الرجعية الـجديدة هي الـمحاولة العظمى، لإنقاذ الرجعية وقواعدها وأهدافها من مصيرها إلى الهلاك بعد ما وقعت فيه من إفلاس وما سببته للأمة السورية من نكبات. وسفسطائيو الرجعية الـجديدة يرون أنه لا مندوحة لهم عن الاستمرار في الـمحاولة العظمى التي انتدبوا أنفسهم لها لأنّ مصير الرجعية بكل قضاياها وخططها وأساليبها وغاياتها هو مصيرهم هم!
تتلخص مهمة الرجعية الـجديدة في أنها تريد إعطاء الرجعية شكلاً تقدمياً بدون الانحراف عن الغايـات الرجعية الأساسية، وأفكاراً تقدمية تساعدها في عراك تنازع البقاء. فما إن ظهرت التعاليم القومية الاجتماعية في البلاد السورية وطبع نشوء الأمـم - الكتاب الأول والصراع الفكري وطائفة كبيرة من الـخطب والـمحاضرات والـمقالات الـحاوية قضية تقدم صحيح وانتقال فاصل من قضايا الـحزبيات الدينية وتآويلها إلى القضية القومية الاجتماعية والـمشتملة على خطط وأساليب لتحقيق حياة جديدة، حتى سارع الرجعيون الـمتجددون إلى الإغارة على هذه الكتب والـمقالات والـخطب والـمحاضرات يقتبسون منها كل العبارات والأفكار التقدمية ويستعملونها كأنها أفكارهم وعباراتهم هم ماسخين حقيقتها وجوهرها ومسخّرينها لتحقيق الأغراض الرجعية الانحطاطية!..
جماعة التلبنن الرجعي أخذت تتدرج، في تصريحات مقدميها، من جمعية رياضية بدنية تريد الدفاع عن لفظة لبنان، إلى حزب عقائدي سياسي يريد أن لا يقل في مظاهره الـخداعة عن حقيقة الـحركة القومية الاجتماعية باقتباسه من كتاب التعاليم القومية الاجتماعية ومن كتاب الصراع الفكري في الأدب السوري وإعلانه أنه هو أيضاً «حزب له نظرة إلى الـحياة والعالم»! كأنَّ النظرة إلى الـحياة والعالم شيء هين بهذا الـمقدار، فلا يحتاج الدجال إلى أكثر من عملية اقتباس بسيطة هينة أو عملية قفز فوق السياج متى كان الدجال السياسي من نوع الرياضي البدني! وكأنّ الاستقرار التاريخي لا يقدر أن يفضح هذه الأساليب التدجيلية النايو رجعية!
كذلك الأحزاب العديدة من النوع العروبي التي نشأت في الـمدة الأخيرة، فهي أيضاً لم تقصِّر في دراسة الأشكال والتعابير التقدمية القومية الاجتماعية وفي الاقتباس منها لوضع «مبادئها» و«تعاليمها» و«مذاهبها» و«مناهجها» السياسية والعملية.
ويحسن جداً أن يذكر الـجميع، وخاصة الـمخدوعون، أنّ بين رؤساء هذه التشكيلات وأمناء سرها وقادتها الـمنظمين كثيرين كانوا في عداد صفوف الـحزب القومي الاجتماعي، فتعلّموا أنظمته ودستوره وتلقنوا مبادئه وتعاليمه تعلماً ناقصاً وتلقناً سريعاً، ليطردهم الـحزب من صفوفه لانكشاف نواياهم أو ليطردوا هم أنفسهم، ويعودوا إلى حظائرهم، حظائر الرجعية، رؤساء أو سكرتيرين أو مدربين، ماسخين أنظمة الـحركة القومية الاجتماعية ودستورها ومبادئها وتعاليمها على النحو الباهر الذي تقتضيه رجعيتهم الـمتجددة، إن في إعداد فرق تشكيلاتهم الببغائية أو في تـحبير مقالاتهم واتـجاهاتهم.
وقد كانت هاتان الرجعيتان الـجديدتان تتآلفان وتتوافقان، فكانت الرجعية التي يـمثّلها التنظيم السني العروبي تـجد نفسها أقرب ما يكون إلى الرجعية التي يـمثّلها التنظيم الـماروني التلبنني الـمتحالف مع الدولة الكاثوليكية الأولى إبان احتلالها البلاد، والذي لا يـزال أمينـاً لهذه الـمحالفـة، حتى بعـد زوال الاحتـلال. فتحـالفت هـاتـان التشكيلتان في مواقف سياسية عديدة في الـجمهورية اللبنانية، على الرغم من تعاكس أهداف رجعيتيهما، وتـحالفهما دليل واضح على وجود جامعة تـجمع بينهما، هي جامعة الرجعية اللابسة لباس التقدم!
