بقلم «زينون»[1]
إن ما سأقوله عن العقيدة القومية الاجتماعية وفلسفتها ليس الكلمة الأخيرة. فالفلسفة القومية الاجتماعية هي شيء حي، وككل الأشياء الحية، هي تنمو وتكبر وتنضج . وهي أيضا شيء فعلي ( عملي)، إذ أنها تعبر عن فكر حركة فاعلة محققة .
إن الفلسفة القومية الاجتماعية هي، في المكان الأول، خط واتجاه وقاعدة انطلاق في شتى مجالات النشاط الفكري والأدبي والفني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي.
لذلك رأيت أن أفضل وسيلة لمعالجة الفلسفة القومية الاجتماعية هي بعض صفاتها البارزة والتحدث عنها وعن بعض القضايا التي يمكن معالجتها من ضمن هذه الصفات . ومن البديهي أنني لن أحاول تناول كل القضايا والمسائل التي أرى ضرورة تناولها ، ولكني أرجو بذلك أن أتمكن من اعطاء صورة مصغرة وعامة تسبغ شيئًا من الوضوح على بعض الاتجاهات والقضايا الهامة التي تشتمل عليها النظرة القومية الاجتماعية.
الصفات البارزة الكبرى للفلسفة القومية الاجتماعية هي أربع ، وسأعالج كلا منها على حدة ، أما الصفة الأولى فهي:
اجتماعية الفلسفة القومية الاجتماعية
إن الفلسفة القومية الاجتماعية تبتدىء في المجتمع وتنتهي فيه ، وكل ما هو خارج نطاق حياة المجتمع وشؤونه ليس من اختصاصها.
إنها فلسفة اجتماعية شاملة من حيث أنها تتناول كل ما يتعلق بالمجتمع .
ولها نظرتها المسهبة في كيفية نشوء المجتمع الإنساني وتطوره ونظامه ومعناه الأخير في الحياة الإنسانية.
ولها نظرة تامة في كيفية نشوء الفكرة القومية ومكانة هذه الفكرة في حياة الأمم .
ولها نظرتها المكتملة إلى النفسية الاجتماعية وكيفية انبثاقها التاريخي وفعلها في التكوين الأدبي والفني والفكري في المجتمع .
ولها، أخيراً، نظرتها الخاصة في النظام الأفضل للمجتمع والدولة من حيث تركيبها السياسي والحقوقي والاقتصادي .
هذه القضية والمسائل والشؤون المتفرعة عنها بالضرورة هي التي تتناولها الفلسفة القومية الاجتماعية بصفتها فلسفة اجتماعية. وهي لا تتناول ما هو خارج عنها، إلا حيث يكون لهذه المسائل مساس أو علاقة بالمجتمع وحياته. ويثير تناول الفلسفة القومية الاجتماعية لهذه القضايا أسئلة رئيسية منها ما يتعلق بموقف هذه الفلسفة من الدين أو بنظرتها إلى «العلاقة بين الفرد والمجتمع».
لنأخذ الدين: الدين والقضايا الدينية الثيولوجية هي خارج محور العقيدة القومية الاجتماعية كليًّا، إلا حيث يظهر الدين كعامل مباشر في حياة المجتمع من الوجهة الاجتماعية السياسية. ففي هذا النطاق، قول التعاليم القومية الاجتماعية واضح جداً، فهو يدعو إلى فصل الدين عن الدولة ومنع رجال الدين من التدخل في شؤون المجتمع السياسية والقضائية القومية التي هي من اختصاص الدولة المدنية وحدها.
وهذا القول يعني إن الحركة القومية الاجتماعية تطلب من المؤسسات الدينية أن تعمل ضمن النطاق الديني الروحي الذي يمكنها فيه فقط أن تتحقق اهدافهـا، وليس ما تطلبه الحركة من المؤسسات الدينية الا ما تفرضه هي على نفسها.
والحركة القومية الاجتماعية في وضعها القيم المناقبية أساسًا للنهضة القومية الاجتماعية إنما تؤكد القيم الروحية الأخلاقية التي يقدمها الإيمان الصحيح وتعمل على صيانتها. وكيف يكون الأمر غير ذلك في حين كانت الحركة القوميـة الاجتماعية أول من أظهر وحدة التراث الروحي في سورية وعملت على نشر هذا التراث ودعت إلى تفهمه...
إن مهاجمة الحركة القومية الاجتماعية واتهامها بأنها لا تكترث بالدين لا تصدر إلا عن الجهلة والمغرضين.
إن الحركة القومية الاجتماعية كانت أول من دعا إلى القضاء على الطائفية وأول من وضع مشكلة الطائفية، الناهشة حيوية المجتمع والمبعثرة حقوقه واهدافه وقضيته الحقيقية، موضع النقد الصحيح وأول من قدم لها الحلول العلمية السليمة. لذلك كانت عداوة الطائفيين وذوي المنافع السياسية والاجتماعية القائمة على أساس النظام الطائفي الحاضر، العداوة الأولى للحركة تلك العداوة الحاقدة التي استغلت حرمة الدين واستعملت كل الوسائل لتشويه سمعة الحركة ولمحاولة القضاء عليهـا.
