الأستاذ الرفيق زويا لبيب
بحث الرفيق زويا الحاضر هو محاضرة كان أعدّها لتُلقى في قاعة الندوة الثقافية قبل ختام دورة المحاضرات الشتوية. ولكن اقتراب موعد امتحانات الطلاب ووضع قاعة المحاضرات تحت الإصلاح حالا دون القائها في القاعة في الدورة المنتهية. ولما كان موضوع المحاضرة يشكل حلقة في سلسلة أبحاث «الإنسان في المجتمع» فقد رأى الرفيق زويا عدم تأجيل نشرها.
قد يستغرب البعض حشر كلمة «إنسان» في هذا الموضوع، بينما يرى البعض الآخر في وجودها وجوباً لا مفر منه- ذلك لأن القومية إحدى مقومات الإنسان الاجتماعي بالمعنى الصحيح. فالقومية هنا هي غير القومية المجردة عن كل صفة، والتي اعتاد الناس التكلم عنها ردحاً من الزمن طويلاً، يبتدئ في مستهل القرن التاسع عشر الغابر. ليست القومية التي نعتمد في مدلولها مبادئ الحزب القومي الاجتماعي، من النوع الذي عرفه العلامة الفرنسي رينان في القرن الغابر، إذ قال ما معناه أنها نوع من الشعور الخفي الذي يستحوذ جماعة من الناس تربطهم بعضهم ببعض عناصر ثقافية متعددة، جرى مفعولها ضمن نطاق من الأرض محدود، والذي يضمن اتحادهم للأجيال القادمة، وصيرورتهم دولة. هذا النوع من القومية المجردة عن كل صفة، المطلقة من كل تحديد إلا قيد التحديد اللغوي، هي عين القومية التي جرّت العالم إلى الحرب العظمى الأولى، والتي ذاقت بلادنا منها شر الويلات، إذ تركها مغتصب حاكم، فأتاها من ادّعى الحكمة والإدرك؛ فإذا به لا يقل عن سلفه خطراً على مصلحتها، وغدراً بمبادئ العدل الدولية- تلك الكلمات الطنانة الرنانة التي لا وجود لها إلا بين صفحات الكتب العتيقة، أو في أفواه بعض المتكلمين، جاءها مغتصب جديد، امتصّ ما استطاع من حيويتها فأهملت تربتها الغنية، وسرقت متاحفها الأثرية، وأصبحت في حالة ساءت حتى عجز الناس عن احتمالها، ومع كل ذلك، فقد جرّ عليها ذلك المغتصب الأجنبي الويلات تلو الويلات، فبعث التفرقة بين صفوف أبنائها، وزرع الخلاف بين طوائفها، وجزّأها محافظات وقطاعاً، ورأس جهالها، وزعّم اقطاعييها، ومنع نور الحرية عنها، وخنق كل صوت حر، آملاً أن يكون مآلها الأخير إليه. ولما تركها ولم يكن ذلك عن طيبة خاطر، ترك في قلبها طابوراً خامساً يعتمد عليه كثيراً في الرجوع إليها. ولكن في البلاد عيوناً، لم يقو الجور والظلم الأجنبيان أن يغمضا جفونها، فبقيت يقظة ساهرة، وهي الآن أشد يقظة وأكثر وعياً للمسؤولية الجديدة الملقاة على عاتقها- ألا وهي إيقاظ أبناء الأمة جميعاً إلى حقيقة نفسهم، وعظمة تاريخهم، ودعوتهم إلى السير من جديد، لقيادة العالم العربي في ميدان الحضارة العالمي.
