الأستاذ الرفيق زويا لبيب
ليس المجتمع عقداً إجتماعياً أساسه الفرد
سعاده
هذه هي الحلقة الثانية في سلسلة الأبحاث التي يعدها الرفيق الأستاذ لبيب زويا، ناموس عمدة الثقافة والفنون الجميلة في الحزب القومي الاجتماعي.
تختص هذه الحلقة ببحث نظرية «العقد الإجتماعي» على ضوء الفلسفة القومية الاجتماعية، فتتناول الظاهرة المذكورة من جذورها الفكرية وتشرح تطورها وحججها ومنطقها، ثم تظهر قوة المذهب القومي الاجتماعي»الإنسان- المجتمع« والأساس الصحيح الذي يقدمه لقضايا الإنسان وحلولها، واتجاه السلوكية القومية الاجتماعية.
يشرح الرفيق زويا هذه القضية الخطيرة بإسهاب وتدقيق ويعبر عن نظرية الحركة السورية القومية الاجتماعية بقوة وتفكير عميق.
قلت في البحث الماضي أن الإنسان من حيث هو كائن موجود، هو كائن اجتماعي، وأن اجتماعيته، من حيث هي ظاهرة من ظواهر حياته، ليست مجرد صفة طارئة أو ظاهرة عرضية، بل ظاهرة جوهرية، فهي من ماهيته، وبدونها لا يكون الإنسان إنساناً بالمعنى الصحيح. وها أنني أعود في هذا البحث إلى البدء من هذه النقطة الأساسية.
قد يظن البعض، وهم مخطئون، أن قولنا: إن الإنسان من حيث هو فرد هو إمكانية شاملة، وأنه من حيث هو مجتمع هو فعالية شاملة أيضاً، هو من باب المغالطات الفلسفية. وقد لا يقفون عند هذا الحد، بل يتجاوزونه إلى القول أيضاً أن قولنا هذا يعني أن المجتمع ليس سوى إنسان واحد- أي فرد واحد بنظرهم، وأنهم بقولهم هذا يبرهنون عن عدم تفهم الأمور الأساسية لاجتماعية الإنسان.
فهذه الناحية من حياة الإنسان، ناحية فذة وفريدة للغاية، وكثيرون هم الذين يعتقدون أنهم قد سبروا غورها بمجرد اطلاعهم السطحي على مؤلف اجتماعي أو فلسفي. ولهذا فإنني أحذرهم من شر الزلل في مواضع من هذا النوع، لأنها تحتاج إلى درس وتفكير عميق ليس فقط في المعطيات البديهية لما دعوته اجتماعية الإنسان، بل فيما ينتج عنها من أمور شتى، أهمها قيمة الإنسان الأخلاقية والمناقبية، وعلاقته مع بقية أفراد المجتمع في النطاق الاجتماعي العام، الذي يضم جميع المناحي التحقيقية لامكانية الإنسان الشاملة. ليس البحث سهلاً، إذن، كما يتراءى للبعض من الوهلة الأولى. ولكنه ليس مجرد مغالطات فلسفية، كما يظنون. أنه بحث يدور حول عدة نقاط أساسية، مر ذكرها في البحث الفائت، تكون الأساس الهيكلي لما دعوته»الإنسان في المجتمع«.
يدور بحثنا الآن حول علاقة الإنسان بالمجتمع- هذه العلاقة التي تنشأ من جراء كون الإنسان كائناً اجتماعياً. وغرضنا من هذا البحث هو إظهار أخطاء المدارس السياسية الاجتماعية التي تقول غير ما نقوله نحن. وأهم هذه النظريات هي نظرية العقد الاجتماعي التي كتب عنها الفلاسفة السياسيون أمثال هوبز ولوك الإنكليزيين وروسو الافرنسي. وهنالك آخرون أيضاً، ولكنهم لا يختلفون في المعنى مع اختلافهم في المبنى، يقول هؤلاء، وأن اختلفوا أيضاً على بعض الأمور، بأن ما ندعوه»مجتمعاً«ليس إلا شيئاً أوجدته إرادة إنسانية. أن المجتمع، على حد قولهم، ليس إلا مؤسسة من المؤسسات الإنسانية، ولكنها أكبرها وأهمها وأعمقها. وفي هذا القول كثير من الشطط، لأننا لا نعتقد البتة بعرضية الظاهرة الاجتماعية في الانسان. فإذا أخذنا قول هوبز مثلاً، رأينا أنه يعني من ورائه، أن الإنسان كان فيما مضى- في الزمان السحيق- عائشاً من نفسه ولنفسه، لا يضمه وغيره من البشر رابط من الروابط. كل يسعى لتحقيق هدفه الفردي، حتى ولو أدى ذلك إلى الحد من حرية الآخرين أو حتى القضاء عليهم. ليس هنالك من وازع، أخلاقياً كان أم حقوقياً، لأنه لم يكن لهذه القيم أي اعتبار قط. ولهذا كانت حياة الإنسان مجرد صراع فردي للفوز. ويقولون أن هذه الحالة لم تدم كثيراً، لأنه، في زمن ما، خطرت فكرة لأولئك البشر، وهي أن يؤلفوا شيئاً يدعونه»مجتمعاً«يتنازلون فيه عن كل نوع من أنواع السيادة على أنفسهم، التي اعتادوا عليها في حالتهم الأولى، لهيئة دعاها هوبز»الملك«وهو يعني بذلك الحكومة طبعاً. ويخبرنا هوبز عن هذه الحياة الجديدة فيقول أن الإنسان بدأ يشعر فيها بشيء دعاه واجباً وآخر أسماه حقاً، وأنه أصبح مقيداً ضمن قوانين رأى فيها الخير كل الخير لمصلحته الشخصية الأنانية.