أما اليوم، وبعد الأبحاث التي أزالت الستائر عن أهداف الرجعيتين الـجديدتين، فقد استفاقتا أخيراً إلى تضارب أهدافهما، فعمدتا مؤخراً إلى التصادم والتنازع على الأهداف، فظهرت مؤخراً الـمقالات العروبية الـمهاجمة والـمقالات التلبننية الـمدافعة. وليس غريباً، بعد ما بيّناه من أساليب الرجعية الـجديدة، أن نرى الرجعيتين الـجديدتين تتحاربان بسلاح واحد، هو سلاح الاقتباس من تعابير الـحركة التقدمية القومية الاجتماعية ومن نظرها العلمي والفني بدون أي خروج على قواعد الـمسخ الضرورية لكل رجعية متجددة. خذ، مثلاً، اقتباسات كهذه: «الأمة العربية الواحدة هي أمة واحدة في جميع أقطار العرب ووحدتها تعود إلى ما قبل الفتح العربي وإلى ما قبل التاريخ الـجلي، فحمورابي كان عربياً، الخ.». «إنّ استقلال لبنان أقدم من العصور وإنه يرقى إلى ما قبل التاريخ الـمعروف ولو لم يكن قد تـمتع باستقلال تامّ كامل في جميع العصور.» فهذان التصريحان هما اقتباسان من الـمبدأ الرابع من مبادىء الـحركة السورية القومية الاجتماعية الذي يقول: «الأمة السورية هي وحدة الشعب السوري الـمتولدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الـجلي» وهما اقتباسان مـمسوخان ومشوهان للحقيقة ككل الاقتباسات الرجعية الـمتجددة. وأي ناقد عارف بشؤون الاجتماع والتاريخ يرى حالاً الفرق العظيم بين مبدأ الـحزب القومي الاجتماعي والاقتباسين الرجعيين عنه والتشويه الـمقصود للحقائق العلمية وتـحويل الواقع إلى الغيب ونقل الـمحدود والـمعيّن بذاته إلى مطلق غير محدود وغير معيّن بذاته، كادّعاء الـمتعربين أنّ حمورابي ملك عربي مع أنه سوري مقيم في سورية من الشق الأموري من السوريين، ولم يكن حمورابي ينتسب في العرب أو إليهم. ولكن السفسطة النايو رجعية تريد أن تقيم من نظرية غير ثابتة تقول إنّ الشعوب السامية خرجت موجات من العُربة - أي الصحراء - وهي لا تـجيز حتى في حال صحتها، إعطاء أي صحة منطقية لتحويل السامييـن كلهم إلى عرب لأنهم خرجوا من العُربة سامييـن وطلّقوا العُربة والعروبة، وتقوم نظرية تناقضها وهي الـمرجحة اليوم القائلة بأنّ سورية الطبيعية هي مهد الساميين تؤيدها تقاليد العرب أنفسهم الذين يثبتون أنّ العرب العدنانيين وهم الـمجموع العربي الشديد التعرب هم هجرة سورية إلى العُربة أو تـحوّل لـجزء من الشعب الكنعاني إلى حالة البداوة والضرب في الصحراء فيسمونهم في تقاليدهم العرب الـمستعربة، أي التي لم تكن في الأصل عربية. ولو كان العرب يعدّون السوريين عرباً منهم، لـما نعتوا هؤلاء العرب الدخلاء عليهم بالـمستعربين، فواضح من هذا الشرح الوجيز مقدار الـخبط على غير هدى في آراء الرجعيين الـمتجددين العروبيين وفي مسخهم وتشويههم للحقائق العلمية.
وكذلك يرى أي ناقد عارف أي ادّعاء جريء إلى حدّ الوقاحة هو الادّعاء بالـمعنى القومي أنّ استقلال لبنان أقدم من العصور، وأية مبالغة نظمية سخيفة هي هذه الـمبالغة التي تعصب عيني اللبناني عن الـحقيقة فلا يرى أنه لا يـمكن أبداً أن يكون موقع جغرافي في العالم أقدم من العصور، الـجيولوجية منها، وغير الـجيولوجية، ولا أنّ استقلال أي موقع جغرافي مفروضاً كان من قِبل دولة أجنبية أو غير مفروض، يـمكن أن يرجع إلى ما قبل التاريخ الـمعروف. فالاستقلال حالة سياسية حقوقية، لا يـمكن أن تـحدث بلا تاريخ لـحدوثها، وما أنتجته من علاقات ونتائج مجموعة الاستقلالات العالـمية.
ومن تصريحات الرجعيين الـمتجددين الـمتلبننين قولهم «لبنان قديـم جداً، وأقدم من سورية، لأنه مذكور في التوراة قبلها» فنريد أن نذكّر هؤلاء السفسطائيين في العلم الاجتماعي وفي التاريخ بأنّ البدء موجود في التوراة قبل الـخلق، فعبارة التوراة الأولى تقول: «في البدء خلق الله السماوات والأرض» و«البدء» واردة قبل «خلق» الله السماوات والأرض، وبحسب التفكير السفسطائي النايو رجعي التلبنني وجب إذن، لأنّ لفظة البدء قد تقدمت على لفظة الـخلق، أن يكون هنالك «بدء» قبل «خلق»!.. وكل من له شيء من الفهم يقدر أن يتصور إلى أي حضيض يـمكننا أن ننحدر في اتّباع مثل هذه السفسطات الـمحقرة للمدارك الإنسانية!