إن هذه المسؤولية الجديدة التي حملتها الأمة السورية من جديد، هي الرسالة الخالدة، رسالة المجتمع السوري إلى العالم- رسالة حق ونور، فيها كل الجمال وكل الحق، وكل الحرية، إنها رسالة حرة لأنها خرجت من صميم الشعب نفسه، بإدراك ذاتي محض، إدراك شعب لمقدراته، وإدراك زعيم لحقيقة أمة. هذه هي الرسالة التي قدمها التاريخ للأمة السورية، رسالة القومية الاجتماعية، إنها رسالة فلسفية اجتماعية تنظر إلى الإنسان من ناحيتين، وتقرر مصيره في كلتا الوجهتين: ناحية الإنسان الفرد، أي من حيث هو مجرد إمكانية، وناحية الإنسان المجتمع أي من حيث هو فعالية، الأولى لا وجود لها إلا في حيز المفترضات، والثانية هي ما حققه الإنسان، ولا يزال يسعى لإشباع تحقيقه.
مصير الإنسان الفرد، إذا اعتبرت فرديته أساساً لوجوده، هو الدمار والخراب، لاستحالة وجود وازع يردعه عن التمادي في أنانيته العمياء، ولعدم كون المجتمع مؤسسة وجودية، لها من قوة الوجود، ما للفرد نفسه في نظر الفرديين. وقد يتساءل البعض هنا، وكيف يكون ذلك؟ وما هي الشواهد التاريخية على ذلك؟ الحقيقة أن سؤالاً من هذا النوع ينقصه الإدراك الفني، إذ أن اعتبار الإنسان الفرد أساس الحياة في شتى مظاهرها يجعل من المجتمع، الذي هو أعظم مؤسسة إنسانية، شيئاً مستحدثاً على الإنسان، غير منبثق عن وجوده وارادته أو من صميمه. وإذا ما نظرنا إلى المجتمع هذه النظرة الفردية، تراءى لنا أن الأساس الاجتماعي للإنسان واهٍ، وأن باستطاعة الإنسان في حالة عدم ملاءمة المجتمع له أن يخرج عليه. ومع أن شيئاً من هذا لم يحدث في التاريخ، إلا أن احتمال حدوثه غير مستحيل، لأن فرديته تقوده إلى ذلك، الإنسان الفرد لا يستطيع أن يؤسس مجتمعاً لأن الطبيعة الاجتماعية هي عكس طبيعته الفردية، ولا يوجد العكسان في نفس الوقت والمكان لتحقيق شيء واحد، مع العلم أن الأساس الذي نعتمده نحن، والذي هو صحيح في نظرنا هو الاجتماعية، وليس الفردية.
هنالك إذن فرق بين القومية الاجتماعية والقومية المجردة. وليس الفرق ناتجاً عن مجرد زيادة كلمة «اجتماعية»: فالفرق ليس كمياً بل نوعياً. القومية المجردة، تعتمد الأمة مجردة من أي تحديد اجتماعي، بينما تقول القومية الاجتماعية بالأمة هيئة اجتماعية واحدة. والفرق كبير بين المدلولين. أن اعتبار الأمة هيئة اجتماعية واحدة، يجعل من القومية أمراً واجب الوجوب نتيجة حتمية منطقية للمبدأ نفسه؛ أما القومية المجردة، فنترك باب الاجتماعية مفتوحاً على مصراعيه لحينما تفرغ من تثبيت أصولها؛ وعندما ترجع إليه لتغلقه، كما هو الواجب، ترى أنها لا تستطيع، وذلك لتضارب الآراء حول اجتماعية الإنسان- تلك المسألة التي لم تفطن إليها القومية المجردة في بدء وعيها. ومع هذا كله، أن بين القومية المجردة والنظرات اللاقومية المتعددة فرقاً كبيراً يتضاءل أمامه الفرق بينها وبين القومية الاجتماعية؛ ففي حين تعترف القومية المجردة بنوع من الشعور العام بين أفراد الأمة الواحدة، وبوجود الأمم كأمم، نرى أن النظريات اللاقومية