قلّما شهد العالم تـحوُّل أمور كانت في بدئها لطيفة جميلة إلى عيوب ومفاسد خطِرة على الهيئة الاجتماعية كما تـحوّل الرقص إلى ذلك.
لا يُدرك هذه الـحقيقة إلا من بحث عنها في دور الرقص، خاصة كانت أو عامة، زاجاً نفسه بيـن الراقصيـن والراقصات، مازجاً نفسه بينهم حتى يصير كواحد منهم. فإذا تـمكن من ذلك كله وقف على حقائق، مجرّد سردها يـملأ القلوب النقية رعباً واشمئزازاً. فالـمراقص أصبحت اليوم عبارة عن أماكن يقامر فيها الـمرء بـماله وحياته، ولا يخرج منها إلا خاسراً أحد هذين الأمرين أو كليهما.
في نيويورك اليوم لا أقل من 768 دار رقص حائزة على إذن من الـحكومة، ويُقدَّر عدد الإتيان للرقص فيها بـملاييـن عديدة من الـمرار. وفي الـمدن الكبيرة في العالم الـمتمدن كله ما يشابه ما في نيويورك من الـمراقص. وفي كل مرقص من هذه الـمراقص يجري من الأمور الـمعيبة الـمخجلة ما يُعدَّد منها ولا تعدَّد من تعاطي الـخمر حتى تـحمرّ مآقي العيون، ويلتهب الدماغ، والتجاذب والتدافع بيـن الراقصيـن، إلى الـمخاصرة والـمداعبة والتدلّي إلى أحط درجات البهيمية والـحيوانية. هناك يقف الإنسان أمام مشهد مؤلم جداً من مشاهد الـحياة التي يحياها الـمتمدنون كلهم، لا فرق بيـن صاحب القصر منهم وصاحب الكوخ أو بيـن الكبير والصغير اللهم إلا الذين اختطّوا لأنفسهم طريقاً خاصة شذُّوا بها عن طُرُق أبناء جنسهم ومدنيتهم، فهؤلاء لهم حياة مستقلة وهم قلال.
في الـمراقص الـمشار إليها، الرقص أصبح فنّاً تـجري فيه اختراعات عظيمة. وبعض هذه الاختراعات ما يُقصد منه إحداث تشنجات عصبية في الراقصيـن، والبعض يقصد منه إحداث تخدير في الدماغ إلى غير ذلك. فيرى الرجل الطبيعي الداخل إلى تلك الـمراقص لأول مرة أنـه قد انتقـل كما بسحر سـاحر من العـالم الـذي يعيش فيـه إلـى عالم آخر من عوالم الـخيال الـمملوء بالعجائب والغرائب. فمن نساء أكثر من نصف عاريات قد استلقيـن على كراسي أو مقاعد مائلة إلى الوراء يغازلن أو يخادعن شباناً قد عطفوا وانحنوا عليهن يبادلونهن نظرات وعبارات كلها مغازي شهوانية، إلى نساء ورجال يقعن هنا وهناك من شدة السكر والعياء، إلى نساء ورجال قد ملأوا الكؤوس وجلسوا يتعاطون الـخمر ويسكرون بيـن هزيج وصياح، إلى فتيات مـمسكات أيدي شبان تدل ملابسهم على أنهم من ذوي اليسار يقتدنهم إلى مخادع وسراديب داخلية يخرجون منها فاقدي الشعور فاقدي الهدى فاقدي الـمال وكل شيء آخر إلا الـملابس.
