هذه المحاضرة التي ننشر نصها في ما يلي هي محاولة أولى لإيضاح الفلسفة القومية الإجتماعية المدرحية التي أعلنها سعاده نتيجة أو حاصل التعاليم التي علمها وكونت القضية الكلية الشاملة التي يدين بعقيدتها اليوم ألوف من الشباب يتزايدون يوماً بعد يوم، من الناحية غير المادية (المتافيزية).
وأن التمهيد الموجز في الفلسفة وموضوعها أو مواضيعها الذي صدر به المحاضرة هو تمهيد ضروري ومفيد للذين لا علم لهم بالقضايا الفلسفية ويحبون تتبع الموضوع الفلسفي بفهم.
إن هذه المحاضرة ذات قيمة كبيرة والمحاولة التي اشتملت عليها هي محاولة هامة وجريئة وإن تكن في نتيجتها كما قال عنها المحاضر: «مقدمة لأبحاث كثيرة ستأتي». فهي اذا كانت مقدمة، مقدمة تفتح الموضوع من ناحيته الغير المادية والانطلوجية.
عندما انضممت إلى ركب الرواد السائرين تحت راية الزوبعة الحمراء بقيادة سعاده، وذلك منذ أربعة عشر عاماً، شعرت بأنني دخلت حياة جديدة وبأنني قلبت صفحة جديدة من تفكيري المتوثب ولكن المشوش وقتئذ.
وكنت كلما قرأت شيئاً عن مبادىء الحزب أو سمعت حديثاً من الزعيم، أو مباحثة بين الزعيم وبين بعض من يودون الإنضمام إلى الحركة القومية الاجتماعية، أشعر بأن آفاقاً جديدة من التفكير الصحيح تنفتح أمامي.
ولم أدرك أهمية التعاليم القومية الإجتماعية كل الإدراك، ومدى تأثيرها على التفكير إلا بعد أن طالعت كتاب « نشوء الأمم» في منتصف سنة 1938 وودت لو أن الزعيم بقي في الوطن بعد ذلك التاريخ ليزيدنا فهماً وليفتح أمامنا ما كان مغلقاً لاستيعاب هذه الفلسفة الجديدة.
وكنت في سنة 1935 قد طالعت لأول مرة «عيد سيدة صيدنايا »، و « فاجعة حب» وقبل شروعي في المطالعة سألت نفسي وقلت «وهل الزعيم قصصي كباقي القصاصين الذين يثيرون العواطف والشعور برقة بيانهم وحسن سبكهم .؟» وعندما انتهيت من المطالعة كان جوابي لنفسي : «ليس الزعيم كباقي القصاصين الذين يثيرون العواطف والشعور برقة بيانهم وحسن سبكهم، لأنه يفوقهم بإثارة عاصفة من التفكير الصحيح، لا تلبث أن تصرعك وتستولي على تفكيرك وعقلك وعواطفك ومشاعرك». لقد كانت «عيد سيدة صيدنايا» و « فاجعة حب » من محاولات الزعيم الأولى لتأسيس الفلسفة القومية الاجتماعية.
ويجدر بنا الآن أن نبدأ بحثنا عن الفلسفة القومية الاجتماعية أو النظرة المدرحية بإلقاء نظرة سريعة على معنى الفلسفة، هذه الكلمة اليونانية الكثيرة المعاني، التي كانت تختلف تبعاً لاختلاف المفكرين في جميع العصور. ونكون جد مخطئين اذا تابعنا غيرنا من أصحاب الفكر وقلنا مثلهم إن الفلسفة تبدأ من اليونان فقط بدلاً من أن نقول أن كلمة فلسفة قد وضعها الأقريك إذ أن مدلول ومفهوم هذه الكلمة كان موجوداً من قبل عهد الأقريك بالآف السنين عندما كان حكماء السوريين على صفاف الفرات ودجلة وتحت خمائل بردی وعلى شواطىء الأبيض المتوسط يبحثون ويناقشون ويشرحون ويعلمون. وتاريخ الفلسفة ما يزال بحاجة إلى من يزيح الستر عن الحقبة السابقة لعهد الأقريك إلى الآن. وهذا ليس بمستعصى على رجال النهضة السورية القومية الاجتماعية إذ أن سوريا تلعب في ذلك العهد دوراً أكبر من الدور الذي لعبته بلاد اليونان في العهد التالي:
وهذه اللفظة الأقريكية الأصل مركبة من كلمتين تعنيان (محبة الحكمة) وليس هنا المجال للخوض في تفاصيل التطورات التي رافقت تاريخ هذه الكلمة ومراميها، غير أنه من المتفق عليه مؤخراً بين أكثرية العلماء والمفكرين، إن لم نقل كلهم، إن الفلسفة تتناول مختلف العلوم وكأنها شيء واحد منسجم وتلقي عليها نظرة واحدة محيطة وهذا التحديد اتفق عليه منذ أن اعترف العلماء بأن علم النفس (السيكولوجيا) هو علم يقيني ثابت لانه منذ القديم وحتى أواخر القرن الماضي كان علم النفس أو بتعبير آخر«دراسة العقل النظرية والتجريبية» هو من اختصاص العلم الميتافيزيكي،أو بالأحرى لم يكن الميتافيزيك إلا العلم المختص بالعقل فقط، (سير وليم هاملتون) محاضرات عن الميتافيزيك الجزء الأول صفحة 121 بالانكليزية).
