ليس هذا الـمجال، كما قلنا في البدء مخصَّصاً لدرس منظومات »الشاعر القروي« فنقف في كلامنا على شعره اللاوطني عند الـحد الذي بلغناه في الـمقالين السابقين، لنخص هذا الـمقال بـمنظوماته «الوطنية».
نشأ رشيد الـخوري في زمن ابتداء الاختلاجات السياسية في سورية، بشكل دعوة الأمـم العربية إلى الاتـحاد ضد السلطة العثمانية - زمن «دع مجلس الغيد الأوانس»[1] و«تنبّهوا واستفيقوا أيها العرب»[2]و«بلادي لا أرى فيك الإقامة لـمن يهوى التعزز والكرامة»[3] وغير ذلك من الـمواضيع السياسية الأولى التي رافقت تلك الاختلاجات. فانطبعت مظاهر الاختلاجات الـمذكورة على نفسه. ومتى عرفنا من الدرس والـمقابلة أنّ رشيد الـخوري مكتسب في الشعر، لا موهوب، عرفنا أيضاً بالفحص والـمقابلة أنّ نزعاته «الوطنية» في نظمه هي تقليد لنزعات غيره. وهكذا ترى قصيدته التي مطلعها: «أبيت جوارها أرضا بغير الذل لا ترضى» فهذه القصيدة هي مزيج من أفكار صاحب «بلادي لا أرى فيك الإقامة» وإحساسات صاحب «دعاني أجرع الغماء». وأفضل قصائده الوطنية لم تتجاوز أن تكون قبساً من «دع مجلس الغيد الأوانس»، و«تنبهوا واستفيقوا أيها العرب».
إنّ منظومات رشيد الـخوري «الوطنية» ليست سوى صدى ما يقال ويسمع في بيئة الناظم، أي أنها منظومات، لا فكر مولد فيها ولا فكرة واضحة لها. كل ما يـمكن أن تشعر به فيها هو أنها صادرة عن رجل يحب الـحرية والاستقلال ويطلبهما ككل إنسان آخر، أو ككل حيوان على الإطلاق. فمحبة الـحرية وطلبها ليسا شأنين من شؤون الناس فقط بل هما من شؤون الـحيوان أيضاً. ألا ترى كيف يجول الأسد أو النمر الـمأسور في قفصه يطلب مخرجاً ومجالاً لـحركته بعد أن ضاق ذرعاً بأسره وعيل صبره؟ أو العصفور كيف يـمد منقاره من هنا ومن هناك طالباً الإفلات من القفص الذي سجن فيه؟
نقول إنّ قصائد الـخوري الوطنية ليست سوى صدى ما يقال ويسمع، أي أنها قصائد لم تشتمل على غير صدى قصائد قديـمة وغير الأفكار والفِكَر البسيطة، العامية، الشائعة، وهذا يعني أنها تابعة لا متبوعة. كل فكر أو رأي يسمعه الـخوري في سهرة عائلية أو اجتماع أدباء يدوّنه أو يحفظه ثم ينظمه قصيدة من «بنات أفكاره». فالعقائد القومية أو الوطنية الغامضة تنعكس على قصائد رشيد الـخوري بكل غموضها. وحين كان الزمن زمن اعتبار «الشرق» موطناً والشرقيين جماعة أو «أمة»، نظم رشيد الـخوري قصيدة بعنوان «أمة الشرق» جمع فيها الترك والعرب في أمة واحدة جعلها «أمة الشرق»!
في ذلك العهد كان لا فرق بين قولك «أمة الشرق» وقولك «أمة العرب» ولذلك ترى الـخوري قد استعمل القولين؛ فهو قد رأى الشرق كله وطناً واحداً وأمة واحدة ثم عاد فرأى العالم العربي كله وطناً واحداً وأمة واحدة. وفي كل ما نظم من «الوطنيات» لا تـجد فكرة واضحة للوطن أو للوطنية الـمنسوبة إليه. فالوطن له هو حيناً الـجزء الأصغر من الوطن القومي، هو لبنان، وحيناً آخر هو «سورية الوطن» كما في الرشيديات. ولكن الوطنية ظلت لفظة فوضوية شاردة لا تعرف وطناً ذا حدود ولا تعني الانتساب إلى وطن معين. وقارىء قصائد رشيد الـخوري لا يجد فكرة وطنية نهائية ثابتة يستقر عليها، بل هو يجد أنّ الوطنية قد تـحولت عن معناها الأصلي إلى لفظة مرادفة للحرية الـمطلقة، الفوضوية، أو لبغض الغربيين، ففقدت بهذه الصورة كل علاقة لها بفكرة الوطن القومي الـمقصود بها. وبناءً على هذا الاستعمال غير الـمضبوط سميت منظومات الـخوري «قصائد وطنية».