هذه نظرة عجلى على مضمون نظرية»هوبز«في العقد الاجتماعي، أي أن الإنسان خلق المجتمع لأنه رأى أنه خير ضمان لحياته.
أنني لا أرى مع»هوبز«كيف يتمكن إنسان عاش حياة فردية عميقة في فرديتها، وحشية في علاقاتها، صعبة في نتائجها، أن يفكر بخلق مجتمع، يتنازل فيه عن كل شيء يجعله إنساناً في نظره؟ كيف استطاع ذلك الإنسان، في ذلك الزمن السحيق أن يفكر بما دعاه مجتمعاً؟ لو كانت المسألة مسألة اختراع شيء ما، لقلنا أنه أعمل فكره ومخيلته، فتوصل إلى اختراع شيء جديد من نوعه. ولكن المسألة ليست مسألة اختراع. وحتى لو كانت كذلك، ليس باستطاعة الإنسان أن يخترع مجتمعاً- لأن للمجتمع معنى وقيمة تتدانى أمامها معاني وقيم كل ما أقدم الإنسان على اختراعه وحققه. للمجتمع معنى إنساني، لا يستطيع حتى»هوبز«نفسه أن ينكره، وليس باستطاعة الإنسان أن يخلق شيئاً يذوب هو فيه لأنه أصغر منه. أنه تناقض مفضوح إذا قلنا أن الإنسان أوجد المجتمع، إذ كيف يستطيع الأقل كمالاً أن يخلق الأكثر كمالاً، إن»هوبز«نفسه، وغيره من فلاسفة العقد الاجتماعي، لا يقولون أن المجتمع اختراع إنساني، كما أن الآلة اختراع إنساني، بقي إذن أن نقرر ماهية هذا الشيء، فما هو يا ترى؟ وما هي إذن، علاقة الإنسان بالمجتمع؟
يقول»هوبز«أن الإنسان يدخل المجتمع بملء إرادته، متنازلاً عن كل ما كان يملكه من »مسلكيات«فردية في حالة وجوده الابتدائية، وأنه يفعل ذلك اعتقاداً منه أن في المجتمع كل الطمأنينة التي يطلبها. أليس من العجب أن يطلب الطمأنينة شخص لا يعرف ماهيتها، وإذا عرف ماهيتها، فكيف تسنى له ذلك في حياته الابتدائية الأولى؟ أو هل من الممكن أن يتخيل الإنسان شيئاً إذا لم يكن في الأساس حقيقة؟ ألم يشعر ذلك الإنسان الوحشي إذا صح التعبير، بالحنين إلى الحياة الرغيدة في ظل العدالة الاجتماعية الحقة؟ وفكرة المجتمع؟ ألم تكن هي أيضاً من الأفكار المطبوعة، التي لم تنشأ نتيجة لتجربة ما؟ كيف يتسنى للإنسان الدخول في المجتمع ما لم يكن لديه الاستعداد الكافي لذلك؟ وكيف يكون ذلك ما لم يكن الإنسان نفسه مخلوقاً اجتماعياً، اجتماعيته أساس من أسس وجوده؟ ألم يذكر»هوبز«قول أرسطو من قبل أن الإنسان حيوان سياسي، وهو عنى بذلك أنه اجتماعي أيضاً؟ ففي قول أرسطو كل الصحة، لأنه يرى بعين الحق أن من طبيعة الإنسان الاجتماع، وأنه لم يوجد إنسان يوماً على الأرض خارجاً عن المجتمع. فليس هنالك من شرط للدخول في المجتمع إلا كون الإنسان إنساناً. إن الإنسان يولد، فرداً في عائلة، وعضواً في المجتمع وأنه لم يوجد على الأرض في يوم من الأيام فرداً حراً، ككروزو مثلاً، يدخل لأول مرة في المجتمع بملء إرادته، وكامل حريته، مشترطاً على المجتمع أن يصون حقوقه ويفيها حقها، وإلا، فهو تارك المجتمع إلى حيث يحيا من نفسه ولنفسه. هذه خرافة عتيقة مبنية على جهل حقيقة الإنسان الاجتماعية إذ ليس من الممكن أن يترك الإنسان المجتمع، مع أنه بإمكانه أن يكون»غير اجتماعي«أو ضد الهيئات الاجتماعية والعرف والتقاليد. ولهذا بحث آخر إما أن يترك الإنسان المجتمع أو يدخله، بحيث يكون موقفه منه موقف رجل واقف أمام بيت يدخله إذا شاء ليتقي المطر أو يخرج منه ليحيا في الهواء الطلق- إذا كان ثمة هواء طلق!!- فهذا ضرب من المحال والوهم الفلسفي، لا يقع فيه إلا الذين أعمت قلوبهم النظرة الفردية فجعلتهم يعتقدون أن لا أحد غيرهم يحيا على هذه الأرض، وأنهم كأفراد، هم كل شيء..أنهم ينظرون إلى العالم كمن ينظر إلى جبل بمنظار اتسعت حدقته العليا حتى وسعت كل عينه، وصغرت عدسته السفلى حتى ضاقت عن استيعاب دبوس رفيع...فماذا يرون من الجبل؟
