إنّ أسوأ حالة وصل إليها الأدباء الـمُجزِرون هي حالة اتخاذ الأدب تجارة مشوبة بالغش وجعلهم ديدنهم الهفت والبهت. أما الهفت فقد عرّفه اللغويون أنه كثرة الكلام دون إعمال فكـر. وأما البهت فهو اغتيـاب الآخـرين بما هو غير صحيح أو اختلاق الأقوال والأوصاف والأفعال عن الآخرين وهم غائبون. فكأن هذه الطائفة من الذين اتخذوا الكتابة مهنة كسب وسمّوا أنفسهم أدباء يحسّون بعقولهم الباطنة أجل أدبهم يقترب فلا يرون أنفسهم إلا مدفوعين بدافع «جنون الخلود» إلى ثلب أدب غيرهم الناشىء، لأنهم لا يجدون طريقة أخرى يحاولون بها الإبقاء على مُثُلهم الدنيا الفانية.
وقد كثرت في الجوالي السورية هذه الطائفة من المكتسبين بالأدب الذين لعدم مقدرتهم على الانصراف إلى أدب حقيقي يبذلون فيه نفوسهم، لجأوا إلى الصحافة فأخذ كل واحد منهم يصدر صحيفة يطوف بها على أبناء بلدته وأنسبائه وأصدقائه ومن يتصل بهم من أبناء وطنه وقليل منهم قنع بوظيفة كاتب في صحيفة. وكلهم، إلا بعضهم، شذوا عن قواعد الأدب الصحيح الذي يقتضي أسلوباً ونهجاً لكل أديب يعرف بهما.
والـذي يتـفـطـر له قـلـب الخبيـر الـبـاحـث في أسبـاب انحـلال الـروابـط القـوميـة والاجتمـاعيـة في جـوالينـا وابتعـاد أبـنـائـنـا المـولـوديـن في المهاجـر عن لغتنـا وكـرههم الانتساب إلينا هو أنّ أعظم هذه الأسباب صادر عن هذه الطائفة من منتحلي الأدب ومرتزقة الصحافة.
سيكون لنا قول في هذه الحالة من وجهتها العامة. ولكننا نبدأها بحصر الكلام في أديب واحد من هؤلاء الأدباء يصدر جريدة في مدينة ينويورك اسمها السائح واسم هذا الأديب عبد المسيح حداد.
يعلم جميع الذين رافقوا حياة الزوبعة أنّ هذه الجريدة لم تتناول بالدرس أحداً من أدباء الفناء المهاجرين من سورية إلا في موضوع عام دفاعاً عن الحق وتبياناً للحقيقة أو لرد افتراء ودحض الباطل. وأول مرة تُنُووِلَ فيها السيد عبد المسيح حداد على صفحات الزوبعة كانت في العدد 19 الصادر في أول مايو/أيار حاملاً تاريخ 30 أبريل/نيسان سنة 1941 حين كتب مدير هذه الجريدة وبإمضائه مقالاً بعنوان «الأدب الذي نريده» تناول فيه مقالاً لمحرر السائح قال فيه: «إنّ تبديلاً هائلاً في الأوضاع والتقاليد والعادات والأديان وأشياء أخرى» سيحدث في العالم بسبب الحرب الحاضرة. وقد أخذ الرفيق مسوح على السيد حداد أنه اهتم بالتبدل الذي سيجري في العالم ولم يهتم بالتبدل الآخذ في الحدوث في بلاده، أي في سورية التي صار أدباء الفناء يسمونها «الوطن الأول». ثم عاد الرفيق مسوح فنشر مقالة افتتاحية لعدد أول سبتمبر/أيلول الماضي بعنوان «تفكيرنا القديم» كتبها بلسان شخصية الزوبعة لا بلسان شخصيته، ولذلك تركها بدون إمضاء، وتناول فيها وصف السيد حداد لـ«الوطنية عندنا» من غير أن يذكر اسمه تجنباً لكل صبغة شخصية للموضوع. والذي يراجع المقالين المشار إليهما المكتوبين بقلم الرفيق مسوح وأسلوبه وإمضائه على الأول منهما يرى فيهما دافع الغيرة على القضية القومية والنقد الأدبي لأدب يوجه إلى شعب من غير الاهتمام بقوميته وحقوقها ومصالحها ونهضته القومية الاجتماعية وأهميتها ومحلها.
في هـذه الأثنـاء كتـب السيـد عبد المسيـح حـداد نقده لمؤلف جبران مسوح القاموس الحزين وبدلاً من أن يعرض للكتاب وأسلوب كاتبه وأهمية موضوعه وقيمته الأدبيـة جعـل همّه تخطئـة جبران مسـوح في اتّباعـه سعـاده وتخصيصـه إياه بإهداء الكتاب داعياً إياه «زعيمي العظيم» ثم تطرّق إلى الحركة السورية القومية فقال عنها إنها «سياسة عالمية مشتبه بها».