جمع رشيد سليم الـخوري فئة مختارة من منظوماته «الوطنية» في كتاب سماه الأعاصير. لنتناول هذا الكتاب، الذي هو زبدة «الشعر الوطني» الذي وصف به «القروي» وفيه أنضج ما نظم الـخوري في هذا الباب.
نتناول، قبل كل جهة أخرى، الناحية الشعرية. والـحقيقة أننا نقول «الناحية الشعرية» من باب أنّ الشعر قيمة نفسية سامية أدركتها فطرتنا الـممتازة منذ قرون متطاولة في القدم، لا من باب أنّ الشعر موجود في الأعاصير. ففي مجموعة الأعاصير كلها لا يعثر القارىء على غير محاولة واحدة ضعيفة لنسج بردة شعرية. هذه الـمحاولة هي في قصيدة «نكبة الشام». وفيما سوى هذه الـمحاولة لا تـجد أثراً واضحاً للشعر في الأعاصير، ولو شنق نفسه الكاتب الـمصري حسن كامل الصيرفي، أو ندب حظه
أمين الريحاني[4]، أو أعلن نقمته أمير البيان الـمير شكيب أرسلان، أو حملق كثيراً توفيق قربان بعينيه من وراء نظاراته، أو تـحولت فلسفة «الشاعر القروي» القائلة «إنّ الـخلود يكون بواسطة الـمطابع» إلى سراب في الصحراء لضالّ مجهد!
أبدع قصائد الأعاصير «الـحماسية» تبلغ، في العلو، حد التقصيد الزيري، على طريقة تعبير الرفيق وليم بحليس، أو حد «قول» القوالين الـمشهور أمرهم. وإذا كان «القول» يبلغ أحياناً حد الشعر بالـمعاني التي تعطي صورة مجازية جميلة لفكرة أو شعور حقيقي، فإن صفاته الأساسية تـجتمع في الاندفاع في الـمظاهر الوهمية وترك كل نسبة أو قياس بين الوهم والواقع، شرط أن يكون معنى القول مغرياً بـما يفتح من أبواب خداع الوهم الـمجرّد أو يقفل من أبواب البداهة. كل مظهر اعتباطي، مهما كان مبتذلاً أو سخرياً، جائز في القول. وهكذا في الأعاصير وإليك الـمثال:
خذ قصيدته «الرجاء الوطني»[5] التي قصد منها أن تكون شعوراً جميلاً يربط الإنسان بوطنه وهذه بعض أبياتها:
غــرســت بـــلـبـنـــان ورد الأمــــل
فـــقــــل لــــلبرازيـــــل أن تمـحـــــلا
وجــــدت عـــليــه بمــــزن المقـــــل
فـــقـــل لـــلأمــــازون أن يــبـخــــلا
وحــلـيـت قــلبـي «بـنبـع الـعســـل»
فـقــل لــلـيـالي أمــطــري حــنـظــــلا
هذه الأبيات هي «قول» أو «تقصيد» مجرّد من كل صورة شعرية. والصورة التي ترسمها من أسخف ما يـمكن أن تتصوره مخيلة قوّال بسيط. لـماذا يجب أن تـمحل البرازيل إذا كان الناظم قد غرس ورد الأمل بلبنان؟ وما هو الـجمال الشعري في سقي الأمل بـمزن الـمقل وبخل الأمازون؟ وما هي الفائدة الـحقيقية أو الـخيالية وما هو سر الـجمال في سقي ورد الأمل بـمزن الـمقل إذا عز الوصول إلى ماء الأمازون؟ الباكي فوق ورد الأمل ماذا تكون حالته وماذا ينتظر أن تكون نهاية أمله؟ ولـماذا يجب أن يزدري خصب البرازيل وغزارة أمازونها؟ الـمقطع الأخير من الـموشح يقول:
وإن كــاد فُلكـي ببحــر الـدجــى
يــحــطـــم فـــوق صــخـــور الـغـــد
ولم أرَ مـن مـلـتــجــى مـرتجــــى
ولا مــــن يــــد تــتـلــقـــــى يــــدي
شــددت «بصنين» حـبــل الرجــا
وقـــلـــت لموج الأســـــى: أزبـــــــد