وإذا سألت أحدهم أن يأتيك بشاهد تاريخي برهاناً على ما يقولون اسودت أمام ناظريه صفحة التاريخ وما استطاع أن يأتيك بشيء- وذلك لأن ما يفتش عنه ليس موجوداً. وقد يقولون- للتخلص- أن هذه النظرية، أي العقد الاجتماعي، ليست سوى مجرد ضرورة منطقية. فأية ضرورة هي؟ ألا يعلمون أن ما هو منطقي ليس من الضروري أن يكون حقيقة. فالمنطق ليس وسيلة للوصول إلى المعرفة والحقيقة، بل واسطة للتعبير الصحيح عن شيء حقيقي، هو كيفية الوصول إلى نتائج صائبة من مبادئ أساسية. المنطق تكنيك فحسب، وأنه لمن الخطأ كل الخطأ أن نعتقد أن ما هو صواب في المنطق هو كذلك في الوجود، فالوجود شيء والمنطق شيء آخر، ومجرد فرضنا وجوداً أو عالماً من نوع خاص، لا يعني قط وجود هذا العالم بالذات ولا حتى إمكانية وجوده. أن هذا الخلط الشائع بين المنطق والحقيقة هو السبب الأول في تناقض نظريات من هذا النوع.ولهذا فأني أقول أن نظرية العقد الاجتماعي المبنية على افتراضات يحسبها أصحابها بديهية، نظرية خاطئة اجتماعياً- لأن هذه الافتراضات لو فحصت بتدقيق لتبين لنا أنها لا تصلح أبداً أن تكون نقطة الابتداء، وبهذا نرى أن نظرية العقد الاجتماعي، تهوي إلى الحضيض محطمة، فيما إذا دققنا النظر في مفترضاتها الأولية.
لم يختلف لوك وروسو كثيراً عن»هوبز«فالنظرية واحدة إلا أن الشكل مختلف، والنتائج التي وصل إليها كل منهم تختلف عن نتائج الآخر لاختلاف المقصد والطريقة معاً. فبينما نرى»هوبز«مؤمناً بنظرية السلطة المطلقة، نرى أن لوك يميل أكثر إلى اعطاء الفرد بعض الحقوق التي تكفل له حياة رغيدة، ولكنه مع ذلك نرى أنه يعترف بما للمجتمع من سلطة عليه يعدها، في بعض الأحيان، كبيرة، فيخاف من جراء ذلك على ما تبقى من حرية الفرد....ولست الآن في معرض بحث رأيه في ذلك، ولكن الهام هو أنه يعزو اجتماعية الانسان لا إلى كونها ماهية، أو أساساً حياتياً، بل إلى كونها عرضاً ظاهراً دعت إليه الحاجة الماسة.
إن في نظرته شيئاً من»النفعية«التي يصح أن يقال فيها أنها»نفعية وجودية«، مع العلم أن في نظريته شيئاً من الطرافة بحيث أنه يجعل العقد ثنائياً- العقد الأول بين الأفراد أنفسهم لتأليف المجتمع، والثاني بين المجتمع والسلطة الحاكمة. وأنني أرى في ذلك خطأين: الخطأ الأول منطقي بحيث لا يعقل أن يقدم الأفراد على عمل من هذا النوع دون العلم التام بنتائجه، أو دون المعرفة التامة بمقومات ما يقدمون عليه؛ والخطأ الثاني فلسفي إذ أنني أرى أن المجتمع والدولة ليسا إلا ضرورتين وجوديتين ناتجتين عن كون الإنسان كائناً إجتماعياً. وشتان بين ما دعوته النفعية الوجودية وبين الضرورة الوجودية فالخبز مثلاً»نفعية وجودية«إذ باستطاعة الإنسان أن يستعيض عنه بشيء آخر، بينما المجتمع »ضرورة وجودية«لا مفر للإنسان منه، وفراره منه معناه انقراضه.