لا تقيم لذلك الاعتبار وزناً فتطيح بالحدود الجغرافية والتاريخية، وتنسى أو تتناسى الروابط الجامعة بين أبناء الأمة الواحدة، والعوامل الظاهرة التي تفرق بين الأمم، وتقول إما «بالإنسانية العالمية» أو «المجتمعية العالمية» وهذا لعمري نوع من الوهم غريب، اصطنع له البعض لفظاً اتفقوا عليه فيما بعد، ألا وهو الإنسانية. وحقيقة الأمر أنه ليس هنالك انسانية واحدة بل انسانيات، أساسها الأمم وظواهرها القوميات. أن انسانية الإنسان تتجلى في كونه عضواً في مجتمع، ولولا وجود العوامل الجغرافية والحدود الجغرافية وقيمتها التاريخية، لكنا قلنا أن هنالك أمة عالمية واحدة لا أمماً. ولكن الأرض نفسا جعلت من كل مجتمع أمة، فقضت بذلك على خرافة اخترعها بعض الذين يحلمون في الكون ولا يرونه على حقيقته. انسانية الإنسان هي في كونه عضواً في المجتمع، وهنالك مجتمعات عدة، أساسها واحد، ولكن ظواهرها، أو بالحري نوعيتها مختلفة. وهذا ما ندعوه بالأمم. ولهذا يصبح قولنا أن هنالك انسانية شاملة من باب تحميل كلمة معنى لا تشير إليه، وإذا صح هذا في عالم اللغة، فلا يصح في عالم الاجتماع الإنساني.
أما مصير الإنسان المجتمع، فهو المصير الإنساني الكامل، الذي عنه نشأت الحضارة، وبتطوره نشأت المدنية. فمذ عرف الإنسان على الأرض وهو يناضل لتثبيت نفسه، ومما لا شك فيه أنه لم يع ذاتيته وحقيقته فوراً، فالشعور الاجتماعي وإن كان أساسياً في الإنسان، كان في حيز الوجود الإمكاني طالما كان الإنسان في طور بداءته، ولم يبرز إلى حيز الوجود الفعلي إلا عندما ابتدأ الإنسان يميز بين نفسه وإنسان آخر- عندما رأى غيره، فشعر بوجوده هو. وهذا الشعور الاجتماعي الذي كان السبب الأوحد في ربط البشر بعضهم إلى بعض في قطاعات مختلفة من الأرض، لم يكن نتيجة للمقابلة التي جرت بين الانسان الأول الفرد، وفرد آخر. أنه شعور انساني كامن. وقد ساعد على ظهوره المقابلة الأولى، وهي بدورها لم تكن لتحصل لو لم يكن في الإنسان دافع داخلي إلى تحقيق نفسه وادراك وجوده، وبعد أن تمت المقابلة الأولى ابتدأ المجتمع يكتسب صبغته الماديةن الطبيعية، وأخذ في نفس الوقت، ينمو نموه الروحي الذي أدى مع مرور الزمن إلى ما ندعوه اليوم حضارة ومدنية. فالحضارة إذن هي تاريخ الإنسان المجتمع في شتى أطوار حياته؛ وهي أيضاً تاريخ الإنسان من حيث هو أمة، أي هيئة اجتماعية واحدة، عملت ضمن نطاق من الأرض محدود، في سبيل تحقيق ذاتيتها الشخصية، في تحقيق إنسانيتها.
وهنا قد يسألنا سائل:«وماذا جرى للفرد؟ هل تريد أن تقول أن لا وجود له كفرد؟ وهذه الجموع التي أمامك، أليست مجموع أفراد؟ »أنه ولا شك سؤال له أهميته، إذ هل من المعقول أن نكون قد أسقطنا الفرد من الحساب؟ هل نكذب على أنفسنا وعلى غيرنا فنقول أن الفرد غير موجود؟ كلا. أننا لن نجر أنفسنا إلى مثل هذه السقطات الفلسفية. ونحن لم نعن قط ما عناه ذلك السائل بسؤاله. ولهذا أرى أنه من الواجب علينا أن نوضح هذه النقطة كيما لا نكون مسؤولين عن أخطاء يرتكبها غيرنا.