لقد عبر الزعيم مراراً عن أن العقيدة القومية الاجتماعية لا تتدخـل في الشؤون الميتافيزيكية واللاهوتية والفلسفية التي هي من اختصاص الدين. لذلك فإن الفلسفة القومية الاجتماعية ليس لها ما تقول حول ماهية الوجود والخلق والعالم الآخر ومصير الروح وما شاكلها من القضايا التي هي بصميمها جزء من حياة الإنسان الداخلية التي يجابهها برهبة وخشوع في جامعه أو كنيسته أو في غرفته أمام ربه. ولقد قال الزعيم مراراً أن ما ترمي إليه العقيدة القومية الاجتماعية هو المجتمع، المجتمع بوجوده الحقوقي القومي، بمصلحته وإرادته في الحياة، في هذه الحياة، وليس كطوائف وأفراد ينتمون إلى هذا المذهب أو ذاك.
ليس في العقيدة القومية الاجتماعية ما يتنافى مع الإيمان الديني الصحيح. إن باستطاعة القومي الاجتماعي أن يكون كاثوليكيًا مؤمنًا كما يمكنه أن يكون محمديًّا مؤمنًا أو أن يكون غير مؤمن بمذهب معين. وأن يكون في الوقت عينه قوميًّا اجتماعيًّا صحيحًا. إن الذي تمنعه العقيدة القومية الاجتماعية عن المحمدي والكاثوليكي والدرزي والشيعي والعلوي والارثوذكسي، هو أن يكون محمديًّا أو كاثوليكيًا أو درزیًّا أو شيعيًّا أو ارثوذكسيًّا بالمعنى الاجتماعي السياسي. إن الطائفية في الحركة القومية الاجتماعية قضي عليها، واصبح بإمكان القومي الاجتماعي في الحركة أن يؤمن ايمانه الديني الصحيح بحرية عميقة دون الوقوع في التلوينات التي يسبغها النظام الحاضر خارج الحركة على كل من اختار التقرب إلى ربه من باب أحد المذاهب القائمة.
نحن القوميون الاجتماعيون لم نتخل عن الدين وعن رسالة الدين الحقيقية، بل اخترنا أن نرفع هذه الرسالة من الحضيض الطائفي الذي اوصلتها إليه قرون من الانحطاط والتدخل الأجنبي وأن نعيدها إلى مكانها اللائق، إن حربـة الإيمان مصونة في الحركة القومية الاجتماعية.
وهنالك قضية الفرد والمجتمع، فقد قام في الحزب سنة 1947 من قال أن الفرد هو غاية المجتمع وهدفه الأخير، والحركة لم تقل ذلك، فحتى ذلك الحين لم يرد سعاده أن يذهب في هذا الموضوع إلى أبعد من تعيين العمل الجماعي ومعنى التضحية الشخصية في سبيل الكل. ففي كل النهضات لا يمكن تحقيق غاية أو الوصول إلى هدف الا بفكرة التضحية الكلية. فاتباع قضية شاملة ترمي إلى خلق حياة جديدة في مجتمع متجدد لا ينظرون إلى أنفسهم إلا كوسيلة لتحقيق مقاصدهم العليا التي تحملها وتعبر عنها قضيتهم التي آمنوا بها واعتنقوها بحرمة ووعي كاملين. هم لا يضعون أنفسهم، كأفراد، غاية أخيرة لصراعهم، بل يجدون نفوسهم الحقة في هذا الصراع، إن التحقيق الأسمى للفرد لا يكون إلا بتحقيق مقاصده العليا التي ليست ولا يمكن أن تكون مقاصد خصوصية جزئية تتعارض أو تنفي مقاصد الآخرين. لهذا السبب لم يكن هنالك داع حتى عــــــام 1947 لإثارة قضية «الفرد والمجتمع»، فحيث وجد الانسجام النفسي وتركزت وحـدة القصد والهدف انعدمت الخصوصيات الفردية وتوحدت مقاصد الفرد ومثله العليا بمقاصد ومثل الحركة الشاملة الذي هو جزء منها .
إن المصاحبات النظامية والسلوكية الحزبية التي رافقت اثارة قضية «الحرية الفردية» و«علاقة الفرد بالمجتمع» الخ .عام 1947 معهودة لدى الأكثرية . وقد كان باديًا للجميع بعد انقشاع ضباب السفسطة الكلامية في ذلك الحين أن قضية الذين قاموا بتلك الحملة لم تكن قضية فكرية مخلصة. ولو كانت كذلك لما حدث ما حدث ، فإن لكل مشكلة فكرية حلاً أو مخرجاً في الحزب متى كان الإخلاص الفكري والعقل المسؤول هما رائدا هذه القضايا.
لم يكن هنالك حاجة بسعاده للتعرض إلى هذه القضايا لولا حصول شيء من الغموض والتساؤل حول هذه الأمور . وكان جوابه الأساسي هو العودة إلى المبادىء القومية الاجتماعية وشرحها مجدداً بمحاضراته العشر العظيمة التي ألقاها في بيروت سنة 1948 والتي تم نشرها مؤخرا في مجلد واحد . في هذه المحاضرات أوضح لنا سعاده أموراً عديدة . ولكن الدرس الأهم الذي علمنا إياه هو أن العقيدة السورية القومية الاجتماعية هي وحدة لا تتجزأ . وأن معالجة قضية ما تتطلب تناول هذه القضية من ضمن اطار قواعد العقيدة القومية الاجتماعية وبحثها بضوء المفاهيم والمقاييس التي يقوم عليهــا الفكر القومي الاجتماعي بكليته. هذا وإلا بطل النظر الفكري المسؤول في أية قضية . فلو أردنا لاستطعنا رفع عدد كبير من المسائل الفكرية، المشتملة عليها العقيدة القومية الاجتماعية وبحثنا فيها على أساس قواعد فكرية وبضوء نظرات فلسفية مختلفة وتوصلنا إلى نتائج متضاربة لا تنسجم ، ونظرتنا القومية الاجتماعية كما تعبر عنها العقيدة القومية الاجتماعية بكليتها.