البيتان الأولان يـمهدان لصورة شعرية محلقة، ولكن البيت الأخير يسف إسفافاً يولد في نفس القارىء الشاعر خيبة وانقباضاً عظيمين: الـحالة النفسية التي تتطلب مثالاً نفسياً - روحياً من نوعها لا تـجد سوى خاطر مادي، استبدادي، لا منطق يجيز انتهاءها إليه. فلو قال الناظم مثلاً: «... شددت حبل الرجا بتلك القوة الـخفية، العجيبة في وطني التي كتب لها الـخلود» لكان هنالك وجه للرجاء الوطني. ولكن ما هي الـموحيات الفكرية في «صنين» لـجعل الرجاء الوطني يرتبط به حين يكاد فلك حياة الـمرء يحطم فوق الصخور التي تخبئها الأيام؟
هذا الـموشح يدل على أنّ الناظم يريد أن يفرض علينا سخافاته وخصوصياته «الشعرية» فرضاً. فهو هنا كما في قصيدته التي تناولناها في الـمقالة السابقة القائل فيها: «من ذاق شهدك لم يخف من سمّك» يريد أن يكلفنا قراءة الـمنظومات الـمتعلقة بخصوصيات نفسيته. وهي أمور كان يجب أن تبقى بين الناظم ونفسه أو، على الكثير، بينه وبين خلانه الذين يشاركونه في مستوى أفكاره ومُثُله وفي إحساساته ومطالبها.
ماذا يهمنا نحن أو يفيدنا إذا شدّ رشيد الـخوري حبل رجائه بصنين أو بحرمون أو بجبال العكام (أمانوس)؟ وماذا يهمنا من استغنائه بدمعه الهاطل على ورد أمله عن أمواه الأمازون؟ وهل بلغ بهذا الناظم السخف حد تصور أننا مثله عاجزون عن سقي ورد أملنا في وطننا بغير دموعنا؟ أوليس عندنا نهر أدونيس (إبراهيم) الغني بأساطير الـحياة، ونهر العاصي ونهر دجلة ونهر الفرات ونهر الأردن وغيرها من أنهرنا نسقي منها سهول آمالنا الـموُجِدة الـخصبة، حتى نقف كالنساء اللواتي أسقط في أيديهن نبكي على ورد أمل غرسناه لنعتز به، لا لنهان ونتعرض للشماتة؟
وماذا يهم العموم من محللات رشيد الـخوري ومحرماته حتى ينظم للناس كيف أجاز لنفسه انتهاز فرصة ضعف فتاة وغلبها على أمرها غير مبال بسمّ غضبها ما دام يتمكن من ذوق شهدها؟ أليست هذه حالة من حالات فساد الفكر التي يصورها الـمعري الـخالد أوهمت الناظم أنّ قطر السرى درٌّ يحسن أن يعرضه على الناس؟
في الأعاصير قصيدة بعنوان «الشهداء»[6] مطلعها تكلف ظاهر وقول عادي وهذا هو:
خـيـر المطـالـع تسليم على الشهدا
أزكــى الصـــلاة علـى أرواحــهــم أبـــدا
والـخوري يحاول فيها بلوغ الشعر بكل وسيلة فينتقل إلى الـمجاز ليبرز صورة شعرية ويقول:
بـل علّقوكم بصدر الأفق أوسمـة
مـنهــا الثـريــا تــلــظّـى صــدرها حـســدا
ولكننا لا نـجد ظاهرة واحدة أو شكلاً يرمز إلى تلظي صدر الثريا حسداً. وإخراج الرمز يظل منوطاً باجتهاد كل قارىء في تخيل الصور والأشكال.
وهنالك قصيدة في «وعد بلفور» لا تختلف عن قول القرادي في شيء. تأمل هذه الأبيات:
الحـــق مـنـك ومـن وعـودك أكبر
فــاحســب حســـاب الحــق يـــا مـتـجـبــر
تـعــد الـوعــود وتقتضـي إنجازهـا
مـهــج الـعـبـــاد خسـئــت يــا مسـتعـمــــر
لو كنت من أهل المكارم لم تكن
مــن جيــب غيــرك محسـنــاً يـــا بـــلفــــر
إلى آخر القصيدة. وفيها أبيات قرادية تخرج عن كل فكر جدي كهذه:
أمـــا وقـــد خــلــع المرائـي ثوبــه
فــليــخـــلـعـــنّ الــغــمـد هــــذا الأبــتــــر
ولــيــلــبســنّ الأرجــوان غـلالـة
تــطـــوى عـلــى هـــام الـرجــال وتـنـشــر
ولـتـعــركـــنّ الـظــالمين سنابــك
حـــتـــى يـــحــجّــبـهــم دم لا عـــثــيــــر
وهي، لفقد كل نسبة صحيحة فيها إلى حقيقة الـموقف، لا ترسم غير صورة «دنكيخوطية» [Don Quixote] تدعو إلى الهزء والسخرية. وقس على ما تقدم ففيه كفاية لتبيان قيمة منظومات رشيد سليم الـخوري من الوجهة الشعرية.