في بعض الـمراقص الاعتيادية قد لا تبلغ الـحال هذه الدرجة من الفحش والفجور الهائليْـن، أما في الـمراقص التي يطلق عليها اسم »الـمراقص الـمقفلة« فإن تـجارة الفحش والسلب تبلغ فيها حدها الأقصى. ولقد اطّلعنا في إحدى الـمجلات الأميركية على وصف معتدل موجز للمراقص الاعتيادية والـمقفلة، لا نقول فيه إلا أنه وصف فتاة هي الآنسة لامبيـن، فآثرنا تعريبه لـما فيه من العبرة والفائدة. وهو ما يأتي:
»لقد قام في الـمدة الأخيرة كثير من التعنت والاشمئزاز ضد بعض أمور دور الرقص، مثل الرقص الشهواني وتعاطي الـخمر، مـما يسهل معه حدوث التعارف غير الـمميز وغير الـمحدود. ولكن، إنصافاً لدار الرقص، يجب التنبيه إلى أنّ هذه أوصاف متعارفة عند كل طبقات الهيئة الاجتماعية. فلا يسهل ملاحظتها في دار رقص كبيرة أكثر مـما يسهل ذلك في بيوت وفنادق الطبقة العليا، بل هي موجودة في الـمكانيـن. بناء عليه يظهر أنّ دار الرقص ليست في حد ذاتها السبب الـمباشر لذلك، ولكن الأرجح أنّ الأمور الـمتقدمة ناشئة عن تأثير أحوال تعمل في هيئتنا الاجتماعية.«
ومـما جاء للآنسة الـمذكورة في وصف »الـمراقص الـمقفلة« ما يأتي:
»تُستأجر الفتيات هنالك على أساس »القومسيون« لكي يرقصن مع الرجال الزبائن. والقاعدة الـمتّبعة هي أن لا يُسمح لغيرهن من الفتيات بالدخول، أو إذا سمح بذلك فالقادمات لا يرحّب بهن على الأقل. ودار الرقص في هذه الأماكن منفصلة لا يـمكن الوصول إليها إلا من باب معيـن أو أكثر. ويدفع للدخول ما يتناول ست أو ثماني رقصات ومن ثم يجب أن يُدفع لكل رقصة عشرة »سنوت«، وفي بعض الأحيان يُدفع ربع ريال أو خمسة وعشرون سنتاً لكل رقصتيـن. أما الرقصات فقصيرات الأجل تتراوح الواحدة منها بيـن الأربعيـن والستيـن ثانية، وفترات الراحة تكون ثلاثيـن وأحياناً ستيـن ثانية. ويكون هنالك جوق موسيقي واحد عادة ونوع الـموسيقى ليس في درجة موسيقى قصور الرقص. والانتفاع أو الربح يكون من الزبائن والفتيات الـمشتركات في الرقص معاً.
»يجب على الزبائن أن ينفقوا رياليـن أو ثلاثة على أي عدد معقول من الرقصات. وليس من الشذوذ أن يُنفق الواحد منهم خمسة أو ستة ريالات في سهرة واحدة. أما الفتيات فيدفع لهن أربعة »سنوت« عن كل رقصة أو خمسة »سنوت« إذا كنَّ يقمن بعملهن ليلتي السبت والأحد. ولكي تتمكن الواحدة من هؤلاء الفتيات من كسب معاش معتدل، افترض عشرين ريالاً في الأسبوع، يجب عليها أن ترقص 400 رقصة في الأسبوع أو نحو سبعيـن رقصة كل ليلة.«
إلى هنا انتهى الكلام عن الـمراقص العمومية والـمقفلة، وجاء دور الكلام عن الـمراقص التي يطلقون عليها اسم »كباريه«. وهذه الـمراقص أعلى طبقة من حيث الفن من التي تقدمتها، وفيها من النظام والدقة في وضع الاشراك للزبائن ما يقضي بالعجب العجاب كما سترى:
»يستـأجـر »الكبـاريـه« الواحـد عـدة فتيات يطلق عليهن اسم »مضيفات«، وواجباتهن هي أن يعملن كل ما يؤول إلى انشراح القادميـن من الـخارج. للمضيفة الواحدة أن تعمل أحد عمليـن، فهي إما أن تـجعل عملها إبقاء القادميـن بعيدين عن الناس »الـمغلوطيـن« أي الـمقامرين والذين على شاكلتهم، وإما أن تقوم هي نفسها بتعريف تلك الطبقة الدنيا إلى الزبائن الأغنياء وذوي الـمراكز الذين يؤخذون إلى حيث »يُنظفون« ويبتزهم أولئك ما معهم، والـمضيفة تشترك في الغنيمة.«
ويجاري هذه »الكباريهات« في العيوب »كباريهات« الـمطاعم التي جاء في وصفها ما يلي:
»تـجـذب هـذه »الكباريهـات« إليها زبائن من نصف دائرة اجتماعية كبيرة. ومـزيـة هـذه الأماكن هي في أنّ الشبان والشابات يتمكنون فيها من الانزواء عن القاعات التي تُضيّق عليهم في الأمور التي يأخذون بها عادة. هنا يـمكنهم أن يُحبوا بلا فرق أو تـمييز وأن يدخنوا وأن يعقدوا اتفاقات ويضربوا مواعد. وهم مغرمون بإعطاء أسماء غير حقيقية عن أنفسهم عندما يسألون. بيـن الفتيات منهم بنات مدارس وتلميـذات كليـات وكـاتبـات على الآلـة الكـاتبـة وسكـرتيـرات ومستخدمات في الـمخازن وغيرهن. وبيـن الشبان تلاميذ كليات وتلاميذ مدارس وقائمون بالـخدمة الـجندية وذوو ألقاب غريبة. وبعض الأحيان يُرى هنالك ما يشبه شمامسة الكنيسة القادميـن من الداخلية (لاشغال).«
جاء في تقرير نشر حديثاً في الولايات الـمتحدة أنه يجب إبطال النغم البطيء لأن هذا النغم هو الـمسبب لكثير من الرقص الشهواني. ويقال هنالك إنّ اللوم يقع على الـجهة التي يُنتظر منها مثال حسن، لأنه ما زالت الفتيات تطالع كثيراً أخبار الرقص كل الليل في نوادي الضواحي والفنادق العمومية والـمطاعم في الـمدينة والاجتماعات الأخرى التي هي من هذا النوع، تظل التصورات السيئة تفعل فعلها في الفتاة غير الـمبالغ في صيانتها إلى أن تقودها أخيراً إلى السقوط في تـجارب خطرة.