وقد قرنت كلمة الميتافيزيك صدفة بالفلسفة حتى أصبحت تقريباً مرادفة لها - (وهناك أبحاث شائقة بهذا الصدد لا مجال لايرادها الآن) ولكن اريسطو كان يدخل تحت موضوع الفلسفة، علاوة على الرياضيات، جميع الأبحاث الطبيعية التي قام بها والتي كانت تقسم إلى قسمين: الفلسفة الطبيعية والفلسفة الأدبية أو العقلية (دائرة المعارف البريطانية - الطبعة الرابعة عشرة الفلسفة).
غير أنه بعد أن أصبح علم النفس من العلوم اليقينية الثابتة أصبح من الممكن أن يقال أن الفلسفة هي خلاصة المعرفة أو مذهب المعرفة بصورة إجمالية. وقد أطلق أفلاطون على الفيلسوف إسم «سينوبتيكوس» أي صاحب النظرة الإجمالية إلى الكون. ولذلك نرى أن الفلسفة لا تعنى بالجزئيات من المعرفة بقدر ما تعنى بالكليات أو المبادىء والأصول الأساسية للأشياء، بينما العلوم على اختلافها هي التي تعني بالجزئيات، كل علم حسبما يخصه ويدخل ضمن نطاق بحثه بقطع النظر عن أبحاث العلوم الأخرى. ولذلك نرى أن الكيماوي ببحث بالكيمياء على حدة وكذلك الفلكي والرياضي والنفساني والبيولوجي والمؤرخ والطبيب والخ... كل منهم يبحث ويكتشف ويصنف ويخوض في الجزئيات المختصة بعلمه فقط الى درجة الذوبان فيها. غير أن الفيلسوف يأخذ خلاصات جميع هذه العلوم والأبحاث ويحاول أن يصوغها في قالب واحد ويلقي نظرة واحدة شاملة محيطة لينظمها كلها في سلك واحد ويستخلص حقيقة واحدة كبيرة. وقد يخطىء هذا الفيلسوف أو يصيب في محاولته لهذه الصياغة تبعاً لاستعداده الفكري ودرجة عبقريته وقوة استيعابه لمختلف الخلاصات من تلك العلوم، وبالنظر لهذا التفاوت العقلي والتفاوت العلمي أحياناً بين مختلف الفلاسفة نشأت المدارس الفلسفية المختلفة القديمة والمتوسطة والحديثة.
ولم يكن الفرق بين العلم والفلسفة والعلاقة بينهما أشد وضوحاً عند أحد منهما عند الزعيم، الذي قال في مقدمة كتابه الأول من مؤلف «نشوء الأمم»: «أن «نشوء الأمم»كتاب اجتماعي علمي بحت تجنبت فيه التأويلات والاستنتاجات النظرية وسائر فروع الفلسفة،ما وجدت إلى ذلك سبيلاً» فالزعيم لا يخلط بين العلم والفلسفة كما يفعل عدد من العلماء الأميركان وغيرهم، خصوصاً في علم الاجتماع الدقيق. ولكن كمال العلم في «نشوء الأمم» هو ما جعل الزعيم يتوج، الحقائق العلمية التي أثبتها وحللها أدق تحليل بنظرات فلسفية عميقة تناولت قضايا كونية أساسية. وكانت نصيحة الزعيم لفايز صايغ قبل طرده وقبل ظهور تمرد فايز صايغ و خيانته هي: «إذا كنت تريد التعمق في الفلسفة والوصول إلى فهم حقيقي للوجود يمكنك من تكوين رأي فلسفي فعليك بدرس علوم أساسية كعلم النفس وعلم الحياة وعلم الإنسان وغيرهما من علوم الإجتماع».
وإذا اعتبرنا أنه هنالك حقيقة واحدة في الكون كله، وأن العلوم، كل علم على حدة، يحاول أن يكتشف كل ما يستطيعه من مجرى تلك الحقيقة الواحدة فيتبع ذلك، أنه كلما تشعبت العلوم في اختصاصها، وكلما زاد الإخصائيون في الكشف عن مختلف الحقائق الجزئية المتعلقة بذلك الفرع بعينه، اتيح للفيلسوف الفرصة الفضلى في التوصل إلى صياغة أكمل لنظرته الإجمالية الشاملة.
وكل فلسفة لا تكون مرتكزة على خلاصات صحيحة لمختلف أجزاء المعرفة، تكون فلسفة ناقصة، معرضة في كل وقت للإنهيار تحت مطارق البحث والانتقاد.ففلسفة أريسطو ثبتت نيفاً وألف سنة لأن أرسطو نفسه جمع من أجزاء المعرفة والعلوم قدراً كبيراً لا يستهان به وعلى أساسه بني فلسفته.
وعندما تجمع للإنسان القدر الوافي من المعارف والعلوم المختلفة في عصر النهضة وما بعده، قام المشككون والالحاديون بفلسفتهم المغايرة لتعاليم وعقيدة الكنيسة معتمدين في ذلك على الحقائق العلمية التي كانت قد اكتشفت في عصرهم والتي تختلف وما جاء في الكتب المقدسة.
وقام غيرهم معتمداً على الإكتشافات يحاول أن يصلح بها تطرف المشككين ويوجد تسوية معقولة تنسجم مع العقائد الكنسية والإكتشافات العلمية .
وقد شهد القرن الماضي صراعاً عنيفاً بين مختلف العقائد الفلسفية إن في الغرب أم في الشرق الأدنى. وأخذت الفلسفة أخيراً تعتمد في الدرجة الأولى على العلوم التي أظهرت الكثير من الحقائق المدهشة التي لم تكن لتخطر على بال قبل هـذا التقدم العلمي.