إن بحث مسألة «الفرد والمجتمع»، إذاً،كمسألة مستقلة بحد ذاتها ، مجردة عن سياق الفكر القومي الاجتماعي يعني أحد الأمرين : إما أننا لسنا مؤهلين لمعالجة القضايا الفكرية اجمالا بالتفهم والوعي اللازم للتفكير الفلسفي السليم أو أننا نثير تساؤلا شاملا ليس فيما يتعلق بالمسألة التي نحن بصددها فحسب، بل بكافة المفاهيم والقواعد الفكرية التي تقوم عليها العقيدة القومية الاجتماعية.
من البديهي أن من يثير مسألة «الفرد والمجتمع» أو أية مسألة أخرى على هذا النهج الأخير ، هو بحاجة لأن يعيد النظر بفهمه وايمانه بالعقيدة وتعاليمها. فمشكلته ليست هذه المسألة بالذات بل أنها أعمق بكثير . إنها تتناول صحة إيمانه بأسس عقيدته التي أقسم حراً على اعتناقها ايمانا له ولعائلته وشعارا لبيته.
والعقيدة السورية القومية الاجتماعية بصفتها فلسفة اجتماعية تتناول الفرد من حيث هو كائن اجتماعي فقط لا تتناوله من حيث هو وجود مستقل. وهذا تحديد في النطاق ذو أهمية بالغة. إذ لو أن الفلسفة القومية الاجتماعيـة تناولت الفرد ككائن مستقل من ناحية وجوده الفردي المحض، لكان عليها أن تحدد موقفها ونظرتها إليه من الوجهة البسيكولوجية والميتافيزيقية وغيرها كأية فلسفة أكاديمية أخرى . ولكن الفلسفة القومية الاجتماعية فلسفة اجتماعية ليست لها مواقف ميتافيزيقية أو سيكولوجية . إنها تقف عند حدود نظرتها للفرد ككائن اجتماعي.
وككائن اجتماعي ليس الفرد إلا مجرد إمكانية إنسانية، وتحقيق وجوده لا يكون إلا في المجتمع. وقد تنبه أرسطو لهذه الحقيقة منذ اكثر من ألفي سنة، وإن كان قد رآها بشكل جزئي .
والقول أن الفرد هو مجرد امكانية انسانية لا يقضي على حقيقة الوجود الفردي، بل يحدد مفهوم هذا الوجود ويسبغ عليه الصبغة الاجتماعية التي بدونها لا يمكن تفهم حقيقة هذا الوجود. وقد شدد سعاده على صفة المفهوم الاجتماعي للفرد وقال ان الوجود الاكمل هو الوجود الاجتماعي فخرج بذلك من الذاتيـة القتالة التي سادت المجتمع السوري، وثبت فكرة الخصائص والصفات والخطوط النفسية والروحية للمجتمع السوري التي يستمد منها الفرد نفسيته الاجتماعيـة وخصائصه القومية التي تميزه عن أبناء الأمم والمجتمعات الأخرى .
إن قضية الفرد وعلاقته بالمجتمع في التعاليم القومية الاجتماعية لا تشكل عقدة فكرية إلا للذين يصرون على تجريدها من سياقها الطبيعي وبحثها من ضمن اطار فلسفي مجرد. والبحث المجرد إذا لم تحدد نقاط انطلاقه وتؤكد قواعد تسلسله وتثبت مقاييس الأفكار المصاحبة له لا يمكن أن يثمر أو يأتي بنتيجة مهما كان منطقيًّا ومهما روعيت فيه محاسن الصبر والتروي العقليين. وهـذا لا ينطبق فقط على مسألة «الفرد والمجتمع» بل على جميع المسائل الفلسفية المماثلة التي يتعدد النظر فيها بتعدد النظرات الفلسفية واختلافها. إن لنا في الحركة وحدة نظر ووحدة هدف ووحدة انطلاق، ولذلك نجد بيننا هذا التآلف والانسجام الفكري العميق، ليس فقط في القضايا التي تثيرها العقيدة القومية الاجتماعية بل في جميع القضايا الاخرى المتفرعة عنها. و كلما ازداد الشعور بالوحدة التي تربطنا وعمق فهمنا لأسباب هذه الوحدة ولمقوماتها وطبيعتها، ازداد ادراكنا لهذه القضايا وعمق فهمنا لكل ما اشتملت عليه عقيدتنا من مسائل فكرية وفلسفية عديدة.
عقلية الفلسفة القومية الاجتماعية
والميزة الكبرى الثانية للفلسفة القومية الاجتماعية هي وضعهـا العقل المقياس والواسطة والمرجع الأخير لجميع المسائل التي تواجهها. وقد شدد سعاده في جميع كتاباته على أهمية فعل العقل في حياة الإنسان وفي حياتنا، وعبر عن هذا الأمر مرارا وبقوة ووضوح.
العقل في سورية توارى منذ قرون بعيـدة، وإلى الآن لم يسترجع بعد سلطته وقوته في مجتمعنا، وقد نشأ العقل هنا، في سورية، وترعرع على شواطىء دجلة والفرات وعلى شاطىء هذا البحر الازرق الجميل, فأول من عقل هو الإنسان السوري، وأين السوري خارج الحركة من العقل الآن ؟
وماذا نعني بالعقل ؟
ليس العقل أمراً بالفطرة فقط، فحدة الذكاء وسرعة الخاطر وثقابة النظر ما هي إلا صفات عقلية يتمايز بها الأفراد. كذلك ليس العقل ميزان الفكر ومصدر المقاييس الفكرية وحسب، كما أنه ليس أداة المعرفة الوحيدة.