يتكلمون عن الفرد، عن أهميته، عن قيمته، عن حياته، عن مصيره، عن كل ما يتعلق به من حيث هو كائن. ولكنهم مع هذا كله لا يفونه حقه. والأنكى من ذلك أنهم يدعون أنهم وحدهم المسؤولون عن تبرير وجود الفرد، وتحديد وجوده ضمن نطاق المجتمع والأمة. يتكلمون عن قيم الحياة العليا، وينسبونها كلها إليه، او يجعلون منه محور الحياة الذي تدور حوله كل القيم، كانما هو مقرر كل شيء، وموجِّد كل شيء. يعتقدون أنهم الوحيدون الذين يعطون الفرد كل الحرية للعمل، ويضنون بذلك علينا نحن الذين نقول بأولوية المجتمع، بتعريف ضاف لمعنى الحرية. فهل كل معنى حياة الإنيان أن يكون حراً، بمعنى أنه طليق غير محدود وفاعل غير مفعول؟ هل تعني الحرية العمل الاعتباطي اللامسؤول؟ إذا لم يكن هنالك أساس للمسؤولية وشعور بها، فما معنى الحرية، وما قيمتها لأي فرد لا يشعر بها؟ نحن نقول بالحرية الشخصية، ونقدسها «قيمة» اجتماعية انسانية. نحن نقول بالحرية، وهي أساس من أسس نهضتنا. لكننا نفهمها بالطريقة التي يجب أن تفهم بها، فنختلف بذلك مع غيرنا. أننا نقول بحرية بناءة تعمل ضمن نطاق العقل والواقع على البناء، وليس بحرية عفوية تعمل على الهدم والدمار. ليست الحرية عندنا متعة تشترى وسلعة تباع، بل هي صفة أساسية للكيان الإنساني العام. ولا يستطيع المجتمع الإنساني أن يفيد من وجوده شيئاً إذا لم يكن حراً. ولكننا بنفس الوقت نقول أن الحرية شيء والتعسف شيء آخر. وهنا لدينا الحد الفاصل بين الاعتباطية اللامسؤولة والعمل العقلي المسؤول. ولهذا فوجود الفرد عندنا ليس وجودا اعتباطياً لامسؤولاً، بل وجوداً جوهرياً مسؤولاً، يأخذ بعين الاعتبار أولاً وآخراً حقيقة نفسه الاجتماعية.
لقد قلنا أن الفرد ليس سوى مجرد امكانية. وقد عنينا بذلك المعنى الفلسفي للمدلولات نفسها وإذا ما تكلمنا عن الفرد، فلا يكون ذلك إلا في حالة التجريد، في حالة تجريد الإنسان من اجتماعيته، والتكلم عنه، كشخص قائم بنفسه. أما إذا أخذنا الواقع، فلا نجد للفرد كفرد أساساً، لأننا، كيفما أدرنا النظر حولنا، لا نجد سوى متحدات أو جماعات ضمن مجتمع أعم هو الأمة. أننا لا نجد، لو فتشنا العالم كله، فرداً يحمل اسماً خاصاً به وحده، دون أن يكون له علاقة مع أفراد آخرين، أو جماعات أخرى. وذلك عائد بالطبع إلى كون الإنسان الفرد، بالمعنى التجريدي، غير موجود بالطبع. أجل، أننا نرى أفراداً أمام ناظرينا، ولا يتعدى ذلك عالم النظر. أما في عالم الحقيقة، فلا نرى سوى متحدات وجماعات، أفراد كثيرين، قيمتهم هي في أنهم متحد أو جماعة، وليس في أنهم مجرد عدد أو كمية من وحدات اصطلح البعض أن يدعوها أفراداً. أن وجود الفرد، إذن، من حيث هو شيء قائم بنفسه، لا تربطه وغيره من العلاقات سوى روابط المصلحة الشخصية- إن وجوداً من هذا النوع مفقود في العالم اليوم ولم يوجد من قبل، ولن يوجد في المستقبل.