وقد تم التقدم العلمي بعد صراع عنيف بين الفكر المتحرر المتحرك وبين العقائد الدينية المتوارثة منذ العصور القديمة، أو بكلمة أخرى بين المعرفة القائمة على التجربة والاختبار وبين المعرفة القائمة على العقائد المنزلة المتمركزة في النفوس Dogma)).
الفلسفة المادية والفلسفة الروحية
ونتيجة لهذا الاصطراع العنيف بين العقائد الدينية وبين الفكر العلمي المتحرر اتخذت الفلسفة اتجاهين مختلفين أحدهما الإتجاه الروحي والآخر الإتجاه المادي .
وينطوي تحت هذين القسمين الرئيسيين مدارس متعددة من التفكير الفلسفي، ولكنها لا تخرج في خطوطها الكبرى عن كونها إما روحية أو مادية.
وسأحاول أن أرسم خلاصة سريعة لكل من هذين القسمين لتساعدنا فيما بعـد على تفهم الفلسفة القومية الإجتماعية المسماة بالفلسفة المدرحية أو المادية الروحية.
فالفلسفة الروحية على اختلاف مدارسها تقول بالخالق غير المنظور، الموجود وراء مظاهر هذا الكون المتعددة يحركها بكلمة قدرته. وأن روح الإنسان هي نسمة من روح الله حلت في الجسم المادي الزائل. وبأن هذا الكون المادي المحيط بنا زائل، والثابت الأبدي هو الكون الروحي الذي هو الأمثل. وهذا المنظور ما هو إلا محاولات فاشلة لتقليد الأصل الروحي والوصول إلى الكمال الأصلي المرتكز على الأزلي الوجود والكلي القدرة.
ولذلك يمكننا أن نقول أن الفلسفة الروحية على اختلاف فروعها ما هي إلا مرافعات جريئة فذة وجذابة غايتها الدفاع عن العقائد الدينية القديمة، الوثنية منها، والكتابية، مرتكزة على بعض من الحقائق العلمية لاثبات دفاعها هذا. وهي تعتمد في الأكثر على جهل الإنسان للكثير من الحقائق العلمية كي تبرهن على قصور العلم وبالتالي الإنسان عن استيعاب الحقائق الأزلية المركزة في الكائن الأوحد، والتي عرفها الإنسان فقط بواسطة الوحي أو التنزيل أو الكشف.
أما الفلسفة المادية فهي لا تعترف بشيء من هذا الأصل الروحي غير المنظور. تأخذ المادة المنظورة أساساً لبحثها. وهي ترى أن الفكر في الإنسان ما هو إلا مظهر من مظاهر المادة المتطورة. وأن التفاعل بين مختلف العناصر هو أساس تنوّع الأشياء ووجودها وأن الحياة هي نتيجة للتفاعل، الكيماوي العضوي، وكذلك الانسان وتفكيره وشعوره. ولذلك فهي تنكر أي وجود للروح (من حيث هي كائن مستقل حسب تعليل الفلسفة الروحية ) في هذا الكون المنظور المادي. وتعتبر هذا المنظور هو بداية ونهاية كل الأشياء، وتعتمد على الحقائق العلمية المكتشفة وعلى قوة عقل الإنسان وتفكيره في الكشف عن بقية حقائق الطبيعة. ولذلك فهي تشكل هجوماً عنيفاً هداماً لكل النظريات والمعتقدات الدينية، مرتكزة في الدرجة الأولى على التجربة والاختبار، ومعتمدة على التسلسل المنطقي في البحث عن الأمور وأسبابها.
هذه خلاصة جد موجزة لكل من الفلسفتين المادية والروحية وهي كما يبدو للفكر تظهر عظم الاختلاف بين النظرتين وهو اختلاف اساسي خطير.
الفلسفة المدرحية
وفي وسط هذا الخضم المتلاطم من التفكير الإنساني، ما بين روحي ومادي. يبرز على شاطيء هذا البحر السوري تفكير فذ من نوع جديد، تفكير يجمع ما بين الروحية المفرقة والمادية المتطرفة. تفكير ينسجم مع الحقائق العلمية العديدة، ولا يخالف الظواهر الروحية المثبتة بالإختبار. تفكير هو مزيج بين المادة والروح. تفكير مدرحي، سيكون له أثره الفعال في التفكير الإنساني والتراث العالمي سیثبت طويلاً، وطويلاً جداً تحت مطارق البحث والانتقاد.
وقد يجد الكثيرون في بعض تعاليم هذه الفلسفة المدرحية مشابهة بينها وبين بعض مدارس الفلسفة الروحية أو مدارس الفلسفة المادية. فقد نراها تتفق مع توما الأكويني في التفريق بين المعرفة الطبيعية والمعرفة اللاهوتية ولكنها تعارضه تماماً في اخضاع الإرادة للمعرفة أي جعل الإرادة تابعة للمعرفة. وقد تتفق مع ديكارت في قوله : « كل ما أفهمه بجلاء هو حقيقي» ولكنها تخالفه في نظرته المختصة بعلاقة الروح بالجسد والقائلة «بأن الروح لا تؤثر في الجسد ولا الجسد في الروح، بل أن أي تغيير في إحدهما يتيح الفرصة للتدخل الإلهي في الآخر لينتج تعبيراً شاملاً»...