حالما وصـل تعليق السيد عبد المسيح حداد إلى الأوساط القومية في الولايات المتحدة بادر الأمين فخري معلوف إلى إظهار سوء فهم السيد حداد للزعامة القومية وسوء ظنه بالحركة السورية القومية من غير مبرر. ثم وصل الموضوع الذي أثاره السيد حـداد إلى البرازيل فتناوله أحد القوميين وكتب فيه مقالاً بإمضاء «إبن اليوم» ومقالا الأمين معلوف والرفيق الموقع «إبن اليوم» نشرا في سورية الجديدة في البرازيل.
أما جبران مسوح صاحب الكتاب الذي وجّه إليه السيد حداد تهمة «العبودية»، لأن له زعيماً يتبعه، وهو صـاحب الشأن الأول الذي وجّه إليه السيد حداد انتقاده اللاذع واتّخذ من مؤلفه عبّارة يصل بها إلى حد التحامل على أنطون سعاده والحركة السورية القومية، فإنه رأى أن يكون له جوابه على مغامز السيد حداد ودسائسه الشائنة. ولكنه كان يتحيّن انفساح مجال في الزوبعة لرد طويل لا يأخذ على المواضيع الهامّة التي تعالجها الزوبعة مجالها. فلما عاد إلى توكومان بعد الطارىء الصحي الذي حصل له في سبتمبر/أيلول الماضي وارتاح بين أهله وعاد إليه نشاطه كتب مقالة «أدب الرجعيين» وصدّره بالتعليق الذي كتبه السيد عبد المسيح حداد في صدد كتابه القاموس الحزين. فنشر المقال في العدد الصادر في أول يناير/كانون الثاني الماضي. وقد كتب جبران مسـوح ردّه على نقد صـاحب الـسـائح بلسـانـه الشخصي وصفتـه الأدبيـة لا بلسان الزوبعة. إنه كتبـه بصفتـه أديباً ومؤلفاً تعرّض له أحد الصحافيين بالنقد معيّراً إياه بسلوكيته القومية بدلاً من التزام حد النقدالأدبي البحت.
إذا أخذنا الاحتكاك بين جبران مسوح والسيد عبد المسيح حداد حسب تسلسله التاريخي وجدنا أنّ جبران مسوح كان الذي بدأ هذا الاحتكاك بإمضائه. ومراجعة أول مقال كتبه مسوح تدل على أنه لم يقصد إلا انتقاد النهج الصحافي للسيد عبد المسيح حداد بإهماله درس ما يجري من التبدل في الشعب الذي ينتسب إليه ويكتب له ليلتّ عبارات مقتبسة أو مكتسبة من كتابات الصحف الأجنبية عن توقّع حدوث تبدّل كبير في الأوضاع الاجتماعية ــــ الاقتصادية في العالم. فنقد جبران مسوح كان موجهاً إلى صحافي سوري في متطلبات كتابته للسوريين وفي صدد مواضيعه ومقاصد كتابته وليس في أي شأن من شؤونه الاعتقادية الخصوصية وهل له زعيم عظيم أم هل هو أعظم من أن يتّبع زعيماً. فالموضوع صحافي بحت متعلق بالرأي العام السوري في المهجر والمواضيع التي تهمه بالدرجة الأولى. ولكن السيد عبد المسيح حداد، بدلاً من أن يردّ على نقد جبران مسوح لنهجه الصحافي ومواضيعه البعيدة عما يجب أن يشغل عقول السوريين من حالات وتطورات شعبهم ووطنهم وجنسهم، لجأ إلى الحيلة ليطعن جبران مسوح في وضعه نفسه تحت قيادة أنطون سعاده وليصيب أنطون سعاده نفسه بهذا الطعن، لأن أنطون سعاده هو قائد هذه الحملة لإيجاد أدب جديد يليق بنفسية شعب عظيم، حي، ناهض. فأخذ كتاب جبران مسوح القاموس الحزين، فلم يقل في موضوعه ومحله من الأدب سوى بعض عبارات لها صبغة المجاملة وجعل كل همّه في تخطئة جبران مسوح في كيفية إهدائه الكتاب واتّباعه أنطون سعاده ونعته إياه «زعيمي العظيم» متهماً إياه بالعبودية و«بتسخير قلمه وأدبه لسياسة عالمية مشتبه بها». فلما رد عليه جبران مسوح بمقالة «أدب الرجعيين» الذي حاز إعجاب القرّاء وطلب منه إظهار البراهين التي عنده على أنّ الحركة السورية القومية «سياسة عالمية مشتبه بها» وناقشه في كيفية النقد الأدبي وأظهر تعرّضه وتحامله بقوة عارضة وشدة بيان، لم يكن من السيد عبد المسيح إلا أن نقل من جبران مسوح إلى أنطون سعاده الذي لم يكن له أي دخل في هذه المناظرة التي هي مزيج من الأدب والصحافة!
