قد يذكر القارىء أني قلت في مقال نشر في عدد متقدم من الـمجلة إنّ النزعة التي سيطرت على عهد تنبُّهنا الأدبي الأول كانت نزعة »فحولية«. وقد كانت هذه الصفة العربية الأصل صفة مدح عند العرب. فهي مشتقة من الـجمل الفحل وكان ولا يزال شيئاً جميلاً جداً عند العرب أن يقلّد الشاعر والـخطيب »الفحل« فيهدر ويطلق »شقشقة لسانه« كما يفعل الفحل. والسوريون الذين كانوا قد فقدوا صلتهم بأدبهم القديـم ونفسيتهم الظاهرة في آثارهم العمرانية والفنية وأساطيرهم الـميثولوجية استفاقوا مـما منوا به من خمول بتأثير الـحروب الكثيرة التي كانت بلادهم مسرحاً لها، وكان أول شيء وقعت عليه أعينهم كتباً قليلة مبعثرة هنا وهناك خلَّفها عهد النزعة العربية التي بذل السوريون جهداً كبيراً لإكسابها عمق نفسيتهم وسموّ عقليتهم فلم ينجحوا إلا في العهد الأموي، وكان عهداً قصير الأمد لم يتمكن من استغراق الروحية السورية، فلما جاء العهد العباسي قلَّ التأثير السوري وكثر التأثير الفارسي. والآن بعد قرون من الانفصال نلقي نظرة على النفسية السورية و »الأدب العربي« و »الـمدنية العربية« فنرى أنّ ما أخذه العرب من كنوز الـمدنية السورية أخذوه قطفاً، خطفاً فلم يتأثروا به إلا تأثراً سطحياً، لأن مزاجهم الـحاد الـمكتسب من طبيعة بلادهم الـحارة ذات الرمال الـمحرقة لم يكن ليتفق مع هدوء النفس السورية النامية في محيط معتدل لطيف تتغير فصوله تغيّراً منتظماً فلا ينزعج الفكر في مجراه ولا تضطرب النفس في طمأنينتها. ولو أنّ العهد الأموي طال، ورسخ الـمُلك في سورية لكانت النفسية السورية استطاعت أن تليـن من جفاف النفسية العربية وأن تكسبها العمق النفسي والسمو الفكري الـمجتمعيـن في النفس السورية. ولكن العرب تقلّبوا في الـمُلك كما تقلّبوا في الـحالات النفسية وكان طبعهم القديـم مخالفاً للعمران والاطمئنان إلى راحة الضمير، فما أنشأوا شيئاً حتى انتقلوا منه إلى غيره، ولم ينشئوا شيئاً من العمران استطاع البقاء كبعلبك وتدمر وبيبلوس [جبيل] وغيرها من الآثار السورية الـحاملة صفة الطموح إلى الـخلود واعتناق الصفات الـخالدة إلاّ قليلاً ضئيلاً. فانفصلوا عن سورية وظلت لهم نفسيتهم وبقيت للسورييـن نفسيتهم.
ومرّت على سورية أحقاب كانت مليئة بالـمصائب والنكبات فشغلت الأمة بتقلبات الـحوادث عن الـمثال الأعلى، وكانت اللغة القومية الـجديدة قد طمّت على اللغة القومية القديـمة وحالت بيـن النفسية السورية وبيـن مُثُلها العليا الـمتجلية في رموزها الإلهية القديـمة كرمز الإله أدونيس الذي تُفسَّر أسطورته بنظام الـحياة النباتية، إذ يذهب أدونيس إلى برسفون إبنة زيوس فيكون الشتاء وكمون البذور ثم يعود إلى أفروديت (عشتاروت أو عثرعاذه السورية إلهة الطبيعة) إلهة النبات ويجلب معه الربيع والصيف، فصل النمو والأثمار.
هكذا كانت رواية الـحياة التي مثّلتها الآلهة السورية بيـن سهل جبيل وهضاب لبنان شعرية، فنية، روائية، إلهية - شعرية في دقة معانيها، فنية في روائها وسحرها، روائية في جمال مشاهدها وأسرارها، إلهية في كمال موحياتها وبهجة إلهاماتها. من أسطورة الإله أدونيس بن تاياس الـملك السوري العظيم يدرك الـمرء الدرجة الرفيعة من الـجمال التي تبوأتها النفسية السورية ومنها اكتسبت النفسية الـمصرية إلهها أوزوريس والنفسية الإغريقية الإله السوري نفسه.