وقد ترى في وحدة الوجود عند سبينوزا ما يتفق مع بعض نظرات الفلسفة المدرحية. وكذلك نرى أن «الفكرة Idea»عند لوك التي أساسها الإختبار والفهم تتفق مع النظرة المدرحية المرتكزة على تقدير وادراك الحقيقة. وكذلك نظرة باركلي القائلة: «بأن كل شيء في السماء وعلى الأرض وكل ما يؤلف هذا الهيكل العالمي الجبار ليس له كيان خارج نطاق العقل أو الفكر» تتوافق مع النظرة المدرحية القائلة : «الشريعة الأساسية للإنسان هي العقل الذي لا يجوز أن تعطله شريعة أخرى».
وفي فلسفة كانت tnaK الانتقادية وتقسيمه الأشياء إلى نوعين نوع مدرك بالعقل (apriori) ونوع مدرك بالاختبار( (aposterio نری توافقاً بينها وبين المدرسة المدرحية القائلة «بالتفاعل الموحد الجامع القوى الإنسانية». وكذلك نرى توافقاً آخر بين ما يقوله الزعيم من أن «إذا غلط امرؤ في استنتاج أو تأويل أو في حس ما فيصلح غلطه باستنتاج إمرىء آخر أو تأويله أو حسه الصحيح». وبين قول هيكل بأن: الفكر يستطيع أن يخرق حجاب الكون». وكذلك نرى بين قول نيتشه بأن «الحق شيء يجب أن يخلق وليس شيئاً قائماً ينتظر من يكتشفه» وبين قول الزعيم «الحق انتصار على الباطل في معركة إنسانية وليس في معركة غيبية تجري وراء هذا العالم ولا يشترك فيها الإنسان» تشابهاً مقارباً.
ثم اذا استعرضنا فلسفة «كونت» etmoC اليقينية القائمة على التجربة والاختبار والقائلة بأن كل شيء خارج عن نطاق الإختبار لا يستطاع معرفته. وإذ القينا نظرة على فلسفة التطور الانبثاقي ( Emergent Evolution )وما يشاكلها ويتبعها من نظرية المكان الزماني، (Space-Time)، وجدنا أن هنالك بعض الأشياء تتوافق مع الفلسفة المدرحية ولكنها من نوع آخر.
ولقد يتبادر إلى ذهن البعض من غير المتعمقين في دراسة النظرة القومية الإجتماعية المدرحية، أن الفلسفة المدرحية لا تخرج عن كونها من ذلك النوع المنتخب التجمي ( (Eclecticism وهي تلك الطريقة الفلسفية التي تأخذ من كل نظام فلسفي فكرة تتبناها وتجمعها بعضاً إلى بعض بدون اتساق ولا انسجام. غير أن الفلسفة المدرحية لا يمكن لها أن تكون من هذا النوع مطلقاً، إذ هي ترتكز إلى أساسات منسجمة، متلاحمة، تستند إلى الحقائق العلمية المتينة، وتمتاز بنظرتها العميقة الفذة إلى الحياة الاجتماعية والمجتمع، وترى في الفرد امكانية انسانية، وفاعلية اجتماعية، وترتفع إلى الأوج في إدراك المفاهيم الصوابية للخير والحق والجمال، كما سنرى فيما بعد. ولذلك نستطيع أن نقول بكل اطمئنان بأن الفلسفة القومية الاجتماعية ونظرتها المدرحية هي اتجاه ثالث جديد من اتجاهات التفكير الفلسفي، هو الاتجاه الصوابي والمخرج النظري في التفكير الانساني .
مرتكزات الفلسفة المدرجة
والآن بعد هذه المقدمة يجدر بنا أن ننتقل إلى القسم الأساسي من الموضوع وهو «ماهية هذه الفلسفة القومية الاجتماعية» الموسومة بالمدرحية، وهذا القسم هو بالحقيقة يشكل موضوعاً خطيراً يستطيع الباحث فيه أن يكتب المجلدات الطوال ولا يفيه حقه من البحث. ولكني سأحاول جهد المستطاع كي ألقي نظرة سريعة مقتضبة حول هذا الموضوع. وابدأ بمحاولة تلخيص المرتكزات الكبرى لهذه الفلسفة على الوجه الآتي:
أولاً - إنها لا تبحث في منشأ الكون بل في الإنسان، والقيم الإنسانية، تتخذ«الإنسان - المجتمع» أساساً لها وليس الإنسان الفرد الذي ليس له وجود حقيقي. وتعتبر أن القيم الانسانية هي قيم اجتماعية، قيم متحدية، لا قيم فردية.
ثانياً إنها ترتكز على شريعة العقل، الذي لا يجوز أن تعطله شريعة أخرى، ولذلك تعتبر أن الحقيقة هي قيمة فكرية تحصل في العقل أو الضمير بواسطة المعرفة فقط، ولا تعتمد على الحدس والتخمين الذي يجعل افتراض المجهول قاعدة للحكم، وأن الحق ليس شكلاً أو قيمة مادية بل هو انتصار على الباطل في معركة انسانية وليس في معركة غيبية أو إلهية تجري وراء هذا العالم ولا يشترك فيها الإنسان، المجتمع الإنساني.
ثالثاً ـ إنها تعتمد على تفاعل الروح والمادة، على التفاعل الموحد الجامع القوى الإسانية .
رابعاً - إنها تعتبر أن المجتمع هو الوجود الإنساني الكامل والحقيقة الإنسانية الكلية. ولكنها تقول في الوقت نفسه بأن «المجتمع الإنساني ليس الإنسانية مجتمعة» بل هو «واقع مجتمعات ، واقع أمم تتصادم وتننازع موارد الحياة».