إن الفرد موجود في المجتمع فعلاً، ولكنه موجود بإسمين- إسم يدل عليه وحده وإسم آخر يربطه وعائلة، أو أفراد آخرين. وهذا النوع من الوجود، إن صح أن ندعوه فردياً لا يتعدى كونه صفة ملازمة للإنسان لأنه اجتماعي. وهنا ابتدأ الخطأ في النظر إلى الفرد، هنا النقطة التي من الواجب تبيان حقيقتها. فإن الفرديين قد لاحظوا، كما يلاحظ كل إنسان، أن المجتمعات مؤلفة من وحدات مختلفة، دعوها في حدها الأدنى أفراداً، واختلاف هذه الوحدات ليس في نظر البعض منهم جوهرياً. فاستنتجوا من ذلك أن الأساس لهذا المجتمع هو الفرد وليس المجتمع نفسه وهو الغلط الكبير، لأنه إذا ما انقرض الفرد، لم يبق للمجتمع من وجود مطلقاً. إن الخطأ في هذه النظرية هو في عدم تفهم طبيعة الإنسان الحقيقية. لقد أخطأ هؤلاء القوم حين ظنوا أن الإنسان في الأساس مطبوع على الفردية، وأن وجوده في المجتمع هو من باب الحاجة المادية، وليس من باب تحقيق الذات الإنسانية. نظرتهم إلى المجتمع إذن نظرة نفعية، لا وجودية كما يجب أن تكون. وفي نظرهم أن المجتمع كان السبب الأوحد في الحد من نشاط الإنسان الفرد وقتل شخصيته.
للفرد عندهم مقام عال لا يساويه مقام أية مؤسسة إنسانية أخرى. ولهذا أصبح نظرهم إلى الحياة من ناحية فردية محضة أدت، في شتى ضروبها ومظاهرها، إلى أنواع من الضغط على الفرد نفسه:- وهذه هي النتيجة الحتمية للمبدأ نفسه. أن المبدأ الفردي القائل بأفضلية الفرد وأولويته، أدى في الاقتصاد إلى المبادئ الاستعمارية العمياء، كالاقطاع والمبدأ الرأسمالي الذي بلغ من غروره حداً لم يبلغه سلفه؛ وذلك لأنه مبني على أساس فاسد للحقيقة الإنسانية؛ كما وأن هذه النظرية الفردية نفسها قد أدت في السياسة إلى الاعتقاد بالنظام المطلق الذي هدمته الثورة الفرنسية. وهو نفس المبدأ الذي يجعل من الفرد الحر شخصاً يقرر مصير نفسه كما يريد، حتى على حساب الآخرين، ولو كانوا يمثلون أمة بكاملها. هذا منتهى التعسف، بل هذا منتهى الاحتقار للنفس الإنسانية، الجميلة الحرة. كم يؤلمنا أن نسمع مثلاً أن بضعاً من الأفراد في دول ما يؤثرون أنفسهم على دولهم، فيشبكونها في حرب ضروس يذهب ضحيتها أفراد الأمم الضعفاء والأبرياء، لا لشيء إلا لكي يربحوا فوق ربحهم، ويغنوا فوق غناهم، ويتمتعوا بخيرات البلاد ردحاً من الزمن أطول، ضاربين عرض الحائط بآمال الشعب وأمانيه، غير عابثين بما يؤول إليه أبناء أمتهم؟ أفراد من هذا النوع يأخذون على عاتقهم تقرير مصير أمم على حساب الملايين غيرهم. ينظرون إلى أنفسهم نظرة من يهتم لمصلحته الخاصة، ويحطمون المجتمع الذي يحيون فيه على صخرة جشعهم أن أشخاصاً من هذا النوع لا يهمهم في الحياة سوى حياتهم الخاصة، هم مجرمون بحق انسانيتهم، جاهلون حقيقة أنفسهم. وأنني إلى أمثالهم أوجه كلامي، فأقول:»أنه لن تقف في العالم أمة لا يعترف أفرادها بأنهم أبناؤها وأن مصلحتها فوق مصلحتهم، وفوق أية مصلحة. ولن يستطيع الأفراد مهما تمادوا في فرديتهم أن يقفوا لوحدهم في السياق الطويل- وما هذه الثورات التاريخية والحروب والانقلابات منذ أن عرفنا التاريخ حتى اليوم، إلا برهاناً قاطعاً على ما قلته. قد يستطيع الفرد أن يقف لنفسه ردحاً قصيراً من الزمن، ولكنه عليه أن لا ينسى أنه فرد، وأن عمره قصير، وأن حياته بالنسبة لحياة المجتمع لا تعد شيئاً. فلا بد له يوماً أن يذوي ويزول، ولا يخلد إلا المجتمع، الذي يمثل حياة الإنسان الدائمة. وأن قيمة الفرد تتوقف على مقدار وعيه لنفسه من ضمن المجتمع، بحيث يدرك أنه جزء كياني من وجود، لا يتم وجوده هو إلا فيه.
إن النظريات الفردية نظريات هدامة، لأن لا أساس لها. أنها تحاول أن تنتزع الإنسان من النطاق الذي وجد له. ولا شك أن في انتزاعه من محوره ضرراً له وحده. ليس من الممكن الكلام عن الفرد كفرد، إلا في حالة التجريد- وهذه حالة غير وجودية. وليس من الصحيح أن الإنسان الفرد أساس المجتمع. فكما أن السمكة لا تحيا خارج الماء، كذلك، لا يستطيع الإنسان الحياة خارج المجتمع. الماء للسمكة ضرورة وجودية، إذن، وكذلك المجتمع للإنسان. وإذا ما تكلمنا عن السمكة كفرد، ننظر إليها بأعيننا ونقلبها بين أصابعنا، فيجب أن لا يغرب عن بالنا أننا ننظر إلى سمكة ميتة. وهكذا فإن نظرنا إلى الفرد، لا يكون إلا في نطاق التجريد، حيث لا وجود حقيقي بل وجود وهمي.
ولكني أعود فأقول أنني، مع كل ما تقدم، لا أنكر وجود «الأفراد» ومن الطبيعي أن ما أعنيه هو غير ما عناه الفرديون. فبينما هم يجردون الفرد من صفته الاجتماعية الوجودية نقول نحن باجتماعيته أساساً لحياته ووجوده، وندرك أن فرديته في المجتمع هي من النوع العددي أو الكمي، وليس من النوع الوجودي البحت فحسب. كون الإنسان فرداً لا يتعدى مجرد كونه وحدة من وحدات المجتمع، دون أن يكون لها صبغة الوجود المطلق، بحيث تصبح هي الأساس، والمجتمع الفرع. فرديته إذن هي كمية ووجودية بالوقت نفسه، لأنها من حيث هي فردية كمية هي وحدة في المجتمع، ومن حيث هي فردية وجودية هي قيمة ضمن النطاق الأخلاقي والمناقبي.