لا تقلّ سفسطة العلماء الرصينين من الـمبادىء النايو رجعية عن سفسطة الكتّاب في الصحف، فمحاضراتهم وكتبهم النايو رجعية تتصف كلها بالاجتهاد في اقتباس الأشكال والتعابير التقدمية لإنقاذ الرجعية والرجعيين من مصيرهم. فهؤلاء العلماء الذين مضت عليهم سنيـن عديـدة في مقدمـة القضايـا النايـو رجعية يعترفون في محاولتهم التجدد الرجعي دائماً، أنه لم تكن هنالك قضايا صحيحة يقومون بها. فبعد تـحطم قضاياهم على صخرة الـحقيقة والواقع، يبرزون لنا مكتشفين فكراً جديداً مقتبساً من الصراع الفكري في الأدب السوري مثلاً، مشوهاً دائماً لأغراض الرجعية الـجديدة وقضاياها، وهم دائماً لا يرون إلا الاكتشافات السلبية وإلا الكوارث بعد وقوعها!... هين أن نقول إنّ سبب نكباتنا هو أننا لم نخض معارك أخرى سابقة في ميادين الفكر والعدل الاجتماعي الـمقتبس من تـحليل واف وارد في الصراع الفكري في الأدب السوري لهذه الأمور والقضايا، ولكنه صعب جداً تعيين ما يجب أن نحارب في سبيله. هو هين للنايو رجعيين الذين عيّنوا قضايا دفعوا الشعب إلى العراك في سبيلها ليتحطّم الشعب، بتحطّم القضايا نفسها التي كانت قضايا فاسدة بقدر ما كانت هينة، ليعود العلماء الذين عينوا تلك القضايا، ويقولوا لنا إنه لم تكن هناك قضايا حقيقية!
وهين جداً كذلك اقتباس الألفاظ الإصلاحية وترديدها كالببغاوات، في معارضات سياسية غايتها التنازع على الـحكم، ولكنه ليس هيناً للمفكرين التقدميين الذين أنشأوا قضايا صحيحة، لم تخب حتى اليوم في أي مقصد من مقاصدها الإنشائية ولا في أي هدف من أهدافها العملية. هين أن يأتي إقطاعيون بـمقطوعيهم في أراضي الاستعباد الداخلي ليسمعوا كلاماً معارضاً في الـحملة على الاستعباد الداخلي. ولكنه ليس هيناً للإقطاعي أن يقول للمقطوعين: هذه الأرض التي تكدحون في تـحويلها إلى إنتاج وخير، هي لكم أو أنتم شركائي فيها!... وهين جداً التكلم على الإصلاح، ولكنه ليس هيناً إتيان الإصلاح.
إنّ الذين يريدون الإصلاح الـحقيقي يجب عليهم أن يكونوا صادقين في أنفسهم، وأن يتحولوا إلى الإصلاح في ذواتهم أولاً، ليتمكنوا من إصلاح غيرهم. إنّ الذين يجهلون قوى الإصلاح في الشعب ويتنكرون في غاياتهم الـخصوصية للحركة الإصلاحية العظمى ويتكبرون على هذه الـحركة ويتجاهلون وجودها ويتساومون فيما بينهم، ويقتـرعـون على الـحصص «الإصـلاحيـة» ويطلبون التحرر لأنفسهم فقط ويطلبون احتكار التحرر، فلا يرون في الشعب ذلاً إلا ما أحاق بهم هم، ولا يرون في الأمة جهاداً، إلا ما كان جهادهم هم، هؤلاء قد ضلوا سواء السبيل، هؤلاء يحتاجون إلى محررين ومصلحين يحررونهم ويصلحونهم أكثر مـما يحتاج الشعب إلى إصلاحهم وتـحررهم!
قد آن للشبـاب النزيـه أن يتحـول عن الشعـوذة والـمشعـوذين، وعن الاقتباس والـمقتبسيـن، وعن جميع محالاوت الرجعية والرجعييـن وعن الـمحاكاة الببغائية والتقليد السعداني، وأن يرتفعوا إلى مستوى قضايا الـحياة ومطالبها العظمى. إنه لا يـمكن تـحويـل النفعييـن عن نفعياتهم، والرجعييـن عن رجعياتهم، والإقطاعييـن عن إقطاعياتهم، ولكن يـمكن تـحويل محبي الـحقيقة والـخير العام والقضايا الصحيحة، نحو الـحقيقة والـخير العام والقضايا الصحيحة. فعلى هؤلاء أن يدركوا مقدار الشعوذة والتضليل العابثين بهم وبـمصير الأمة. فالانقلاب الروحي الفكري قد حدث، والثورة الاجتماعية قد ابتدأت حربها من سنين، وقد دكت حتى الآن حصوناً عظيمة للرجعية القديـمة والرجعية الـجديدة وهي آخذة في شق طريق الـمجد للأمة وتشييد بناء الـمجتمع الأمثل. هذه الثورة هي الثورة السورية القومية الاجتماعية!