خامساً ـ أنها تهدف من وراء كل شيء الى اقامة نظام جديد من النوع الذي تتطلبه حياة انسانية اجتماعية مرتقية.
هذه هي خلاصة المرتكزات الكبرى للفلسفة القومية الاجتماعية التي جاء بها سعاده، ويمكننا أن نجد في كل مقال أو كتاب أو حديث أو بحث صدر عن الزعيم، واحداً أو أكثر من هذه المرتكزات ولا يسعني هنا إلا أن أنصح رفقائي بأن يراجعوا دوماً وأبداً جميع ما صدر عن الزعيم فيروا في كل مرة قبساً جديداً يضيء لهم ما خفي من فلسفته الخالدة التي لا يمكنني في هذه العجالة القصيرة إلا أن ألم بها إلمامة جزئية قد تكون بمثابة مقدمة تحث الراغبين لدراسة هذه الفلسفة الجديدة.
ولنأخذ النقطة الأولى التي تبحث في الإنسان والقيم الإنسانية، نرى أن سعاده قد اختط خطة فذة علمية عملية. فهو لم يبحث في منشأ الكون ولا في المتفرعات المعقدة المتناقضة في هذه القضية. ولو فعل ذلك لكان مثل غيره من الفلاسفة الروحيين أو الإلهيين الذين لا يخرجون عن كونهم أحد اثنين.إما مدافع عن قضايا الوحي والتنزيل والخالق والخليقة مدافعة صريحة ترتكز إلى معتقدات ( Dogma ) تلك الأديان، وإما مختط طريقة الحدس والتخمين والإفتراض مجبولة بالمنطق المتسلسل الذي قد يبدو حقيقياً في بعض الأحيان،تلك الطريقة التي تنتج فلسفة ترتكز إلى اللامنظور وتتعاطى باللامحسوس من الأمور التي تفترضها وتعتمد على اللاشعور في سبيل ترسيخ حقائق الوجود، فيكون بذلك قد خاض «معركة فكر غيبية» ليحصل على حقائق مفترضة ليست من المجتمع الإنساني في شيء بل: نرى أن سعاده بأخذ الانسان والمجتمع الإنساني كالواقع الأساسي ويبحث ويحلل ويقارن، فيما صدر ويصدر عن الإنسان من خير وحق وجمال، من تفكير وشعور وإحساس وأعمال، ليرى أمامه هذه الحقيقة الكبرى وهي «أن الخير والحق والجمال والحقيقة هي قيم اجتماعية، متحدية،لا قيم فردية. لا الكثرة ولا القلة تقرر الحق وتفرضه فرضاً. وإذا لم تكن الكثرة ولا القلة أساس تقرير الحق، فبالأولى أن لا يكون الفرد أساس تقرير الحق وذا السلطان لفرضه.إن مسألة الحق ليست مسألة عددية، بل مسألة انسانية اجتماعية. الحق قد يبتدىء بفرد، أو بعدد قليل ضئيل، وقد يبتدىء بعدد كثير، ولكن شرط الحق في الإنسانية ليكون حقاً، أن لا يعلن نفسه ساعة ويختفي، وأن لا يختزنه العدد الفردي أو المجموعي في نطاقه الخاص فيفنى فيه. أن لا يكون حقاً عددياً بل اجتماعياً لا ينفرد فيه الفرد ولا يستقل به العدد بل يمتد في المجتمع بلا حدود، في المتحد نفسه في تعاقب أجياله. الحق ليس فردياً ولا عددياً،فهو لا يموت مع الفرد ولا يفنى مع العدد، إن الحق اجتماعي يظل قائماً ما ظل المتحد قائماً» (النشرة الرسمية - العدد الثاني - المجلد الأول). ومـا يصدق عن الحق يصدق عن الخير والجمال وجميع القيم الإنسانية الأخرى. فهي ملك المجتمع وإن كانت قد صدرت عن أفراد، ولا وجود لها خارج المجتمع الإنساني إلا على سبيل الافتراض. ويجب أن نلاحظ أن هذه القيم لا تزداد قدراً إذا افترضنا إنها حقائق مجردة مطلقة موجودة في عالم منظور يسعى الإنسان إلى اكتشافها ومحاكاتها، كما يفعل الفلاسفة الروحيون. كما أنها لا تنقص قدراً أذا افترضنا انها نتيجة للتفاعل الكيماوي العضوي في خلايا دماغ الإنسان كما يعتقد الفلاسفة الماديون، غير أن هنالك حقيقة واحدة في كلتا النظريتين، وهذه الحقيقة هي أن كلا الحلين هما مجرد حلول «افتراضية» قد تكون مخطئة أو مصيبة، ولا سبيل جازم لأثباتها أو نفيها. ولكن الواقع العلمي والحل الصوابي هو أن نقرر ألأن هذه القيم بقطع النظر عن منشأها - إن من مصدر إلهي أو تفاعل مادي هي قيم اجتماعية، متحدية، تمتد في المجتمع بلا حدود في تعاقب أجياله، يشترك فيها الإنسان في معركة انسانية، سلاحه العقل وساحة نضاله المجتمع. وعلى أساس هذا المفهوم العلمي الحقيقي الصوابي،يمكن لهذه القيم أن تمتد وتنتشر وتتفاعل ليس في نفس «الإنسان الفرد» بل في نفس «الإنسان المجتمع».