فالفرد في نظرنا، الذي يؤمن بحقيقة نفسه، بأنه كائن اجتماعي، ليس فرداً كما يفهمه الآخرون، فهو لا يرى مصلحته الخاصة إلا من ضمن مصلحة المجتمع الذي ينتمي إليه، والذي يمثل التحقيق الأمثل، لما يكنه في قلبه من آمال عظام، من حق وخير وجمال، إن فرداً من هذا النوع، يعي أمته بكاملها، ومجتمعه بأجمعه، ليس فرداً أعمته الأنانية، وأطاحت بإنسانيته الحريات التعسفية والاعتباطية اللامسؤولة؛ بل فرداً إذا تكلم، فقد تكلمت أمة بكاملها، وإذا عمل فقد عمل مجتمع بأكمله- ولا يقول هذا الفرد ولا يعمل إلا بوحي مجتمعه ولمصلحة أمته. ولا شك إذن، إن هذا الفرد الواعي، هو غير الأفراد الآخرين الذين هم دونه وعياً للأمور وتفهماً للمسائل الكبرى، أنه يُدعى بحق نبياً أو مخلصاً! إنه البطل التاريخي، الذي يشق التاريخ للأمة التي وعى حقيقتها، وقام يعمل لتحقيقها.
نحن نقول بالأفراد أشخاصاً يعون الأمة والمجتمع، ولا نقول بهم أساساً حياتياً عاماً للوجود الإنساني؛ فالمجتمع في نظرنا هو الهدف الأمثل الذي يسعى الإنسان لتحقيقه. لأنه- كما قلت سابقاً ليس من تحقيق تام للإنسان إلا من ضمن المجتمع الذي هو في حد ذاته الإنسان الكامل في جميع مظاهر حياته، الإنسان الذي لم يعد مجرد إمكانية سلبية، بل فعالية فاعلة. وعندما نقول أن المجتمع هو الهدف، لا نعني بذلك انعدام قيمة الإنسان الفرد، من حيث هو وحدة وجودية، بل من حيث هو وحدة عددية، تتمثل فيه مصلحة أنانية شخصية، وليس المصلحة الاجتماعية العامة، بشتى نواحيها. أفهل من المنطق أن نقول أن مصلحة الفرد كفرد هي فوق مصلحة المجتمع كمجتمع، هذه المؤسسة التي ليس باستطاعة الإنسان الفرار منها أو الاستغناء عنها! وهل يبقى من معنى للحرية عندما تضيع حدودها؟ هل يبقى من قيمة للحرية عندما يزول الفرق بين ما هو حر وما هو غير حر؟ ما هي قيمة الحياة الإنسانية بأجمعها عندما تصبح تعسفية!
إن هذا الحنين الذي يراود الإنسان، إلى الإندماج مع الغير، إلى الحياة معهم، إلى الإستماع إلى كلامهم، إلى الكلام إليهم، إلى الشفقة عليهم، إلى محبتهم- إن هذا الحنين الإنساني للإنسان ليس عارضاً وبسيطاً، بل هو البرهان القاطع على تعلق الإنسان بانسانيته، وسعيه لتحقيقها، في المؤسسة الوحيدة- أعني المجتمع.
كثيراً ما يقول البعض أن في الإنسان الفرد أشياء لا يقوى أحد على معرفتها. وقد دعاها بعض المفكرين بالظاهرة غير المعروفة في الإنسان، الظاهرة التي يصعب التنبؤ بها، أو النقطة المظلمة في النفس الإنسانية. فما هي تلك الظاهرة؟ ما هو ذلك الشيء الذي يجعل من الفرد ذلك الشخص الفذ الفريد من نوعه؟ نعم، إن الإنسان ليس متشابهاً بكل معنى الكلمة. وقلما تجد إنساناً يشبه آخر شبهاً تاماً. ولكن ذلك لا يعني مطلقاً كون الناس متشابهين من حيث الكمية العددية. أما من حيث القيمة الأخلاقية في الميدان المناقبي، فكل إنسان من حيث هو إنسان هو قيمة أخلاقية، مطلقة. وعليه وحده يتوقف مدى اعتبار لهذه القيمة الأساسية. ولكن هذه الاعتبارات كلها، لا تجعل من الإنسان الفرد أساساً، بل على العكس، أنني أرى فيها دليلاً قاطعاً على اجتماعيته؛ فهو يختلف من حيث هو وحدة عدديه- فالمجتمع مؤلف من أفراد يختلفون من الناحية الكمية بعضهم عن بعض. أما من الناحية الوجودية- كما دعوتها- فهم (...). وهذه الناحية هي إحدى مقومات اجتماعيته. ولهذا نرى المجتمع يهتم كثيراً بالذين لا يهتمون لقيمتهم الأخلاقية، لأن في ذلك امتهاناً لقدسية المؤسسة الإنسانية الكبرى، وعرقلة لسير أمورها، وتشنيعاً لجمالها، وتحقيراً لحقيقتها. لهذا السبب بالذات نرى أن المجتمع ينبذ أولئك الذين بلغ منهم الذل الأناني مبلغاً جعلهم يطيحون بقيمتهم الأخلاقية، التي هي أساس من أسس إنسانيتهم.