إن العقل الذي نعنيه هو هذه الامور كلها، لكنه فوق كل ذلك خلاصة التجربة التاريخية الخلاقة التي تحمل في طياتها صعود الإنسان من حالة اللاوعي إلى درجة الوعي والحضارة الإنسانية.
قصة العقل في التاريخ قصة لا غموض ولا ابهام فيها. فهي تحد بزمان ومكان واضحين- يحتاجان إلى ايضاح أكثر في عملية جـــلاء التاريخ، قصة فصولها الأولى الكبرى تبدأ هنا في سورية، وتستمر خلال الاغريق وروما إلى أوروبا الغربية الحديثة. وما نسميه العقل الغربي اليوم إن هو إلا خلاصة الفعل الجبـار الذي خطه العقل منذ نشأته السورية في سومر، في الاساطير والقوانين والانظمة السورية السومرية التي تعود إلى الألف الثالث والرابع قبل المسيح، حتى تركزه (العلمي ) الحاضر في الغرب من خلال التراث اليوناني المسيحي. والعقل ، كذلك ، لا يحدد بحدود الادراك الفردي كمية ونوعا واستيعابا للمعرفة، ولا نعني بالعقل مجرد نتاجه في مضمار الحضارة ، أي تعبيره في أنظمة الفكر والعلم وفن الحياة المتمدنة فحسب. إن العقل في المكان الأول هو موقف ومجابهـة (Attitude ). انه كيفية النظر إلى الذات والكون، إنه تعبير عن محبة قصوى في الانسان.
ولم ينشأ العقل واحداً، فتاريخ الحضارات،يتكلم عن العقل اليوناني والعقل الروماني والعقل الجرماني والعقل السوري وفي حين نتكلم اليوم عن الحضارة الغربية هذه الحضارة المنتشرة في حوض البحر المتوسط وأوربا والاميركتين واستراليا ونيوزلندا وجنوبي افريقيا- كحضارة واحدة، إنما نعني بالواقع نتاج حضارة القرون الوسطى وروما وأثينا، وفي قاعدتها جميعا حضارة سورية.
من هنا يظهر لنا معنى قول سعاده بالنفسية السورية وخطوطها التاريخية .واذا عنى هذا القول استقلال العقلية السورية التاريخية عن غيرها فانه لا يعني خروجها عن مجرى سير العقل في المتوسط نحو أوروبا الغربية وتكوينه الحضاري هناك . فالتراث السوري القديم والمسيحي والوسيط يعد دائما في أساس هذا الصرح الحضاري هناك.
إن العقل السوري- كالعقل اليوناني والعقل الجرماني-ـ لم ينشأ في فراغ ، بل نما وترعرع في خضم التفاعل البشري في بقعة معينة من الأرض. ولذلك فهو يحمل صفات و خطوط وتركيب النفسية والطبيعة التي اكتمل وعبّر عن نفسه فيها. إن له خصائصه ومميزات نبوغه الخاص. فأساطيرنا القديمـة وفلسفات وأشعار ومزامير شعرائنا وفلاسفتنا ومتصوفينا لا تزال تحمل إلينا صور الطبيعة السورية التي تراها حولنا اليوم ، تعبر عن مرهفات من الرموز والمشاعر تهزنا، لما فيها من صدى في نفوسنا حتى بعد مرور هذه القرون الطويلة. إن العقل اليوناني قد محص بالدرس، وأصبح نتاج الإغريق كتابا مبوبا في متناول الجميع. إلا أن ما انتجه العقل السوري لا يزال معظمه مطموراً تحت التراب وما ظهر منه اليوم أو في الأمس القريب لا يزال بعيدا عن انهماك البحاثين والدارسين ولذا نرى هذا الانغلاق عنا حيث يعلم التاريخ والحضارات . ولهذا يشيح السوري عن تراثه أو لا يلتفت إليه إلا التفاتة المستحي أو غير الواثق بنفسه وبتراثه .
لم يقصد سعاده في التشديد على أهمية العودة إلى تراثنا الحضاري التغــني بأمجادنا ومفاخرنا الغابرة، وهي عظيمة، بل رمي إلى رفع النقاب عن معين أساسي للنهضة الجديدة، تستمد منها قواعدها الأساسية في بناء العقلية السورية الجديدة التي نعمل لتثبيتها اليوم. ومن هذا المعين نستطيع اليوم ولأجيال قادمة، أن نغرف ما هو منا ولنا، ففي تراثنا السوري القديم والمتوسط ينابيع فياضة قادرة على ارواء ما في هذا المجتمع المنهوك من عطش عميق إلى ما يوحد مشاعره ويقوي نفسيته وينقي عقليته ويجعله، كما كان، أرضا خصبة للنتاج الخلاق ومسرحا واسعا للاختبار الإنساني. لعل ارجاع سلطة العقل وتثبيته من جديد شرعة عليا في حياتنا هو التقدمة الكبرى التي تقدمها الفلسفة القومية الاجتماعية إلى سورية اليوم ففي هذا المجتمع السيء الحظ حاجة قصوى إلى الهداية من جحيم العيش الذليل يملاءه الآن. ولا هداية ولا نور ولا ظمأ الا بالحقيقة التي لا وصول اليها بلا العقل.