واذا انتقلنا إلى النقطة الثانية التي ترتكز على العقل في فهم الحقيقة بواسطة المعرفة رأينا ما للعقل من أهمية في هذه الفلسفة، ولكن العقل المقصود هنا ليس عقل الإنسان الفرد بل عقل « الإنسان - المجتمع» العقل المتفاعل في المجتمع الذي يستمر في تفاعله إلى أن يهتدي إلى الصواب وسط الخضم المتلاطم المؤلف من أفراد كل واحد منهم هو «انسان اجتماعي» وليس «إنساناً فرداً» وبهذا الصدد يقول سعاده «إذا غلط امرؤ في استنتاج أو تأويل أو في حسٍ ما فيصلح غلطه باستنتاج امریء آخر أو تأويله أو حسه الصحيح.» (النظام الجديد إبريل سنة 1948). أما الأفراد الخارقون الذين يخلقون ويشرعون ويقيمون النظم ويصبحون هواة للمجتمع فهم أفراد «كأن نفس الواحد منهم مؤلفة من كل النفوس» (أي نفوس المجتمع) «فاجعة حب والصراع الفكري». والمعرفة المبنية على العقل من بعد الاختبار والدرس والتمحيص والمقابلة والمقارنة في سياق التفاعل الاجتماعي الطويل، تكون أصوب من الإستنتاج المبني على الحدس والتخمين بعد افتراض المجهول. والحق المنتصر على الباطل في معركة انسانية مرتكزة على المعرفة العقلية، هو الحق الأصوب، هو الحق الحق. إذ أن حقاً يحصل في معركة غيبية أو إلهية تجري وراء هذا العالم ولا يشترك فيها المجتمع الإنساني، لا يخرج عن كونه حق مفترض حصوله أي قد يحصل أو لا يحصل - وحق من هذا النوع لا يمكن أن يكون الحق المطلق، بل الحق المطلق والقيم الفكرية المطلقة هي التي تحصل في العقل ضمن المجتمع الإنساني بواسطة المعرفة، المجتمع الإنساني الذي هو وحده المسرح الوحيد الذي تمثل عليه شتى المعارك والانفعالات الفكرية التي تصدر عن عقل «الإنسان - المجتمع» حتى وعن عقل الإنسان الفرد لو سلمنا جدلاً بوجوده الحقيقي، أو باعتباره ناحية من نواحي المجتمع.
واذا انتقلنا إلى النقطة الثالثة القائلة بالتفاعل الموحد الجامع القوى الإنسانية، يتجلى لنا صدق هذه الفلسفة وصوابيتها. أذ إن القوى الإنسانية المؤلفة من روح ومادة كانت ولا تزال تفعل في المجتمع وفي الكون منذ وجود الإنسان على وجه الأرض إلى هذا اليوم. والفكر الفاعل هو الذي يكيف المادة المنفعلة فينتج العلم والثقافة والحضارة والعمران. وعلى هذا التفاعل الموحد الذي يرتكز إلى الحقائق الحاصلة في العقل بواسطة المعرفة نشأت المجتمعات الإنسانية وتطورت وستستمر بتطورها إلى بلوغ الغاية القصوى .
وإذا انتقلنا إلى النقطة الرابعة القائلة بأن المجتمع هو الوجود الإنساني الكامل، والحقيقة الإنسانية الكلية، وأن هذا المجتمع الإنساني هو واقع مجتمعات، واقع أمم تتصادم وتتنازع موارد الحياة، لادركنا خطورة هذه النظرة من وجهة معالجة المشاكل القومية والمشاكل العالمية في وقت واحد. إذ على ادراك حقيقة هذه النظرة ذات الشقين أولاً: «المجتمع هو الحقيقة الانسانية الكلية وثانياً: هو في الوقت نفسه واقع أمم تتصادم وتتنازع موارد الحياة » أقول على ادراك هذه الحقيقة الثنائية، يتم حل جميع المشاكل التي ما تزال البشرية تتخبط فيها وتنتقل من حرب إلى أخرى ومن كارثة إلى كارثة، لأن ادراك مغزى هذين الشقين لهذه النظرة، اللذين يبدوان متناقضين لأصحاب الفكرة السطحية، يعطي الأساس الصوابي لوضع الحلول العملية الموفقة التي تقضي على الشر وتنتج الخير لهذا المجتمع الإنساني الذي فيه تتجلى جميع القيم العليا.