ولا بد، قبل ختام الكلام على هذه الناحية، من ذكر أنه يوجد في قصيدة «الشهداء» ظل لصورة شعرية هي من إبداع الوطني الكبير الـمرحوم الدكتور خليل سعاده، الذي أنذر الـمستعمرين بالهلاك فتهكّم على سعيهم، وناداهم أن يبادروا إلى نقش آثارهم إلى جانب الآثار التي نقشتها على صخورنا الأمـم البائدة.
نترك، عنـد هذا الـحـد، الناحيـة الشعريـة ونتنـاول ناحيـة الروحيـة الوطنيـة في قصائـد الأعاصيـر.
الروحية السائدة في القصائد الـمذكورة، كما في غيرها في قصائد «القروي» الوطنية، هي روح النوح والبكاء والندب والصخب والزحير. روحية رازحة، عاجزة، يائسة، لا تـملك أمرها ولا تدرك موقفها. روحية أكثر ضعفاً وأقل ثقة من روحية عاموس اليهودي بعد أن ضرب ملك دمشق، هدد عزر، اليهود ضربة عظيمة. روحية لعنة لشعبه ووطنه لا ترى بعثاً ولا أملاً.
يـمكن الشعور بهذه الروح من أول الكتاب. أنظر البيتين اللذين أهدى بهما الكتاب إلى «شهداء الوطنية»:
يـــا رفــاتــاً تــحــت الـرمــال دفينــا
مـبـعـــداً، عــاطـــل الــرُّمــوس نــسـيّـــا
لــك أهـــدي هــذا الـكتــاب لأنــي
لم أجــــد فـي الــبـــلاد غــيـــرك حــيّـــا
فهو لا يهدي الكتاب إلى الشهداء من أجل نبالة تضحيتهم، بل يهديه إلى رفاتهم لأنه لم يجد حياة في شيء غيره!
وهو لا يقصر هذا الـمعنى القاتل الأمل على الـحاضر، بل يتناول به الـمستقبل أيضاً في قصيدته «الشهداء» في الصفحة 59 حيث يقول:
تــلــك الجبــابــرة الأبطال ما ولدت
للــحــرب أمـثـــالـهــم أُمٌّ ولـــن تـــلـــدا
وترى أنه جعل من تقدير الشهداء الـمقصود مدحهم وسيلة للحط من الأبطال الذين تقدموهم. وهكذا محا الناظم الـماضي ودفن الـحاضر وأعدم الـمستقبل. وأين هذا القول الزري، في معرض الاعتزاز والفخر، من قول القائل: «إذا مات منا سيد قام سيد» الذي يرفع الـمعنويات ويقوي ثقة الـمرء بـمستقبل قومه وحسن مآلهم؟ فإذا كانت الأمهات لم تلد ولن تلد أمثال أولئك الأبطال فبأي شيء يكون رجاؤنا للغد؟ أبحبل رجاء رشيد الـخوري الـمشدود بصخور صنين؟!