نـمسك القلم الآن عن التمادي في وصف الـحالة السيئة التي بلغتها الهيئة الاجتماعية بواسطة الرقص مكتفيـن في ذلك بـما تقدم، وننتقل إلى تعليل تلك الـحالة مبتدئيـن بسؤال بسيط وهو: هل الرقص مسبب للفساد أم الفساد الأخلاقي في الهيئة الاجتماعية مسبب للرقص؟
لا نحاول بهذا السؤال أن نفرّق بيـن الرقص والفساد الاجتماعي، فعلاقة الواحد منهما بالآخر علاقة متينة جداً. ومن يقول هلمَّ نرقص كأنه يقول هلمَّ نفعل شيئاً فاسداً لأن الرقص لا يـمكن أن يكون بلا فساد، إذ ما معنى الرقص من الوجهة الاجتماعية؟
إذا أراد شاب أن يتعرف بفتاة كائنة من كانت فإنه يذهب إلى نادي الرقص، وهناك يتعرف بفتيات كثيرات يـمكنه أن يتخذ منهنَّ ألاعيب للتسلية. وإذا أراد شاب أن يخـدع فتاة ما ويجعلها تستسلم إليه، فإنه يدعوها إلى الرقص منتهزاً هذه الفرصة لتطويق خصرها والتأثير على عواطفها بصورة قد لا يتمكن منها بدون الرقص. وما يقال عن الشاب من هذا القبيل يقال عن الفتاة. فبيـن الفتيات كثيرات لا همّ لهنَّ إلا التعرف بشبان يـمكنهنَّ الاجتماع بهم و»تـمضية الوقت« معهم، غير حافلات بـما يكون عليه أولئك الشبان من الأدب أو الفساد الأخلاقي.
إذاً الرقص هو الفعل الفاسد الـمعيب، والقصد منه أن يكون وسيلة اجتماع شخصيـن أو أكثر للقيام بضروب الـخلاعة والفحش، لا للحب كما يحاول الراقصون التمويه على الناس. لأنه لا يـمكن الـحب مطلقاً أن يتدلى إلى هذه الدرجة الـمنحطة. أما فاعل هذا الفعل فلا بد أن يكون قد أقدم عليه بدافع الـجهل والطيش والاغترار وما شاكل. وأما الذين يقع عليهم الفعل الـمذكور وهم بيـن هزل وجدّ، فهم أولئك الذين يقادون أو يساقون إلى الـمراقص متورّطيـن من أصحابهم أو معارفهم غير حاسبيـن لـما يفعلون حساباً.
قد يكون في بعض الـمراقص أو الـحفلات الراقصة شيء من الـمحافظة على الأدب. ولكن هذا لا ينفي بصورة ما كون الرقص أمراً فاسداً. فإذا قيل إنّ الرقص لا يكون كذلك إلا عند أشخاص »ساقطيـن«، فلا يستطيع أحد أن ينفي أنّ الرقص أكثر أمور الدنيا إغراءً للفتى أو الفتاة على ارتكاب الـمفاسد لـما يُحدثه من التأثير الغريب على عواطف الواحد منهما، حتى لا يعود في استطاعته امتلاك نفسه وتـحكيم عقله في ما هو مُقدِم عليه. والإنسان ليس من فولاذ كما يقولون. فقوة الإرادة مهما كانت صلبة تزول تـحت ضغط الـمؤثرات الـمتوالي والتعرض الـمستمر. والـحكيم ليس من يتعرض للتجارب الـخطرة معتمداً في دفع أذاها على قوة إرادته، بل الذي يستعمل قوة إرادته للتغلب على دوافع التعرض لـما فيه خطر وقمع ثورة الشهوات وهي في الـمهد.