قد أثبتنا في العدد الماضي «المقال الصغير» الذي كتبه صاحب السائح ونشره في عدد جريدته الصادر في 16 فبراير/شباط الماضي. ومن تحليل المقال المذكور يتبين أنّ السيد حداد يرمي إلى أربعة أمور:
1 ــــ إيهام الناس أنّ زعيم الحزب السوري القومي اهتمّ بنفسه لدسّه على الحركة السورية القومية وتصدى لمناقشته.
2 ــــ الحط من منزلة جبران مسوح بإيهام قرّاء السائح أنّ مقاله «أدب الرجعيين» الذي أوضح فيه خروج السيد حداد عن حدود الأدب الصحيح والصحافة النزيهة، ليس من إنشائه، بل من إنشاء الزعيم نفسه.
3 ــــ التذرع بصيت السائح القديم حين كان صحيفة «الرابطة القلمية» على عهد الطيب الأثر جبران خليل جبران وبعض الأدباء الذين توخوا النهوض بالأدب السوري باطّراح التقليد الجامد، ليشوّه سمعة أنطون سعاده عند الذين لا تصل إليهم الزوبعة أو صحيفة أخرى قومية.
4 ــــ حمل قرّاء السائح غير المطّلعين على الظن أنّ الحركة السورية القومية التي أوجدت تاريخاً جديداً لسورية واهتماماً إنترناسيونياً واسعاً ورفعت بها تقارير إلى الجمعية الأممية ليست شيئاً مذكوراً بالنسبة إلى شهرة السيدعبد المسيح حداد صاحب جريدة السائح.
كل من قرأ «المقال الصغير» المشار إليه المثبت في العدد الماضي من الزوبعة يجد أنّ هذه الأمور المستخرجـة من تحليله منطبقة كل الانطباق على نص المقال. وقبل أن نردّ كيد صـاحب السائح في نحـره نريد أن نقول قولاً له أهمية كبيرة في العلاقات الاجتماعية - السياسية. وهو أننا لا نرى الخنزوانية [الخسّة] منهاجاً صحيحاً للأدب أو للصحافة أو لخدمة الرأي العام أو المجتمع. فـ الزوبعة لا تتكبر عن الحفول بأي ثرثار كان كلما كانت ثرثرته ماسّة بشؤون تهمُّ الشعب أو قسماً من الشعب. فإذا وُجد كاتب أو صحافي سخيف يدجّل على الناس بمخرقاته وبريق أصدافه ووُجدت حالة يرجّح أو يحتمل فيها أن يتمكن هذا الدجّـال من خدع عدد كبير أو صغير من الناس فنحن لا نتأخر عن الحفـول بهفته وثـرثـرتـه ليس من أجل الاهتمام به هو، بل من أجل المصلحة الثقافية للشعب الذي نخدمه. وقد علّمتنا النهضة القومية الاهتمام بجميع نواحي الشعب وفئاته وشؤونه الصغرى والكبرى على السواء. فنحن لا نخدم مصالح شخصية ولا نضع نصب أعيننا، كما يفعل ذوو الأغراض الشخصية الأنانية، تنزيه أشخاصنا عن الحفول بجميع الأشخـاص والمسـائـل التي لها علاقـة بتكـوين عقليـة المجتمـع وبقضيته القومية، وإننا نقـول إنّ كل من يتبجح بخدمـة الشعب وشـؤونـه بطريقة من الطرق ويدّعي، عند كل اصطدام بمؤسسات وأشخاص لهم علاقة بالمسائل التي تهمّ الشعب، أنه «لا وقت له للحفول بهم وبثرثرتهم» فهو منافق، دجّال، مشعوذ. وقد ظهر أنّ هذا هو شأن السيد عبد المسيح حداد صاحب جريدة السائح الذي يبلغ به جنون الخلود حداً أبعد كثيراً من اللامبالاة بأفراد عاديين يتصدون لما لا يعنيهم. فهو لا وقت له حتى ولا للحفول بأنطون سعاده الذي قال عنه رصيفه في النفاق والشعوذة، إيليا أبي مضي، في صحوة من صحوات جنونه، «هو الشاب الذي أوجد فكرة تملأ اليوم رؤوس الشباب في لبنان وسورية (الشام) وفلسطين». إلى هذا التهور البعيد في الخصوصيات وصل صاحب السائح الذي يدّعي أنه كاتب رصين لا يحفل بثرثرة الثرثارين!