زفاف أدونيس إلى برسفون فراق ووحشة وفراغ وأسى: الشتاء البارد العاري. وزفافه إلى أفروديت عرس وفرح وامتلاء وبهجة: الصيف الـمنوّر الـمثمر، الـممتلىء حياة! هذه هي الرواية السورية الإلهية للكمون والنمو والإنتاج، هذه هي الأسطورة الـجميلة التي جمعت بيـن سر الكمون والاستتار وعلانية الـحركة والظهور، بيـن سمو التفكير وعمق الشعور. وهذه هي النفسية السورية ببساطتها وغرابتها.
وإذا أجلنا نظرنا في الـميثولوجية السورية وجدنا مظهراً آخر من مظاهر النفسية السورية الـجادة في العمران، هو الـمظهر الذي خُصّت فيه الـمرأة السورية ببطولة العمران، هو مظهر حجر الـحبلى الذي اقتطعته من مقلعه إمرأة سورية كانت حاملاً ثم ألقته لدنوّ مخاضها، فبقي حيث هو قرب هياكل بعلبك ليخلّد للمرأة السورية أعظم نصيب من العمران! هذه هي النفسية السورية في صورة أخرى.
الإنتاج والعمران صفة امتاز بها السوريون وأتوا على يدها بأعمال عظيمة قيل إنها من أعمال السحر والـجن، يشهد على ذلك قول النابغة في تدمر:
ألا ســـلـيـمــان إذ قــال الإلــه لــه
قــم فـي البــريــة فــاحــددها من الـفـنـد
وجيـش الـجـنّ إنـي قد أذنـت لهم
يـبـنــون تــدمـــر بالصــفــاد والـعــمــد
فتابع الذين وهموا أنّ سليمان اليهودي بنى تدمر بأمر الإله الذي سخّر له الـجن لبنائها. وبديهي أنّ النابغة لم يكن مؤرخاً ولا قاصداً الـحقيقة التاريخية لبناء تدمر العظيمة، بل أراد إبداء إكباره ذلك البناء الفخم، ولو كان النابغة شاهد بعلبك في أوجها لـما شك في أنها عمل جند الله أو جبابرة خصّهم الله بـمقدرة لا تضاهى خصوصاً حجر الـحبلى الذي اقتلعته امرأة سورية حامل أو أم ولد (على ما جاء في رواية أخرى ولعل هذه الرواية هي الأصح).
الإنتاج والعمران هما الـحياة للسوري وهو لا يعرف للوجود قيمة أو معنى إلاّ بهما. وهذه الـحقيقة تُعرَف عن السورييـن الذين عاشوا قبل التاريخ الـمعروف، كما تعرف عنهم بعده. فالتمدن قديـم جداً في سورية. والأجيال البشرية التي حَيِيَتْ هنا قبل التاريخ كانت أرقى في الإنسانية من معاصرتها الأوروبية كما ثبتت حقيقة ذلك من الآثار العادية الـمكتشفة حديثاً. ومنذ ذلك الزمان البعيد والنفسية السورية تزداد رسوخاً في الـمدنية حتى تـمكنت من التأثير على الأمـم التي حولها، وإعطائها عدداً من الآلهة الرامزة إلى نظام الـحياة وتقديـم موارد ميثولوجيّة لا نضوب لها للإغريق والأساطير الإغريقية، حتى ليمكن القول إنّ الإغريق يقفون بقسم كبير من مدنيتهم على أكتاف السورييـن!
فتح السوريون أعينهم بعد تقلبات الدهر وصراع الأيام، فما وقعت إلا على كتب قليلة من »الأدب العربي« فكانت هذه الكتب الـمستند الوحيد الذي لـجأوا إليه، وما أوهاه مستنداً! أبيات من الشعر تارة تـمثّل الشعور الـجامح (الـحماسة والفخر) وطوراً تـمثّل الإحساس الـمنفعل تـحت تأثير عامل قوي (الغزل والتشبيب) ونـماذج من الكرم البدوي والـحلم السخيف وبعض أخبار قواد العرب وأمرائهم، وهذا كان كل الثروة الروحية التي ورثوها عن العرب. أما حقيقتهم هم وثروتهم الروحية الكبيرة فلم يكن لها ذكر البتّة. كان من وراء ذلك أنّ السورييـن توهموا أنّ هذا الـميراث الضئيل هو ميراثهم الوحيد، وأنّ البكاء على الطلول والتغزل والتشبيب تتضمن الـمثال الأعلى الذي عليهم أن يحققوه. فحدا كثيرون منا العيس وبكوا على الأطلال في شيء كثير من الانخداع. وأما أدونيس إله »نظام الإنتاج« وأتارغاتس إلهة »قوة الإنتاج« فلم يكن لهما ذكر عندهم، ومرَّ منهم نفر بحجر الـحبلى الـمطروح على بعد قليل من هياكل بعلبك، ولكن سرعة الـمزاج العربي في التنقل شغلتهم عن التعمق في فلسفته فلم يروا فيه إلا الـحجر الضخم!