من منا يقدر أن يعمي بصره أو يصم أذنه عن جنون العيش الذي حولنا. في سورية، خارج الأم وتعثرات المخاض الخلاق الذي هو الحركة القومية الاجتماعية، ليس هنالك حولنا إلا الجهالة والمهانة والذل والجشع والركض وراء العيش في سيل مجرد الاستمرار، فخارج ما تريد الحركة أن تكون، ليس في مجتمعنا لقيم الحياة الرئيسية من مكان. فاحترام النفس ازاء الآخرين كبشر لا كقطعان، واللطف والشفقة والمحبة لمن يحتاجها من الناس، والثقة بالآخرين، والعمل لراحة النفس بغير دوس على مصالح الآخرين، والشعور بأن للكرامة ثمنا لا يقدر بالمال، وبإن الكريم من هو من شعب كريم - كلها مفقودة. المحبة والاستقرار والحياة النشيطة المطمئنة، لا محل لها بيننا. إن حالتنا وأوضاعنا حالة وأوضاع ذئـاب كاسرة في المدينة، وقطعان مسوقة في القرى والأرياف.
في هذا المجتمع الذي طوحت به الارادات الغربية وأفقـــدته الكوارث والنكبات رشده يقف القوميون الاجتماعيون وحيـدين في وعيهم صابرين في ادراكهم مؤمنين بحقيقتهم. إنهم واحة العقل الخضراء في جنون الرمال المحرقة المطبقة حولهم. إنهم أمل هذا المجتمع الوحيد. إنهم بالفعل فجر العقل يطل من جديد على موطن العقل ...
مناقبية الفلسفة القومية الاجتماعية
الصفة الثالثة للعقيدة السورية القومية الاجتماعية هي رسالتها المنــــاقبية .
كيف نحدد معنى المناقب ؟
ليست المناقب السلوك الحسن والاخلاق الطيبة كما تبدو في نظر النـاس، وليس الشخص ذو المناقبية القومية من يدعوه الناس « ابن اوادم » .. فالاخلاق الطيبة والسلوك الحميد و «الادمية»، هي صفات مرغوبة تنفع الذي ينعت بها، وإن كان الناس يختلفون بما يعنونه بهذه الصفات. إن هذه الصفات ليست مناقب، فالكبير النفس والحقير يمكن أن يتمتعا «بالادمية» ، أو بالسلوك الجيد، ويكون الاثنان بنظر الناس على مستوى واحد من حيث قيمتها المناقبية. وفي استطاعة كل من فسح له ان يتعلم في مدرسة جيدة أو أن يتربى في بيت مهذب، أن يغذي في نفسه العادات والطباع التي تحببه إلى الناس في حياته اليومية.
إننا لا نتكلم عن هذه الأمور في تحديدنا معنى المناقب. فالمناقبية ليست قواعد للتصرف بين الناس يمكن نقلها خارجيا وارتداؤها كما يرتدي الإنسان الملابس ذات الموضة الدارجة. إنها بالمكان الأول أمر داخلي ينبثق عن تفتح عميق في النفس، إنها يقطة ما يكمن في الصميم من قوى مميزة للقيم، محبة لها، ساعية نحو تحقيقها. وبهذا المعنى تصدر المناقب عن خلق داخلي في الشخص ولا تأتي عن التلقين الخارجي في البيت أو المدرسة.
في الوعي المناقي عاملان اثنان يكونان قطبي الاستجابة للقيم :العقل والارادة.
ولا نعني بالعقل مجرد الفكر، بل النفس بكامل خصائصها الإنسانية المدركة، اذ إن القوة البداهية هي جزء من العقل، والوعي العقلي ليس وقفـًا على التحصيل الموضوعي وحسب. لذلك كانت استجابة النفس للقيم تتعدى مجرد حدود المعرفة الفكرية. وكان بإمكان الجميع الوقوف على صعيد مناقبي واحد مها اختلفت مميزاتهم الشخصية والعقلية والثقافية. وعندما تتجسد هذه القيم في الإنسان بشكل نيـة تريد وفعل يحقق، نقف جميعا على السواء رهن مقاييس واحدة، ويحكم علينا بما نحن، بما فينا وبما نقدر أن نقدم فعلاً لا بما كنا أو بما يمكن أن نكون .
العقيدة القومية الاجتماعية تقدم فلسفة مناقبية جديدة، ولكنها لا تقـدم بحثًا في فلسفة الاخلاق. إن العقيدة منذ نشأتها، منذ أن وضع هيكل التعاليم الأساسية للحركة، تضمنت موقفًا مناقبيًا حياتيًا شاملاً. فمجرد القول إن «غاية الحزب السوري القومي الاجتماعي بعث نهضة سورية قومية اجتماعية ... واقامة نظام جديد ، في سورية دلل على قيام عقلية جديدة وإرادة متجددة، أي على قيام مناقبية جديدة في سورية .
منذ ذلك الحين، ومنذ أن انبثق الحزب وأخذ في الانتشار، ابتدأ التطبيق الحياتي للمناقبية السورية الجديدة، وأصبح للعقلية الجديدة والمثاليـة الجديدة وجوداً حيًّا واقعًا هو وجود المؤسسة القومية الاجتماعية. في هذه المؤسسة نشأ خلال الاحدى والعشرين سنة الماضية تراث مناقبي مجيد، بنته الأعمال والتضحيات والإرادة المؤمنة. وكان لسعاده ولصراع سعاده وقدوته الأثر الاكبر في تكوين المناقبية السورية الجديدة وتجسيدها حياتيًّا في صميم مجتمعنا .