نعتقد أنّ الرقص العامل الأساسي في إبلاغ الطلاق في الولايات الـمتحدة الـحد الذي بلغه الآن. يتزوج الرجل في الولايات الـمتحدة، ولكنه لا ينقطع عن الرقص وكذلك الـمرأة. وكثيراً ما يعقد هنالك زواج رجل وامرأة رأساً بعد سهرة رقص، فلا يـمر عليهما بعض الوقت إلا ويضطران إلى الانفصال، وهذا كثير الـحدوث. ولا يندر أن يقود الرقص امرأة غير مطلقة إلى التزوج من رجل آخر تكون قد تعرفت به في بعض دور الرقص، وهو ما وقفنا على أخبار كثيرة مثله حيـن كنا في نيويورك منذ نحو ثلاث سنوات ونصف. وبعض الأحيان يحمل الرقص الـمرأة على التزوج نحو عشرين مرة أو أكثر، فتكون حيناً في بيت هذا وآناً في بيت ذاك. زد على ذلك النتائج السيئة التي تتأتى عن سلب دُور الرقص أعضاء العائلات من البيوت وإقصائهم عن لذة الاجتماع والـحديث العائلييـن اللذين يصونان أو يعملان على صيانة الآداب والأخلاق العائلية الراقية. بعد الوقوف على ما تقدم، لا يحجم الـمرء عن إلقاء سؤال بديهي هو: ألا يجب إبطال الرقص؟
للرقص مدافعون عنه كثيرون يصعب إقناعهم بوجوب ملاشاة هذا الداء العضال مهما كانت البراهيـن على ذلك كثيرة وهامة، ومع ذلك سنجرب الإتيان ببراهيـن حسية إذا لم تسفر عن اقتناع أصحاب نظرية الرقص فلا أقلّ من أن تكون شاهداً حقيقياً آخر على صحة ما نقول. فمما يحاول أصحاب نظرية الرقص إقناعنا بأنه من »محاسن« الرقص هو تسهيل التعارف، وهذا قد رأينا نتيجته في ما تقدم. ويلي هذا عندهم الرياضة، وفي هذه نقول كلمتنا الآن. إذا كان الرقص رياضة، فلا شك أنها رياضة تقود إلى الترهُّل لا إلى التصلب والاشتداد. إنّ الرياضة الـحقة يقصد منها إبقاء الـجسم سليماً مستعداً لكل طارىء، فهل هذا ما يقصد من الرقص؟ إذا كان الـجواب بالإيجاب، وهو ما يجيب به أصحاب نظرية الرقص، فهل لواحد من هؤلاء أن يجيب صريحاً على الأسئلة الآتية:
لـماذا يشعر الراقص بصداع عندما ينهض من الفراش مساء الأحد إذا كان قد رقص ليل السبت بطوله كما هي العادة، أو صباح أي يوم آخر إذا كان قد رقص حتى نصف الليل أو إلى ما بعده؟ لـماذا يشعر هو بتراخٍ وكسل في أعضاء جسمه؟ لـماذا يشعر بوهـن في قوتـه البدنية؟ لـماذا يشعر بضعف في قواه العقلية حتى تعجزه الـمسائل البسيطة؟ لـماذا يشعر أنّ قلبه يكاد يقفز من صدره إذا ركض هو مائة متر أو أكثر قليلاً لـحاجة ما؟ لـماذا يؤثر عليه البرد كثيراً حتى كأنه ييبسه أو الـحرُّ حتى كأنه يخنقه أو يـميته عياء؟ لـماذا يكون منخفض الصدر ومحدودب الظهر؟ لـماذا يصاب بتلبُّك الـمعدة وعسر الهضم؟ لـماذا يشكو دائماً من كثرة الأشغال وهي قليلة؟ لـماذا يُصاب بـمرض الضجر السريع؟
هذه الأسئلة وأمثالها لا يـمكنك أن توجهها إلى الذين يستعملون الرياضة البدنية الـحقة. وقد يجد أصحاب نظرية الرقص صعوبة في الإجابة عليها لأنها أسئلة قد لا تكون خطرت على بالهم من قبل، لذلك لا نكون قد أتينا أمراً إدّاً إذا نحن أجبنا عليها حسبما نعتقده صواباً غير مجردين أحداً في الوقت نفسه من حق إبداء ما يعنُّ له بهذا الصدد: كل من له أقلّ إلـماماً بالأوليات الطبيعية والقواعد الرياضية يدرك جيداً أنّ السهر وحده بدون أدنى عمل يُحدث في جسم الإنسان تأثيراً سيئاً، وأنّ العمل الليلي ينهك الإنسان ويضعفه. فعدم النوم في الليل عدوّ الرياضي اللدود، إذا أضفنا إليه ما يقوم به الراقص من الأعمال كان لنا جواب لا يقبل جدلاً على الأسئلة الـمتقدمة.
