كم أحيت الـحقيقة آمالاً أماتها الـخيال. وكم أوجد الـخيال أوهاماً تعالت قصوراً شاهقة في الهواء، ثم جاءت الـحقيقة فبددتها كما تبدد أشعة الشمس الضباب أو كما تبدد الأرياح دخان القش اليابس، وبين ليل الـخيال وفجر الـحقيقة كم عاشت آمال وكم مـاتت آمـال!
لست أعني بالـخيال تلك الكلمة الـمطاطة التي يفهم منها العامة ما تنطوي عليه من الألفاظ الـمنمقة والأسلوب «البديع« الذي يرينا نفس الكاتب كواحد من الـجن في الـخرافات القديـمة، فتراه يقطع الأجبال بسرعة القطار الـمستعجل، وهو تارة يركب متـن الهواء وطوراً يـمخر عباب الأمواج وآناً يحلّق إلى اللانهاية طائراً على أجنحة الأحلام، فلا يرى القارىء في خلال أسطره سوى ما يراه شارب الأفيون في خلواته من الأوهام والـخيالات التي تـمثّل له الـحياة مناظر ساحرة ومشاهد خلابة. وعندما تذهب السكرة وتأتي الفكرة لا يرى أمامه سوى حياة فيها من الـمرارة أضعاف ملذاتها -كلا- بل الـخيال الذي أعنيه هو ذلك التصور السامي الذي يوحي إلى أولي الأدمغة الـمفكرة حقيقة باهرة، يصح اتخاذها مثالاً لـحياة جديدة وعصر حديث. هذا هو الـخيال الذي يجيء أثناء الليل، ثم تأتي الـحقيقة مع الفجر صارخة «قد تـم«. أما سائر الـخيالات الأخرى فنصيبها عند إتيان الفجر الاضمحلال والتواري مع الظلام.
بين يدي الآن مثال من ذلك التصور السامي والـخيال البديع الذي تتجلى فيه الـحقيقة بأبهى معانيها وهو كتاب الـمساواة لـمؤلفته الكاتبة الـمتعمقة «مي« الذائعة الصيت. فـ الـمساواة نتيجة خيال مبدع نظر إلى الـحياة من وجهتها الـحقيقية، وذاق خلّها وخمرها، وخبِرَ تعاستها وسعادتها وراقب سير الطبيعة في تطورها والعصور في أدوارها، فرأى أن يعلن للبشر ما رأته عينه وسمعته أذنه وشعرت به نفسه، وإلا فكيف نعبّر عمَّا حمل «مي« على طرق هذا الـموضوع الـخطير إذا لم يكن لها من نفسها دافع؟ وكيف يـمكننا نفي ذلك، والكتاب كله شواهد وأدلة على ما يجول في نفس الكاتبة من الـخواطر الدالة على معرفة كبيرة واختبارات كثيرة؟ وإنّ في ما جاء في رسالة «عارف« بهذا الصدد وهو قوله:
«لقد تألـمت في حياتي لأمور كثيرة ومن مختلف الـمراتب، وتألـمت من مجموع الوراثات الـمتجمعة فيّ التي أسمّيها «نفسي« وأعرف من جهة ظلم الـمجتمع وظلم الـحياة من جهة أخرى، الخ... «
لا يسعني إخفاء سروري بأن يكون بيـن نسائنا الراقيات من هي مثل «مي« تطرق الـمواضيع الـحيوية وتـحلل الـحقائق العمرانية، تقنع البرهان بالبرهان وتدفع الـحجة بالـحجة، وتـجعل كل ذلك في لغة تليق بالآداب العربية لعذوبة ألفاظها ورقّة أسلوبها بـما فيها من انسجام التعابير كما هو الواقع في كتاب الـمساواة.
بيد أنّ لكل جواد كبوة، ولكل قلم عثرة. ولكن شتان ما بيـن كبوات الـجياد وعثرات الأقلام، لأن تلك لا تردي إلا فوارسها أما هذه فتردي كثيرين وقد تلقي أمـماً وشعوباً بأسرها في هاوية عميقة من التعاسة والشقاء. ومن ذا الذي له إلـمام بتاريخ القلم ومآثره ولا يقرّ بذلك. ومن ذا الذي يعلم أنّ الـمساواة التي هي أعظم معضلة عمرانية تـجتازها البشرية الآن لم تكن سوى نتيجة ثورة قلمية، وينكر ما للقلم من الشأن في تاريخ البشر، وما لعثراته من النتائج السيئة في تطور العمران وسير الاجتماع، لذلك كان الانتباه والتدقيق في نفثات الأقلام من أول شروط الاستفادة منها، وهو ما أنا مبتدىء به الآن في كتاب الـمساواة.
غـرض الـمؤلفة من وضع هذا الكتاب واضح في الفقرة الأخيرة من التمهيد البديع الذي افتتحت به الكتاب وهي:
«ما هي الـمساواة؟ وأين هي؟ وهل هي مـمكنة؟ هذا ما أرغب في استجلائه في الفصول الآتية دون اندفاع ولا تـحيّز بل بإخلاص من شكّلت من جميع قواها النفسية والإدراكية محكمة «محلّفيـن« يستعرضون خلاصة ما تقوله الطبيعة والعلم والتاريخ ليثبتوا حكماً يرونه صادقاً وعادلاً. «
وهو من الأغراض الكبيرة والـمرامي الـخطيرة التي تستحق الكاتبة الثناء عليها، لا سيما وأنّ مثل هذه الأبحاث الـمفيدة لا تزال غريبة عنا، وإذا كان عندنا منها شيء فهو قليل جداً بالنسبة إلى حاجتنا إليها.
أنطون سعاده