لقد تعب العالم من تعصب الأفراد وتعسفهم. وها هو يستيقظ الآن على حقيقة أن الأساس الوحيد الذي يضمن للشعب الرفاهية، وللإنسان تحقيق نفسه، وللعالم السلم، هو القومية الاجتماعية- المبنية على الحب والولاء، والتي لا تعترف بالبغض أساساً للحياة. إنها النظرية التي تضع النقاط على الحروف، وترى العالم بمنظار الحقيقة والواقع. إنها لا تعترف بالتعنت السلالي أو العرقي، ولا تعرف التعصب الفردي والتعسف الشخصي. تعترف بالأمة هيأة اجتماعية واحدة. فتقضي بذلك على كل بذور التفرقة بين أبناء الأمة الواحدة. تعترف بالطبقات وجوداً طبيعياً، مبنياً على الولاء للأمة، وليس على الولاء للطبقة. إنها النظرية المثلى التي تجعل من مصلحة الأمة مناراً، ومثالاً أعلى، يهدف إليه الجميع، إنها نظرية الحياة الجديدة، والمجتمع الجديد، الحياة المبنية على التقاهم والثقة، وعلى العمل المشترك في سبيل بناء صرح الحضارة.
إن القومية الاجتماعية كما شرحتها مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي هي الطريقة الوحيدة للنهوض والعمل في سبيل بناء مجتمع أمثل- ليس في الأمة السورية فحسب، بل في العالم أجمع. هذه رسالة الأمة السورية التاريخية إلى العالم- الرسالة التي لم يفطن إليها بادئ ذي بدء سوى زعيم وعى حقيقة الأمة.
إن القومية الاجتماعية هي الضمان الوحيد للحرية. إنها الحياة الحرة، المنطلقة، الحياة التي تحيا نفسها وتعمل في مجرى التاريخ. إنها الحياة الجميلة، تنبثق من ذاتيتها، وتشع نوراً من صميمها، وتعمل بوحي إرادتها، في سبيل هنائها ورفاهيتها، مثلها الأعلى السير إلى حيث ينتهي التاريخ، وحيث يحقق المجتمع وجوده، والإنسان ذاته، والعالم غايته. إنها النظرية الصحيحة في الحياة لأنها تنظر إلى الحرية كقيمة إنسانية عليا تقدسها، فتبعد عنها التعسف والغدر والفردية الأنانية، وتجعلها مداراً للحياة الإنسانية في نطاق المجتمع الإنساني. تجعلها أساساً للقانون، السياسي والمناقبي وتبني عليها أسس المجتمع الجديد.
أجل أن القومية الاجتماعية حرة وتعمل في سبيل الحرية. وليس من حرية، إن لم تكن القومية الاجتماعية. إنها النظرة إلى الحياة التي تكفل تحقيق الحياة، واشباع تحقيقها. إنها النظرية التي تزيد الإنسان غنى ورفعة لأنها ترفع من شأنه فتجعله في مكانه اللائق، في المجتمع.
إنها الفلسفة الاجتماعية الجديدة للجيل الجديد
إنها الحياة الجديدة لأبناء الحياة.