وإليك هذا الـمثال على العجز واليأس:
يـدعـوك شـعبـك يا صلاح الدين قم
تـــأبـــى المــروءة أن تــنــام ويـســهـــروا
فالناظم لا يرى أملاً ولا مقدرة في غير قيام صلاح الدين من قبره. ولا يـمكن أن يحمل هذا البيت على محمل رمز إلى ما سيجيء بسبب ما يليه وهو:
نســـي الصـليـبـيـون مــا عــلّمـتـهــم
قـبـل الـرحـيـل فـعـد إلـيهــم يـــذكــــروا
ريـكــاردس أدرى بـسـيفـك منـهـمــو
فـــليـســـألـــوه لـعـــلـــه لا يــنـــكر
وعلى افتراض أنّ هذه الأبيات رمز، وهو ما لا وجه قياسي أو منطقي لافتراضه، فبئسما هو هذا الرمز، الذي مغزاه الرجعة إلى القديم. وهذه الروحية الرجعية، التي هي نتيجة روحية العجز واليأس، تتجلى بـمظاهرها الباهرة في القصيدة الشائنة «تـحية الأندلس» في قوله:
فــــإذا بـغــداد عـــادت كــالقــديــــم
مــوطـــن الشــعــر وديــوان العـلـوم
وإذا رنّ بـــهـــا عـــــود الــنـــديـــــم
مــرجـفــاً بالحــب أعصـــاب النجوم
الرجوع إلى الـماضي وصوره. هذا شأن جميع العاجزين عن الإنشاء والإبداع والتقدم والارتقاء. وقصيدة «تـحية الأندلس» الـمعيبة تـحتاج درساً خاصاً سيأتي. والعجز والقنوط والشكوى تظهر بوضوح في قصيدته على غلاف الأعاصير:
إلـــهــــي ردّ مــــا لـــك مــــن أيــــاد
عــلــــى وطــنــي وردّ لـــه الأيــــادا
خــلــعــت عـلــى ربــاه الحســن فــذا
وألـبـســت الـقـطيــن بــــه الحـــدادا
فهذان البيتان ليسا إعلان ثقة بالله من قبل مجاهد عزوم، بل هما ضراعة يائس عاجز عن إدراك الأسباب. فهو يقول إنّ الله هو الذي قضى بإلباس مواطنيه الـحداد بالـمرتبة عينها التي قضى فيها أن يكون وطنه جميلاً. إذن فالأسباب كلها من عند الله ولا يـمكننا أن ننتظر شيئاً إلا أن يلبسنا الله الأثواب الزاهية بدلاً من الـحداد، فهو وحده على كل شيء قدير بذاته. ولا يكفي أنه خلقنا وأعطانا من الـمواهب بقدر ما أعطى غيرنا وأكثر، وأنه يعيننا إذا توكلنا عليه في خطة وسعي وجهاد. ثم إنّ الناظم يتحول، في عجزه وبعد ضراعته اليائسة إلى «شبول الأرز» ويطلب منهم أن:
فــكــونــوا الــنـار تحــرق أو قـذى في
عــيـــــون الـبُطـــل إن كـــنتــم رمــــادا
والناظم يريد أن يوهمنا أنّ مناداته حمية. وقد يكون هنالك من حسبها حمية. ولا وجه لهذا الاعتبار، لأن الناظم لا يدل «شبول الأرز» على الكيفية التي يصيرون بها ناراً تـحرق، ولا على الطريقة التي يكونون بها قذى في عيون البُطْلِ متى كانوا رماداً لا في هذه القصيدة ولا في غيرها. فصيحته صيحة عاجز، خامل، يخبط على غير هدى ويستعمل كلاماً في غير موضعه، كما وضع لقصيدة في فتاة إنكليزية عنوان «صيحة للجهاد» وهي قصيدة لا صيحة فيها للجهاد أو لغيره وإنـما جرى فيها ذكر وجود صيحة للجهاد في كل مكان غير القصيدة!
تطل علينا روحية الزحير والعيّ والقنوط في عدة أماكن من الأعاصير. وتكاد مظاهر هذه الروحية اليهودية تكون نسخة طبق الأصل عن روحية عاموس أو إرميا. فالناظم يهدد الأعداء بقوة الله ويشتم ويلعن، شأن كل عاجز:
يــا ربــــة الــدأمـــاء مهمــا تـكـثـــري
عـــدد السفيــن فــعنــد ربــــك أكـــثــر
....
هـــدّدت بالأسـطــول أرواح الـــورى
إن كـنــت مـنــذرة فـفـــوقـــك مـنـــذر
وإنك ترى السباب واللعن في أقبح صورة في قصيدة «مآسد لا مراع»:
فـكـنــت لئيمــة حــــربـــاً وســـلـمـــاً
كـــلــؤمـــك فـي الـغــرائــز والطـبــــاع
....
عـــرضـــت الشــام مــوطـنـنـا لبيــــع
كــــأن الـشـــام عــرضـــك يــا لكــــاع
نقف عند هذا الـحد في إظهار الروحية السائدة في منظومات رشيد سليم الـخوري «الوطنية» بصورة عامة، على أن نعود في ختام هذا الـموضوع إلى تناول قصيدته الـمجرمة «تـحية الأندلس». وننتقل الآن إلى ناحية أخرى هي ناحية الفكر.
هاني بعل
للبحث استئناف