إن القومي الاجتماعي لا يحتاج لأن يفلسف القيم المناقبية التي تتطلبها منه النهضة. وإن أوضح الأشياء في العقيدة هي هذه المناقب. فقد عرف قائد النهضة جيداً كيف تقام حركات الشعوب وكيف تحي المثل العليا. إنه لم يحلل ولم يشرح ولم يدرس كما يفعل المعلم في المدرسة، بل سار بتعاليم النهضة بمبادرة جبارة وبث روح الحياة الجديدة بتوجهه الكلي إلى حقيقة السوريين النفسية وخاطب كلية الشخصية السورية واثار فيها أعمق ما يكمن فيهـا من توق إلى المجـد ومحبة للحقيقة. في كتابات سعاده لا تجد المطولات في هذه الناحية أو تلك من قضية حالتنا المناقبية، بل تجد ومضات كاسحة من النور تظهر بقوة البرق طريق المناقب ومعنى القيم في الصراع من أجل الحياة الجديدة، إنني أجد في كلمات قليلة ما لا أجده في مجلد من الشرح -«انكم ملاقون اعظم انتصار لاعظم صبر في التاريخ»، «إن فيكم قوة لو فعلت لغيرت وجه التاريخ » ، « إن الحياة وقفة عز فقط»- التي تحرك في الأعماق تيارا هائلاً يحمل إلى النفس كل معاني قيم الصبر والقوة والبطولة والعز والكرامة والتضحية والمحبة، وتخلق في الروح العزم وفي الإرادة الشدة وفي العقل الوعي .
ليس الا المتفذلكين المتمخرقين والسطحيين والمعدومي الارادة من يطلب رؤية «فلسفة الحزب» وهم لا يعترفون وهم يشكون بان للحزب فلسفة، كأنهم يريدون وضع أصابعهم على الجرح لكي يتأكدوا!. ليس للحزب فلسفة كالفلسفة التي يريدها هؤلاء. إن الحركة القومية الاجتماعية ترفض أمثال هؤلاء وليس لديها ما تقدمه لهم. إن المتهكم المتعجرف على الحق، بنار الحق يحرق !
إن المناقب السورية القومية الاجتماعية حقيقة واقعة مجسدة. إنها تلك التي شعت خلال الإحدى والعشرين سنة الأخيرة - نظاما، وقوة، وواجبا، وحرية وتضحية، وكرامة، وإخلاصًا، وتواضعًا، ومحبة لا تفنى، إنها مناقب الذي أقسم أمام نفسه وأمام رفقائه أن يحيا أو يموت من أجل حياة عز وكرامة وانها مناقب من آمن بحريته وحقيقة أمته ومقدرتها أن تكون غداً كما كانت بالماضي موطنا للحقيقة وملجئا للمحبة.
منذ تجربتنا الكبرى سنة 1949 حدثت في صفوف الحركة القومية الاجتماعية هزة نفسية عميقة كان لها أكبر الأثر في نفوس القوميين الاجتماعيين. حتى ذلك الحين كان الجيل الثاني في الحركة ذلك الجيل الذي يمكن وضع تاريخ قيامه بعام 1947 - غير مدرك بعد المعنى الخطير المتوقف على كونه قوميًّا اجتماعيًّا. فالشاب السوري خارج الحركة القومية الاجتماعية نشأ في حالة اجتماعية لم يصارع فيها المواطنون من أجل شيء في الحياة سوى تحصيل الرزق. فخلت حياته من كل معاني التضحية والقوة والقصد المثالي. لذلك بقي سوريون قوميون اجتماعيون غارقين في الاوحال النفسية التي علمتهم إياها بيئتهم وطريقة عيشهم، ولم يكن هؤلاء مستعدين لاستيعاب كل ما فرضته العقيدة الجديدة من واجبات مجرد أخذهم إياها أمانا لهم. فالبطولة والتضحية وتحمل الآلام من أجل القضية كانت تعابير فكرية عاطفية ليس لها أساس حياتي كامل في نفوسهم. فكان بعضهم يرى نفسه، من خلال إيمانه وحماسه، أهلاً لكل تضحية وجديراً بتحمل مسؤوليات البطولة.
عندما وقعت الحوادث سنة 1949 وجوبه القوميون الاجتماعيون بالمسؤولية الفعلية التي وضعتها القضية على عواتقهم صدم بعضهم صدمة نفسية وصلت إلى أعمق أعماقهم - فسقط منهم القليل واستمر الباقون في السير وقد اثخنت نفوسهم بجراح بعضها لما يندمل...
لقد أحدثت هذه التجربة ثورة سيكولوجية عنيفة في صفوف الحركة وكان من أهم نتائجها النضوج المناقي الذي انبثق ثمرة لهذه التجربة في آلاف القوميين الاجتماعيين. وليس مثل الألم مطهرا للنفوس أو قاتلا لهاـ فالحديد الأقوى هو الحديد المصهور.
لقد أصبح القومي الاجتماعي الصحيح اليوم يدرك تماما معنى كونه قوميًّا اجتماعيًّا. إنه يدرك الآن ما عناه سعاده بقوله إن قضيتنـا قضية خطيرة تساوي وجودنا. والقضية القومية الاجتماعية لم تعد له مجرد تحية فيها كبر، ونظــامًا عسكريًا يثير الاعجاب. فالقومي الاجتماعي الصحيح أصبح يعرف معنى التواضع الفخور وقيمة العمل الصامت المستمر. فقد صهر في ألم التجربة وعمد بدم الشهادة.
إن المناقب القومية الاجتماعية اليوم هي حقيقة واقعية أكثر مما كانت في أي وقت مضى. ومسألة موقفنا تجاهها ليست مسألة معرفتها فلسفيًا، بل تجسيدها في عملنا الصامت المستمر .