وكذلك إذا أخذنا نظرية روسو في ذلك. فهو يرى أن الحالة الطبيعية الأولى للإنسان هي غير ما تكلم عنه هوبز، مثلاً، إذ إنها حالة اطمئنان وهناء- لا أنها أيضاً حالة تستوجب تشكيل المجتمع لأنه الضمان الوحيد للحياة الرغيدة. ولكننا نرى في روسو شيئاً لم نره في غيره، وهو أنه يتكلم في مجتمعه الجديد عن ارادتين: إحداهما هي الإرادة العامة، والثانية هي الإرادة الإجماعية، أي مجموع إرادة كل شخص في المجتمع. وأن للإرادة الأولى المقام الأول في نظر روسو؛ هذا صحيح إذ أنها تمثل حقاً إرادة المجتمع. ولو لم يبتدئ روسو حيث ابتدأ هوبز ولوك، لكان من أقرب الفلاسفة السياسيين إلى حقيقة الموضوع؛ فالإرادة العامة ليست إرادة أشخاص أفراد بل إرادة مجتمع، هي إرادة الإنسان- المجتمع في كامل تحقيق فعاليته. وهو يعتقد أيضاً بأن لا حرية للإنسان خارج المجتمع، وقوله:»نجبر الإنسان أن يكون حراً« برهان قاطع على مدى تفهمه لقيمة المجتمع الاجتماعية. وهذا ما أريد الوصول إليه والبحث فيه مطولاً- أعني حرية الإنسان والمجتمع.
وهكذا فإننا نرى أن نظرية العقد الاجتماعي، من حيث هي نظرية في اجتماعية الإنسان، خاطئة، وذلك لكونها تفترض وجود الفرد الحر- الذي لا يوجد بنظري إلا في مخيلة بعض الكتّاب- خارج نطاق المجتمع، ولكونها لا تعتقد بما دعوته الضرورة الوجودية الإجتماعية في الإنسان. فإذا كان المجتمع الإنساني بمعناه الإجتماعي من صنع الإنسان فهذا يعني أن الإنسان يستطيع أن يخرج منه ساعة شاء وبذلك يتهدم المجتمع، وكأنه ما كان. وهذا خطأ كبير، إذ ليس باستطاعة الإنسان الخروج من المجتمع مهما حاول؛ فالشرط الأول من شروط إنسانيته، هو اجتماعيته، فإذا لم يكن اجتماعياً، لم يكن إنساناً!! وهنا أود توضيح نقطة تكاد تشغل فكر البعض وهي أن المجتمع الإجتماعي وجد بوجود الإنسان نفسه، ولكنه تطور أيضاً بتطور الإنسان نفسه. فكما أن أنواع الحكومات قد تغيرت وتعددت، وكما أن الإنسان نفسه قد تطور- وهذا ما ندعوه عموماً بالمدنية- كذلك فقد تطور المجتمع من طور طفولته الابتدائي إلى ما هو عليه اليوم. ولهذا فعندما أقول أن الإنسان لم يوجد على الأرض إلا في المجتمع لا أعني بذلك مجتمعاً من النوع الذي نحيا فيه الآن، بل مجتمعاً، مهما كان ابتدائياً، يظل مجتمعاً يمثل تحقيق الإمكانيات الإنسانية.
لقد قال الفلاسفة اليونانيون قبلاً أن الوجود معناه التجديد، كون الإنسان إنساناً يعني أنه إنسان فقط وليس أي شيء آخر. وهذا يعني أيضاً أنه اجتماعي أيضاً وذلك لأن اجتماعيته شرط من شروط وجوده، ولهذا فهي بذلك حد لا يستطيع الإنسان تخطيه- )لأنه يخسر إنسانيته بذلك(- وهكذا فإننا نرى أن الإنسان لا يستطيع الخروج من المجتمع، كما أنه لا يستطيع أن يؤلفه، بل جل ما يستطيع عمله هو أن يدخل فيه ويعمل من ضمنه، لأن في أعماقه ضرورة وجودية تحثه على تحقيق ذاته، ولا يتم ذلك إلا في المجتمع، لأنه هو التحقيق الأمثل للذات الإنسانية المعبر عنها بالأشخاص الذين هم بحد ذاتهم مجرد إمكانية شاملة من حيث هم أفراد، وفعالية شاملة من حيث هم مجتمع.