إنّ السيد عبد المسيح حداد قد استعظم أن يقول جبران مسوح إنّ أنطون سعاده هو زعيمه العظيم، وجبران مسوح لم يكن له سوى «كاتب خفيف الروح» لا يقاس بينه وبين «الشاعر الملهم المبدع» إيليا أبي ماضي. فلماذا لم يستعظم أن يقول أبو ماضي عن أنطون سعاده أنه أوجد فكرة تملأ رؤوس شباب سورية القومية كلها؟ فإذا كان إيليا أبو ماضي مصيباً فهل يلام أحد اتخذ الذي أوجد الفكرة العظيمة التي حركت جميع قوى الأمة السورية الجديدة زعيماً له؟
الجـواب على هذين السـؤالين بديهي. فللسيـد عبد المسيح حداد عذر وهو أنّ جنونه بالخلود قد جرح بظهور التفكير والأدب القوميين اللذين يفضحان الأدب الخصوصي المشعوذ. وقد أصاب السيد حداد فرقّ مما حلَّ برصيفيه في الأدب التافه السيدين إيليا أبي ماضي ورشيد سليم الخوري فوقع في حيص بيص لا يدري هل ينهزم بدون معركة أم يخرج معهما. وأخيراً شدد قلبه وهو في منعزله على الخروج وكتم خوفه. فلم تكن إلا جولة واحدة حتى هرب إلى حصن خيلائه الكرتوني محاولاً أن يستر فضيحته الأدبية بستار أرستوقراطية زائفة وعجرفة شخصية مضحكة.
إنّ الأمر الأول الذي رمى إليه صاحب السائح، وهو إيهام الناس أنّ زعيم الحزب السوري القومي اهتمّ بنفسه لدسّه على الحركة السورية القومية وتصدى لمناقشته، ليس فيه فضيلة واحدة للسيد حداد ولا يحطّ مقدار ذرّة من منزلة الزعيم، على افتراض أنه الحقيقـة الفعلية. ومع ذلك فالواقع المثبت بوثائق هو أنه وُجد في أوساط السوريين القوميين عبر الحدود أكثر من واحد كفى الزعيم مؤونة الاهتمام بنفسه لتحامل السيد حداد على شخصه وعلى الحركة السورية القومية الاجتماعية. وكان الرفيق جبران مسوح آخر الذين أجابوا السيد حداد على ترهاته ليبيّنوا للناس اليقين من الشك. ولو كان بلغ الزعيم خبر تحامل صاحب السائح عليه وعلى الحركة القومية قبل أن يكون تحرك لردّه بعض رجال العقيدة السورية القومية الاجتماعية وفي مقدمتهم الأمين فخري معلوف المعدود من أركان هذه الحركة ودعائم عقيدتها لكان الأرجح أن يكون تناول بنفسه ترهات السيد حداد، لأن الزعيم الساهر على مصلحة قضية أمته يدرك جيداً مبلغ ضرر المفسدين لنفسية الشعب وشدة خطر الدساسين الذين وصلوا إلى شيء من مكانة أدبية في بعض الأوساط. كيف لا وهو صاحب القول المشهور «النبت الصالح ينمو بالعناية أما الشوك فينمو بالإهمال» فهو لا يتوانى أبداً في مثل هذه الأمور الخطيرة التي ليس في خطرها أي فخر لصاحبها، إلا حين تكون المقدرة على الأذى والتخريب لا على الإنشاء والتعمير مدعاة للفخر، لأنه يعلم أنه إذا وجدت شوكة واحدة في كرم وأُهمل أمرها صارت خطراً على الكرم. ولكن امتداد الحركة القومية الاجتماعية في المهاجر السورية باستمرار قد أوجد للقضية القومية الاجتماعية عدداً من رجال الفكر والأدب يكفي بعضهم للقيام بواجب رد افتراءات المفترين وقد كفى بعضهم لإيضاح مثالية الزعامة القومية الاجتماعية وكشف غيوم أغراض السيد حداد الخصوصية فلم يحتـج الـزعيـم للحفـول بنفسـه بالـدسّ اللئيـم على حركة الشعب السوري القومية الاجتماعية الذي حاوله السيد المذكور. ومع أنّ هذه الحقيقة واضحة من المقالات التي نشرت في سورية الجديدة أولاً ثم في الزوبعة فإن السيد حداد يأبى إلا الهفت والبهت والمخرقة بالادعاء أنّ مقال «أدب الرجعيين» الحامل إمضاء جبران مسوح ليس من إنتاج وتفكير جبران مسوح، بل من إنتاج الزعيم.
للبحث استئناف