الفلسفة القومية الاجتماعية قاعدة انطلاق
أما الصفة الرابعة الكبرى للعقيدة القومية الاجتماعية فهي إن فلسفتها ليست فلسفة وقوف وتحجر بل فلسفة حركة ونمو وانطلاق. فالتعاليم القومية الاجتماعية بمجموعها تقدم القواعد والخطوط العامة التي تعبر عن الحقيقة السورية والتي منها تنبثق نهضتها الكلية الشاملة جميع نواحي حياة المجتمع السوري.
يعتقد البعض ان فلسفة الحركة التي تسمى عرضا «الفلسفة المدرحية»- هي عدد من النظريات الفلسفية التي تؤلف بمجموعها سيستيما فلسفيا كاملا، وأنها تقدم الجواب لكل سؤال فلسفي يخطر في بال. إن هذا الاعتقاد خاطيء.
عندما نقول أن الحركة تقدم نظرة شاملة إلى الحياة والكون والفن لا نعني أنه لدى الحركة نصوصا فلسفية تقدمها إلى كل من يسألنا عن نظرتنا إلى الفن والكون والحياة.
إنكم تعلمون أن لكل شخص «نظرة» إلى الحياة هي نتيجة عدد من العوامل بعضها تلقائي والبعض الآخر تصميمي، وأن هذه النظرات تختلف باختـلاف الأشخاص وحاجاتهم العقلية والروحية. فتكون النظرة عند البعض بدائية ومحدودة ولا تتضمن أكثر من بضع قواعد ومعتقدات مستمدة من البيت أو مما يردده الناس أو مما يقوله الشيخ أو القس في الجامع أو في الكنيسة. وهي عند البعض الآخر عميقة دقيقة التركيب ومؤلفة من عناصر فكرية عديدة توصل إليها صاحبها بعامل السعي للحصول على اليقين وبعامل الإرادة للتوصل إلى ما يسد حاجاته الروحية والعقلية التي هي حاجات مرهفة لا تكتفي بما تقدمه البيئة صدفة .
كما في الأشخاص كذلك عند الأمم، قياسا، إلا أن النظرة إلى الحيـاة والكون والفن عند الأمم لا تحصل بعامل الصدف أو بعوامل يمكن تفسيرها سيكولوجيا فقط كما هي الحال في الأفراد، بل أنها تحصل بعامل النشأة التاريخية التي مرت فيها كل الأمم المتحضرة اليوم. فالأمم في تكوينها ونشأتها وسيرها في مجرى التاريخ تمر في تفاعل انساني يسبغ عليها شخصية معينة وثقافة معينة وعقلا معينا وتسير كلها ضمن خطوط تنضج وتنمو مع نمو الأمة ونضوجها ضافية عليهـا صفات أساسية تظهر في المجتمع الذي هو تلك الأمـة وتظهر في الأفراد الذين هم الأمة في كافة أجيالها المتتابعة. إن في نتاج هذا السير التاريخي في تجاربه وآلامه وأفراحه وانتصاراته وانكساراته وفي كل ما يحتوي عليه من التجارب الإنسانية وفي كل ما يتضمنه هذا النتاج في جميع أشكاله الفنية والأدبيـة والدينية والسياسية والاقتصادية (الذي يؤلف ما نسميه الحاصل الثقافي أو الحاصل الحضاري للأمة المعنية ) نجد نظرة الأمة إلى الحياة والكون والفن . و بهذا تقول الحركة بنظرة للأمة السورية إلى الحياة والكون والفن .
إن الحركة القومية الاجتماعية تعتبر نفسها ممثلة الأمة السورية والمعبرة عن حقيقتها والباعثة من جديد نظرتها إلى الحياة والكون والفـن. وليست الحركة القومية الاجتماعية هي التي ابتدعت هذه النظرة ووضعت خطوطهــــا وحددت مراميها، فعمل الحركة القومية الاجتماعية هو الكشف عن الحقيقة السورية واعادة الاتصال بخط النفس السورية من أجل ارجاع سورية إلى محور نفسيتها الأصيلة والسير بها في تحقيق مصالحها المادية- الروحية وفي جعلها قادرة على الاشتراك في الخلق التاريخي ، بصنع تاريخها .
في «الصراع الفكري» عالج سعاده قضية الموسيقى من وجهتها التعبيرية، وأظهر كيف يكون التعبير الفني من قبل شخص فعلت فيه نهضة أمته وجعلته قادرا على التعبير عن مواهب خط نفسية أمته و نظرتها إلى الحياة، إلى مثلها العليا.
إن الحركة القومية الاجتماعية تقدم القواعد الأساسية والاتجاهات الفكرية العامة التي بدأت تبني الصرح الجديد لنظرة النهضة الجديدة، ففلسفتها هي نقطة انطلاق الفكر والادب والتحقيق الحياتي الشامل، وليست نطاقا محدودا بحصر فيه الفكر ويحد فيه النشاط الخلاق. ففي اللحظة التي يتوقف فيها عمل العقل في الحركة وينحصر مجهود الفكر في الدوران حول نفسه تتجمد التعاليم التي تركها سعاده وتصبح الحركة القومية الاجتماعية مع مرور الزمن طائفة ذات إيمان متحجر.
إن التعبير عن نظرتنا، كأمة، إلى الحياة والكون والفن لا يحصل بالجدل البيزنطي الذي لا يوصل إلا إلى نتائج مبهمة محدودة في جو سلبي محقر للمدارك العقلية. فالنظرة الجديدة لا تكتمل الا باكتمال نضوج الفكر القومي الاجتماعي وبارتفاعه إلى القمم الفكرية والادبية، الحياتية التي رسمها سعاده ، والتي وضع أسسها و أنار السبل الموصلة إليها .