ولكن النفسية السورية ما لبثت أن ابتدأت تتململ في ذلك النطاق الأدبي الضيق تـململ السجين في سجنه. ابتدأت تشعر أنّ هذا الأدب يقيم حاجزاً بينها وبيـن الـحياة ونظام الـحياة وقوة الـحياة - بينها وبيـن أدونيس وتاياس وأتارغاتس وعشتروت وحجر الـحبلى!
أخيـراً جاء دور الاتصال بالغرب والآداب الغربية فلمس السوريون في هذه الآداب آثاراً من أساطيرهم السابقة ومثلهم العليا، وسرعان ما تـحوّل الفكر السوري الـجديد عن الانقياد إلى الـمثل العليا الضئيلة التي خلَّفها الأدب العربي، إلى البحث عن الـمثل العليا الـمعبرة عن حقيقة النفس السورية، فعثر بعضهم في أثناء تنقيبه على أثر من
تلك الـمثل الضائعة في »الزهرة وأدونيس« لشكسبير[1]، ومرَّ آخر بأبيات ملتـن الـخالد التي يشير فيها إلى حكاية تخضُّب نهر أدونيس (نهر إبراهيم اليوم) مرة كل سنة بدم أدونيس الذي جرحه خنزير بري كان هو يطلب صيده في هضاب لبنان:
“While smooth Adonis from his native rock, Ran purple to the sea, suppos’d with blood of Thammuz yearly wounded.”
و»تـموز« ليس إلا اسماً آخر لأدونيس. ورأَى ثالث في جملة ما رأى نبذة تاريخية لسورية عرف منها أنّ سورية أقدم من الفتح العربي والعصر العربي، وأنّ لها أدباً وأساطير قديـمة تتجلى فيها النفسية السورية بحقيقتها. فابتدأ حينئذٍ الفكر السوري يستعيد استقلاله الذي تشعر به في كل ناحية من نواحي الأدب السوري الـجديد، وزال الوهم أنّ الأدب العربي يـمثّل النفسية السورية.
وهكذا نرى أنّ الأدب السوري قد بُعث ليكون مرآة نقية تنعكس عنها الصورة الـحقيقية لـمكنونات النفس السورية، وقد ابتدأت طلائع هذا الأدب في مؤلفات جبران والـجداول والـمراحل وعلى بساط الريح والأحلام وفاجعة حب وفي عدد غير قليل من الـمؤلفات الأدبية والـمرسحية. وحدثت جدة في الفنون الـموسيقية والتلوينية فصار لنا بداءة أوبرا ومنظومات موسيقية جديدة وصور ملونة لـملونيـن يظهر فيهم الذوق السوري.
ولسـت أدري في أي مـؤلـف من الـمؤلفـات التي ذكـرتها في الفقـرة الـسابقة قرأت هذه النبوءة »سيجيء اليوم الذي تصير فيه النفسية والعقلية السوريتان الغنيتان بـمواهبهما الطبيعية معينيـن ينهل منهما الأدباء وأهل الفنون والعلماء والفلاسفة الذين يخرجون من صميم الشعب السوري.«
إنّ في بساطة هذه العبارة، التي تبدو للقارىء عادية، تعمقاً نفسياً غير عادي. إنّ فيها حقيقة تلمس ذلك السر العجيب الذي رافق الروح السورية منذ القديـم وجعلها تتحرك وتنهض من بيـن أنقاض الزمان!
إنها تعني بعث الأدب السوري الذي سيستخرج حقيقتنا من داخلنا ويضعها أمام أعيننا وأمام العالم فنفهم أنفسنا ويفهمنا العالم!
»مفكر حر«