والآن لننتقل إلى المرتكز الخامس. الذي هو هدف هذه الفلسفة، إلا وهو : «إقامة نظام جديد من النوع الذي تتطلبه حياة انسانية مرتقبة» لنرى كيف أن جميع تلك المرتكزات الكبرى تتجمع كلها وتصل إلى القمة في هذا المرتكز الأخير، الذي ما هو إلا تعبير موجز لمبادىء الحزب القومي الاجتماعي وتعاليمه وعقيدته، هذه المبادىء التي هي في الواقع تطبيق عملي شامل لجميع المرتكزات الفلسفية التي تتألف منها فلسفة سعاده
المبادئ هي التطبيق العملي للفلسفة القومية الاجتماعية
وأنني أدعوكم الآن إلى أن تلقوا معي نظرة شاملة على هذه المبادىء لنرى كيف أنها تمثل التحقيق العملي للفلسفة القومية الاجتماعية المدرحية. وأني أنصح الذين يريدون أن يتمكنوا من التعمق في فهم فلسفة سعاده، أن يدرسوا بإمعان رسالته إلى الدكتور مالك ومحاضراته الأخيرة التي شرح فيها المبادىء الأساسية و الإصلاحية، ومن ثم ليراجعوا كتابه «نشوء الأمم» ليروا أية روعة فكرية عميقة تطالعهم، وأية لذة فلسفية تدغدغ أدمغتهم. وقصدي الآن من هذه النظرة السريعة حول المبادىء وجذورها الفلسفية أن أحاول إظهار قسم صغير جميل من هذه الروعة الفكرية واللذة الفلسفية التي يعطينا إياها سعاده. فهو في الدرجة الأولى يأخذ الأمة السورية باعتبارها إحدى المجتمعات التي يتألف منها واقع المجتمع الإنساني ويظهر ماهيتها بأنها أمة تامة أي مجتمعاً كاملاً، وهي الخطوة الأولى الواجبة والضرورية التي بواسطتها يدخل المجتمع السوري إلى حلبة الصراع بين بقية المجتمعات التي تتألف منها الإنسانية، ويحددها بأنها هيئة اجتماعية واحدة، الشيء الذي يعني بأنها مؤلفة من أناس، أفراد، اجتماعيين، يتم بينهم التفاعل الاجتماعي الذي به يدركون حقيقة كيانهم. ومن ثم ينتقل إلى الجزء المادي من الأمة وهو الأرض، الجزء المنفعل والفاعل بنفس الوقت، المنفعل بصفة تحوله إلى غذاء وكساء وبناء وعمران، والفاعل بصفة كونه مؤثراً أساسياً في دفع الخاصية السورية على مختلف الأفراد الاجتماعيين، الذين يؤلفون بمجموعهم وبتفاعلهم الإجتماعي، الأمة السورية، ويُظهر أهمية الأرض (الوطن) كشيء أساسي لنشوء الأمة، ويدلل على أهمية التفاعل الاجتماعي عندما يقول: الأمة السورية هيئة اجتماعية واحدة، تستمد النهضة روحها من تاريخ الأمة السياسي والقومي «ويضرب بالفردية الأنانية عرض الحائط عندما يعلن بأن مصلحة سوريا فوق كل مصلحة»
وهو بعد أن يضع هذه التحديدات الأساسية للأمة والوطن ويظهر أهمية التفاعل الاجتماعي، يعود ليعالج الناحية الروحية من الأمة، معالجة أساسية تنسجم مع المرتكز الفلسفي الثاني القائل بأن الحقيقة هي قيمة فكرية تحصل في العقل،- العقل الذي لا يجوز أن تعطله شريعة أخرى. فنراه يقول بفصل الدين عن الدولة ومنع رجاله من التدخل في شؤون السياسة والقضاء، وإزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب. وهو بذلك يرمي إلى إقامة دولة العقل المنفتح على الحقائق الحقيقية، لا على التعصب البغيض الذي يعطل بجموده عملية التفاعل الاجتماعي وبالتالي يعطل الحياة من أصولها. وقد جاء في محاضرة الزعيم الثانية في الندوة الثقافية في 18 يناير سنة 1948 ما يلي: «هنالك فقرة خاصة في الخطاب (خطاب الزعيم سنة 1935) تشير إلى قضية خطيرة من القضايا التي يجب علينا حلها في الحزب السوري القومي الاجتماعي. إن نظامنا يرمي إلى صهر التقاليد المنافية لوحدة الأمة. والتقاليد كما أوضحت في «نشوء الأمم»ليست شكلية، سطحية، بل لها مساس بالاقتناعات العميقة في نفس الإنسان،وهي تختلف عن العادات، فالعادات هي التي يمكن أن تتغير بسهولة لأنها تتعلق بسطحيات الحياة، أما التقاليد فلها علاقة بالاقتناعات النفسية العميقة. فالتقاليد التي تمثل إما مبادی، أو استمرار مبادیء ليست لأجل حياة الأمة وارتقائها، يجب أن تصهر لأجل الحياة، وليس لأجل أن تكون الحياة لها. إن التقاليد هي في عرفيا كالمبادىء، للحياة، وليست الحياة للتقاليد.» وهذا يرينا بوضوح أهمية النظرة العقلية القائمة على المعرفة الحقيقية.هذه النظرة التي تطلب دوماً وأبداً كل ما هو خير وحق للمجتمع البشري وترفض كل ما يعرقل سير الحق القائم في المجتمع، الحق الذي «هو انتصار على الباطل في معركة انسانية وليس في معركة غيبية أو إلهية تجري وراء العالم» وهذه النظرة تتطلب من معتنقيها إعادة دراستهم لدينهم، ليكتشفوا الحقيقة الصوابية لدينهم، ذلك الدين الذي مصدره الله، الله الذي هو نفسه مصدر العقل في الإنسان.
وعندما تتمّ هذه المعالجة الروحية في الأفراد، تكون قد نمت في الأمة بأجمعها التي تصبح فيما بعد موحدة الاتجاه عظيمة الفاعلية في تحقيق جميع القيم الإنسانية. وبالنظر لأهمية هذه النظرة الخطيرة فقد خصص سعاده ثلاثة من المبادىء الخمس الإصلاحية لمعالجة هذه القضية.
ثم بعد أن ينتهي من وضع الأساسات العميقة للاصلاح الروحي أو الفكري، ينتقل إلى الإصلاح الاقتصادي، المادي، الشيء الذي ينتج عنه قوام الفكر والروح، فيعالج هذه الناحية بمبدأ واحد جامع شامل لأعمق أساسات الإقتصاد، فيقول بإلغاء الإقطاع، وتنظيم الإقتصاد القومي على أساس الإنتاج وصيانة مصلحة الأمة والدولة، وبذلك يميز بين مصلحة الأمة المؤلفة من أفراد هم أساس المعالجة وبين مصلحة الدولة التي ما هي إلا أداة لتأمين مصالح الأمة الاساسية. وهو بذلك يرمي إلى إقامة التفاعل الموحّد الجامع القوى الانسانية.