يبتدىء الراقص رياضته نحو الساعة التاسعة أو العاشرة ليلاً كما هي العادة، أي في الوقت الذي يكون الرياضي قد نام، وهو الوقت الذي تكون فيه السموم التي تطلقها النباتات قد امتزجت بالهواء وكثرت فيه. وهذه السموم وحدها كافية لأن توهن قوى الإنسان الـجسدية والعقلية فيما لو كان مستيقظاً أو قائماً بعمل ما، فيأخذ بخصر الفتاة التي تقبل دعوته للرقص ويبتدىء بالدوران بها وهو مُلصق جسده بجسدها حتى تـحسبهما غير منفصليـن. ومن ثم تأخذ قوى الشعور والإحساس فيه كما في الفتاة في إجهـاد نفسهـا متفاعلـة تفـاعـلاً شديداً فيتسارع تنفّسه ويسرع نبضه وتكثر كميات السموم التي يتنشقها، والتي تكون قد تضاعفت كثيراً في جو صالة الرقص حتى تصبح غازاً ساماً بالـمعنى الـحرفي. وعندما تنتهي الرقصة يذهب الراقص إلى حيث «ينعش» نفسه بتناول بعض الـمشروبات الروحية التي تزيده تفاعلاً وتهيّجاً كما يزيد الهواء النار تسعراً وضراماً. ثم يعود إلى الرقص ظاناً أنّ ما يشعر به من التهيج قوة ونشاطاً، والـحقيقة أنه فوران وقتي يزول حالـما يزول الفعل الـمهيج وتكون نتيجته ضعفاً ووهناً عاماً. فلو اضطر الراقص بعد ذلك أن يركض مسافة مائتي متر بسرعة لـما تـمكن من ذلك، بل إنه يسقط قبل بلوغ الـمسافة عياءً.
قد تقِلّ أضرار الرقص الـمادية فيما لو كان الرقص في النهار وفي مكان يـملأه الهواء النقي، ولكنها لا تنتفي كلها أبداً ولا يعوض الرقص عنها بشيء. أما الأضرار الروحية والاجتماعية فلا تقِلّ مطلقاً سواء كان الرقص في الليل أو في النهار.
نحن من الذين يعتقدون أنّ الرقص الـحالي وباء اجتماعي ويقولون بـمحاربته بكل شدة، غير خائفيـن أن يقال عنا بيـن الراقصيـن والراقصات إننا من أبناء الـجيل العتيق الذين ربوا على »التقاليد« القديـمة. ونحن فوق ذلك من الذين يعتقدون بضرورة التقاليد والثبات على ما كان مفيداً منها، أما الـخروج على التقاليد فلا معنى له إذا لم يكن هنالك تقاليد أخرى يؤخذ بها. وكل شيء جديد يصبح تقليداً، والتقليد الـجديد إذا لم يكن أفضل من التقليد القديـم كان من الـحماقة أن يؤخذ به. والرقص واحد من التقاليد الـجديدة التي هي أسوأ من كل قديـم سيء. فالعالم اليوم في حاجة إلى من يوقف هذا الـجيل الـمجنون عند حد، بل إلى من يردُّه إلى الـحدود القديـمة والتقاليد الـجميلة السالفة.
نحن لا ننزّه القديـم عن الأغلاط والعيوب، ولكننا نعتقد أنّ هذا الـجديد الذي بلغ هذا الـحد من الفحش أقبح من كل قبيح قديـم. فآلام الهيئة الاجتماعية قد بلغت حداً هائلاً من جرّائه، ولقد آن أوان ضرب مفاسد هذه الـمدنية ضربة قاضية يتنفس بعدها العالم الصعداء.
أنطون سعاده