السيد حداد، فض فوه، بعد مقدمة وجيزة:
«لست إشتراكياً. لست شيوعياً. لست سياسياً بالمعنى الذي يعتبره الناس صفة لذي ميل إلى الأخذ والرد(!!) في أمور الاجتماع المدني. ما أنا إلا كاتب يشعر بضميره وقلبه وأدبه بأن كل مبدأ عالمي جائز إذا كان يقرّه حق الأيام والمحيط والزمان(!!) وبأن الحق للأكثرية وبأن على الفرد أن لا يتعدى طريق الجمهور فإذا ما تراءى له شطط أقدام الجمهور بالسير عليه وما يستطع اجتذاب الناس إلى رأيه وكلامه فما عليه إلا أن يتبع أحد أمرين: فإما أن يماشي الأكثرية وإما أن ينعزل عنهم إلى طريق يراه أحسن لجريه في هذا العالم. هذا شعوري ولا أدري أهو دمقراطي أم إشتراكي أم شيوعي غير أني أشعر به ويقرّه ضميري».
وتتمة المقالة كلها من هذا النوع.
هذا هو الهفت بعينه. فلو شاء الهفت التجسد لما اختار أفضل من هذه الصورة التي يظهره بها السيد عبد المسيح حداد. الدخول في مواضيع لا يفهم منها الكاتب شيئاً صحيحاً والتكلم فيها بغير إعمال فكر. العلم السياسي والعلم الاجتماعي ليسا لصاحب السائح سوى مسألة شعور! وخلاصة شعور السيد حداد هي أنّ كل شيء موجود حسن. وإنّ الأكثرية هي دائماً على صواب فيجب أن لا يتعرّض أحد للأكثرية ومن لم يشأ مجاراتها فلينعزل عن المجتمع. فإذا كان الجمهور يقول إنّ الأرض مسطحة والشمس تدور حولها، ورأى فرد أنّ هذا ضلال يوضحه المنطق والاستدلال والواقع فما عليه إلا أن ينعزل عن العالم لئلا يرتكب جريمة التعرض للأكثرية ومحاربة جهلها. والمسيح ما كان يجب أن يتعرض لرأي الجمهور الذي استحسن بيع الحمام وإقامة موائد الصيارفة في هيكل الله. ومحمد كان مجرماً يستحق الشنق لأنه عصى المبدأ العالمي الذي أقرّه حق الأيام في العُربة وأخذ يناهض الأكثرية الضالة في بربريتها ليجلبها إلى الحق. ولوثر والذين اعتنقوا مذهبه كانوا ضالين لأنهم جاهدوا للإصلاح. والولايات الشمالية، في الولايات المتحدة، كانت مجرمة لأنها حاربت الولايات الجنوبية من أجل مبدأ ترفضه هذه الولايات. وكل صاحب دعوة تجديدية في الاجتماع والاقتصاد والسياسة ليس سوى فرد «يتعدّى طريق الجمهور» وكل من اتّبع دعوة مصلح وعمل لها وحـارب من أجلها بقلبه ولسانـه وقلمه وساعده فهو سياسي «ذو ميل إلى الأخذ والرد في أمور الاجتماع المدني»!
أيمكن أن يوجد سحر يوازي سحر هذا الهفت. هل استفاد القارىء شيئاً يساعده على فهم عالمه وشؤونه الروحية والمادية ومسائله ومشاكله المعقدة؟
ألم يجد السيـد حـداد ما يدعـوه إلى رفع القلم عن القرطاس والتفكير في هذه الجملـة الشرطيـة المعطوفـة «ولم يستطع اجتـذاب الناس إلى رأيـه وكلامه» وما تنطوي عليه من مسائـل حقوقية وسياسية وإدارية معقدة؟ ألم يجد من حكمته الباهرة دافعاً للسؤال: «وإذا قـامت في وجه المصلح قوى سياسية تمنعه من إيصال كلامه ورأيه إلى الناس فهل يجب أن يسلّم ولا يبحث عن وسيلة يسحق بها تلك القوى الجامدة التي لا ترغب في تغيّر عقلية الجمهور؟ وإذا وجد هنالك أدباء ثرثارون، هفاتون، بهاتون، يـحـاربـون كـل فكـرة إصـلاحيـة ويـحشـون أدمغـة القـرّاء أنـواع السـفسـطـة ألا يجـب شهـر الحـرب عليهـم وتوخـي سحـق أدبهم المعثّر الذي لا يتقـدم ولا يترك الناس يتقدمون؟».
ولكن كيف نطلب من دماغ عقيم أن يولّد فكراً؟ وكيف نتمنى من كاتب يقيس نفسه بمقياس جبران خليل جبران ولم يتعلم منه غير الصمت في غير محله، أن يتكلم كلاماً له محصّل مفيد في معرض الهفت والثـرثـرة اللذين لم يعرف فناً ولا فلسفة ولا عـلماً ولا أدباً غيرهما، اللهم إلا ما يحسنه من سباب وبذاءة وسفاهة؟
كل ما يريـد أن يقولـه السيد حداد في مقاله العظيم عن نفسه وتفكيره في الاجتماع والسياسة هو أنّ المرء يجب أن لا يهتم إلا بالأكل والشرب والنوم والتنفس والمطاليب الجسدية وأن يدع كل اهتمام وتفكير بإمكان إنشاء مجتمع أو عالم أفضل من المجتمع أو العالم الموجود. ولتتم له هذه السعادة يجب أن يكون ديموقراطياً حيث الأكثرية ديموقراطية وشيوعياً حيث الأكثرية شيوعية وهلمّ جراً. أما ما هي الديموقراطية وكيف يجب أن نفهمها فكل ما عند السيد حداد ليقوله هو أنها «حال اجتماعي لبق» وأنّ روحها «يخوّل أقل الناس شرف انتخابه لأعلى الناس مرتبة» وأنّ هذا هو المقصود منها فحسب! والديموقراطية بعد وغيرها من المذاهب الفكرية في الاجتماع ليست للسيد حداد سوى «أزياء وقتية وهي جميلة كلما لبقت»!
إذا كنت أيها القارىء التعس السيّىء الطالع لم تفهم من أوصاف السيد عبد المسيح حداد للسياسيّ وللمذاهب الاجتماعية شيئاً يفيدك في معرفة حقيقة المذاهب والعقائد الاجتماعية ــــ الاقتصادية، التي لا بد لك من معرفتها إذا كنت تريد أن تفهم عالمك، فالحق ليس على صاحب السائح ذي الشهرة التي طبقت الدنيا، بل على تقصير مدى إدراكك الحقير عن مدى إدراك السيد حداد البعيد!
العقائد والمذاهب الاجتماعيـة هي مجرّد «أزياء وقتية وهي جميلة كلما لبقت»! لا تقل إنك لم ترَ في حياتك أتفه من هذا الهفت! لا تجدّف على الذي يعلمك أنّ العقائد أزياء تختار منها ما يروقك اليوم للزمان والمكان الذي أنت فيه، حتى إذا تعبت منه أبدلته بزي آخر. بهذه السفسطة تزيد معرفتك وترقّي تفكيرك. وإياك أن تقول سراً أو جهراً، إنّ السيد عبد المسيح ليس إلا هفات، مخلط، خنفشاري العلم! فإنك إن فعلت ارتكبت إثماً فظيعاً ضد صاحب الصيت الطويل العريض!
للبحث استئناف