إن شؤون الفلسفة وقضاياها ليست من اختصاص الجميع. الحركة القومية الاجتماعية ليست جمعية فلسفية ترحب بكل من أراد أن يتلذذ بترداد ما تعلمه من مصادر غريبة أو ما توصل إليه من قراءة بعض الكتب. فلسفة الحركة هي فلسفة حياة جديدة لسورية. إنها الأسس ومراكز الانطلاق للنهضة الجديدة الرامية لتحقيق هذه الحياة ضمن الخطوط التي رسمها سعاده في مبادىء الحركة القومية الاجتماعية، في خطبه ومقالاته وكتاباته المختلفة. وفي ما حقق عملها في حياته.
إن قضية هـذا الجيل من القوميين الاجتماعيين هي قضية نفسية في المكان الأول وليست قضية فكرية مجردة. فهذا الحيل هو جيل قلق معذب وهو يعاني نوعين عميقين من الألم : ألم التحقيق وألم العجز الذي يجابهه في التحقيق، وليس أقسى، على الذي شع في قلبه نور المثل العليا، من أن يتعثر في تحقيق ما آمن به، اذ انه هو الذي يحكم على نفسه عندما يتعثر قبل أن يحكم عليه الآخرون. وأقسى الأحكام هي التي تحكم بها أنفسنا.
إن القوميين الاجتماعيين الحقيقيين شيء فذ عظيم في سورية، إنهم حملة رسالة خطيرة جدا، هم أمل الأمة الوحيد للخروج بها من حالة الذل إلى المصير العظيم الذي ينتظرها.
إن القوميين الاجتماعيين الحقيقيين في سورية هم الوحيدون الذين يعملون في سبيل تحقيق مثل عليا واضحة الهدف واضحة المعنى، إنهم الوحيدون الذين تغلبوا في صميمهم على الضعف والجبن والانخذال في وجه الصعوبات والآلام التي لم يعرفها جيل في هذه الأمة منذ قرون طويلة .
إنهم قلة اليوم وسيبقون قلة غدا. إذ أن اتباع وحملة الرسالات العظيمة في التاريخ كانوا دائما القلة المؤهلة لحمل هذه الرسالات، ومهمتهم العظمى ليست الانتصار السياسي وحسب، فالانتصار السياسي انتصار جزئي، إن مهمتهم خلق نهضة جديدة في الأمة، في صفوفهم أولا ومن ثم في جسم الأمة كلها .
لقد نزلت بالحركة نكبات عديدة خلال السنوات الأحدى والعشرين الاخيرة، نكبات لو نزلت بغيرها لحطمته. ولكن مشعل النهضة القومية الاجتماعية لم يخفت يوما، بل بقي ساطعا حتى في أحلك الأيام سوادا إذ أن السواعد التي رفعته هي سواعد جبابرة وأبطال في هذه الأمة . ..
إن بطولة القوميين الاجتماعيين الحقيقية ليست فقط في أنهم كانوا الوحيدين في الشرق الأوسط كله الذين استطاعوا أن يجابهوا الموت في سبيل مبدأ وعقيدة، بل هي أيضا في سيرهم المستمر وفي عملهم الصامت يوما بعد يوم وفي إرادتهم التي بقيت تفعل وتحقق في أحلك الأوقات عندما ظن الناس أن الحزب السوري القومي الاجتماعي قد قضي عليه ليطويه النسيان .
إن بطولة حية كهذه هي التجسيد الأعظم لما تقول به الفلسفة القوميـة الاجتماعية، إذ أنها الرمز الحي للحياة الجديدة التي ترمي النهضة إلى تفجيرها في صميم هذه الأمة، وأن نهضة كهذه لا يمكن لها أن تعجز أو أن تموت مهما قل عدد أتباعها ومهما كثر أعداؤها، فالليل الطويل قد قارب على الانتهاء وتباشير الفجر قد لاحت في الأفق، وسورية الجديدة قد اصبحت واقعا حقيقياً في صميمنا.
في الوطن وفي أنحاء عديدة عبر الحدود يعمل قوميون اجتماعيون عديدون بجد ونشاط وثقة، وعن هؤلاء يصدر كل يوم أدب جديد وفكر جديد وعمل جديد ليزيد من زخم النهضة العاملة ويسير بها شوطا آخر نحو النصر الأعظم.
إن واجب القومي الاجتماعي الأول، اليوم وفي كل يوم ، هو تركيز و تثبيت حقيقة النهضة القومية الاجتماعية في قلبه وروحه وعقله، وهذه الحقيقة واضحة الأسس والمعنى، لا تحتاج إلى عقل يتفلسف، بل إلى نفسية متفوقة وارادة منتصرة
بدون الاستيعاب العميق للمباديء الأساسية للعقيدة القومية الاجتماعية لا يمكن رد الميعان الذي يسيطر على أفراد هذا الجيل ولا يمكن للقومي الاجتماعي الاحتفاظ بالروحية الصراعية التي يتطلبها عمله الجبار.
إن الفلسفة القومية الاجتماعية هي القوميون الاجتماعيون وما يحققون، إذ أنها في المضمار الأخير ليست إلا التجسيد الفعلي للحقيقة العظمى التي ننادي بها، ألا وهي حقيقة الأمة السورية وقدرتها على أن تكون أمة عظيمة متفوقة ...