وأخيراً يرى أن الأمة التامة الموحدة والوطن المحدد الواضح، والتفاعل الاجتماعي المستمر، والتفكير الإنساني الراقي المصلح، والاقتصاد القومي الضامن للرخاء والرفاهية، يرى كل هذه الأشياء الجميلة الخيرة،قد تذهب هباء منثوراً، إن لم يكن لها من قوة مادية تحميها عندما «تتصادم الأمم وتتنازع موارد الحياة»و تحرسها لتنمو وتتمكن من الاستمرار في حياتها وتقدمها لتصل إلى الشكل «الذي تتطلبه حياة انسانية اجتماعية مرتقية». ولذلك جاء بالمبدأ الاخير القائل بإنشاء جيش قوي يكون ذا قيمة فعلية في تقرير مصير الأمة والوطن. الأمة: التي هي بحد ذاتها «المجتمع هو الوجود الإنساني الكامل والحقيقة الإنسانية الكلية» والوطن: الذي هو الكيان المادي الصالح لتنشئة جميع هذه الإمكانيات والذي بدونه لا استمرار لها ولا تطور ولا تفاعل. لأنه يعتبر ان القوة المادية هي دليل على القوة النفسية الراقية.
هذه هي لمحة موجزة عن الفلسفة القومية الاجتماعية المدرحية. وهي كما رأيتها فذة في اسلوبها، صوابية في نظرتها إلى الحياة والكون والفن. وجدت لتعبر عن نهضة ولتحقق تلك النهضة، والنهضة لها مدلول واضح عندنا وهو «خروجنا من التخبط والبلبلة والتفسخ الروحي بين مختلف العقائد إلى عقيدة جلية وصحيحة واضحة تشعر أنها تعبر عن جوهر نفسيتنا وشخصيتنا القومية الاجتماعية، إلى نظرة جلية، قوية، إلى الحياة والعالم»(محاضرة الزعيم الأولى في الندوة الثقافية، السابع من يناير 1948.)
وأريد أن ألفت النظر أخيراً إلى نقطة لا تهم القومية بقدر ما تهم غير القوميين، من الذين اطلعوا أو سيطلعون على عقيدة الحزب وفلسفته هي أنه متى وجدت قضية ما، وخاصة إذا كانت شاملة لجميع نواحي النشاط الإنساني من مادي وروحي كالقضية القومية الاجتماعية، يتكون حول هذه القضية عقيدة في نفوس التابعين لها. وهذه العقيدة إذا أتت عن طريق الفهم والمعرفة والادراك، رسخت في نفوس الاتباع رسوخ الدين في نفوس المتدينين. واذا قيل بأن العقيدة القومية الاجتماعية هي دين جديد - وقد قال سعاده هذا القول في مهرجان أميون الكوره سنة 1937 فيعني ذلك أنها راسخة في نفوس الاتباع رسوخ الدين في النفوس، ولا يعني أنها دين من السماء كبقية الأديان. وقد أوضح الزعيم ذلك بقوله في المهرجان المذكور «.... لقد اعتادت هذه البلاد أن تكون مهبط الأديان، وأن ترى الأديان فيها هابطة من السماء إلى الأرض ولكن اليوم نرى شيئاً جديداً، ديناً جديداً صاعداً من الأرض إلى السماء». وقد حورب الحزب من قبل الكثيرين وهوجم الزعيم على الأساس الخاطئ القائل أن سعاده يدعو إلى دين إلهي جديد. ولكن ليطمئن الكثيرون فسعاده لم يدّع النبوّة ولن يدّعيها. ولكنه يدعو الى حياة جديدة بإيمان قوي، بإيمان هو، كما قال في رسالته من الارجنتين في 10 يناير 1947» إيمانكم بي وإيماني بكم. آمنتم بي معلماً وهادياً للأمة والناس، ومخططاً وبانياً للمجتمع الجديد، وقائداً للقوات الجديدة الناهضة الزاحفة بالتعاليم للمثل العليا إلى النصر. وآمنت بكم أمة مثالية معلمة وهادية للأمم. بناءة للمجتمع الإنساني الجديد قائدة لقوات التجدد الإنساني بروح التعاليم الجديدة التي تحملون حرارتها المحيية وضياءها المنير إلى الأمم جميعها، داعية الأمم إلى ترك عقيدة تفسير التطور الإنساني بالمبدأ الروحي وحده، وعقيدة تفسيره من الجهة الأخرى بالمبدأ المادي وحده، والإقلاع عن اعتبار العالم، ضرورة، عالم حرب مهلكة بين القوة الروحية والقوة المادية، وإلى التسليم معنا بأن أساس الارتقاء الإنساني هو أساس روحي - مادي (مدرحي) وأن الإنسانية المتفوقة هي التي تدرك هذا الأساس وتشيد صرح مستقبلها عليه. »
آمل أن أكون قد نجحت في رسم هذه الصورة الموجزة عن الفلسفة القومية الاجتماعية وأن يكون بحثي هذا كمقدمة لأبحاث كثيرة من بقية الرفقاء، كي نفي زعيمنا العظيم بعضاً من حقه علينا.