لا مشاحة في أنّ الصوفستيين الإغريق (السفسطائيين)، الذين نعتت مدرستهم وطريقتهم بالسفسطة، أحدثوا تطوراً فلسفياً عظيماً بنقلهم موضوع الفلسفة من الكون إلى الإنسان.
قد يرى الذين قرأوا تهكمات أفلاطون وانتقاداته اللاذعة للسفسطائيين وطرق تفكيرهم أنّ القول الـمتقدم هو إغداق ما لا يستحقونه عليهم. ولكن الـحقيقة هي أنهم أول فئة من مفكري الإغريق وجهت عنايتها إلى الإنسان وجعلت الإنسان مدار اهتمامها. ولكي نرى بوضوح مركز الصوفستيين (السفسطائيين) في تاريخ الفلسفة الإغريقية، يجب أن ننعم النظر في مراتب التسلسل الفكري الإغريقي الثلاث: الـمرتبة الأولى، التي تبتدىء في الدور السابق لسقراط، وموضوعها السؤال عن الكون، ما هو الكون وما هو مبدأه؟ (من طاليس إلى السفسطائيين) الـمرتبة الثانية، التي ابتدأها الصوفستيون (السفسطائيون)، وموضوعها السؤال عن الإنسان ما أنا؟ أو ما هو الإنسان؟ والمرتبة الثالثة والأخيرة من مراتب الفكر الفلسفي الإغريقي، التي تسيطر في الفلسفة بعد أرسطو، وموضوعها ماذا يجب على الإنسان، ماذا يجب عليّ؟ ونعرّف الـمرتبة الأولى بالـميتافيزيقية والـمرتبة الثانية بالـمعرفة والـمنطق والـمرتبة الثالثة بالأخلاق أو السلوك الـحسن.
سواء أكان جعل السفسطائيين الإنسان موضوع تفكيرهم، بوعي صحيح، كلي لـخطورة التطور الذي أحدثوه، أم بلا وعي، فإنّ قيمة موضوعهم هي: أنه يجب على الإنسان، الذي يحاول أن يوضح أحجية «ما هو الكون؟» سؤالاً أسبق هو «ما هو الإنسان نفسه الذي أخذ على عاتقه حل أحجية ماهية الكون؟» وبتحديهم هذا الـموضوع استحقوا وجود طريقتهم الفلسفية وأن يعدّوا ضمن نطاق الفلسفة، على الرغم من تهدم أسلوبهم، في متعاقب مفكريهم ومتكلميهم، وتهورهم في سفسطة صارخة مسخت جوهر موضوعهم وحطَّت قيمته.
إنّ انتقال الـموضوع الفلسفي من البحث عن منشأ الكون وماهيته إلى البحث في الإنسان، ماهيته وطبيعته، واضح من عبارة معلِّم السفسطائيين الأكبر أفروطقورس، الذي أطلق عليه أفلاطون لقب «الصوفي الكبير من عبداره» الـمشهورة عنه: «الإنسان مقياس كل الأشياء، فما هو له موجود هو موجود، وما هو له غير موجود هو غير موجود»، أي إنّ الإنسان هو مقياس وجود الأشياء وعدم وجودها. ولم يصل إلينا من كتابات أفروطقورس أو أقواله غير العبارة الـمتقدمة وعدة عبارات غيرها لا تبلغ كلها، مجموعة، أكثر من نحو عشرين سطراً، مع أنّ مؤلفاته كانت عديدة «في الصيرورة»، «الـحقيقة»، «الـخطب الـمسفلة»، «صحة اللغة»، «الكلام الـمستحسن»، «طبيعة الدولة»، ولكن أفلاطون صوّر لنا مذهب أفروطقورس في ما كتبه عنه وعن بقية السفسطائيين في محاورات: أفروطقورس، السفسطائيين، ثياتيطس، وخصوصاً في محاورة ثياتيطس.
من الصورة التي رسمها أفلاطون في الـمحاورة الأخيرة يتَّضح أنّ ما عناه أفروطقورس بالإنسان هو الفرد الإنسـاني الذي تـؤخذ حواسه أسـاسـاً ومقياساً للمعرفة. وهو واضح من سؤال سقراط: «ألا يقول (أفروطقورس) إنّ الأشياء هي لك كما تظهر لك، وهي لي كما تظهر لي، وإنني أنا وأنت أناس»؟ وجواب ثياتيطس: «بلى، إنه يقول هكذا». فتكون الـمعرفة، بهذه الطريقة، مجزَّأة على الناس، مختلفة ومتناقضة باختلاف أحوالهم بعضهم عن بعض وتناقض إحساسهم حسب عوارض حواسهم. هذه الطريقة توصل إلى الفوضى التي تـجعل من كل فرد مقياساً وحكماً لـما هو موجود وما هو غير موجود، كالقول الـمنسوب، على لسان سقراط، إلى أفروطقورس: «إني، لنفسي، حكم في ما هو موجود وما ليس موجوداً لي». وقد صارت هذه الفوضى نفسها تعريفاً لـمذهب السفسطائيين النسبي الذي اشتهر في التعريف الفرنسي: «Tout est relatif، et seul le relatif est absolu» بل صارت هذه الفوضى سبباً لـحكم قاس على النسبية التي لم يكن ما قدمته لارتقاء النوع الإنساني النفسي أقلّ ما قدمته الأنطولوجية والفلسفة الطبيعية الـمادية. ولذلك صار قول أفروطقورس «الإنسان مقياس كل الأشياء» موضوع هُزْءٍ وسخرية لـجميع الذين رأوا إفلاس هذا الـمذهب تـجاه حجج أفلاطون (سقراط) على الفردية والشكوك الناشئة عن جعل الفرد مقياس جميع الأشياء، ولذلك صارت كل محاولة جديدة للرجوع إلى الإنسان والعقل الإنساني تقابل بالاستغراب والاستنكار.
إنّ السفسطائييـن أدخلوا موضوع الإنسان إلى الفلسفة ولكنهم فهموا بالإنسان الفرد وقالوا بالنسبية الفردية، كما تـحدَّى سقراط نفسه، بالنيابة عن أفروطقورس، قائلاً: «فإما أن توضح، إن أمكنك، أنّ إحساساتنا ليست نسبية وفردية، وإما أن تبرهن، إذا سلّمت بأنها كذلك، على أنّ ذلك لا يؤدي إلى النتيجة أنّ الـمظهر يصير، أو، إذا شئت تعبيراً آخر، هو للفرد فقط» (ثياتيطس). وقد أوصلهم هذا الـمذهب إلى حالة الهُزْءِ والسخرية، كما ذكرنا آنفاً.
يـمكننا الآن أن نتقدم إلى وجه موضوع الإنسان الـجديد الذي يقدمه لنا الزعيم في شروحـه الأخيـرة في العقيدة والنظام القومييـن الاجتماعييـن (أنظر العدد الأول من النظام الـجديد، ص 48 ـ 51). ففي الشروح الـمذكورة يجعل الزعيم القيم إنسانيـة،أي أن أسـاس القيم،من حقيقة وخير وجمال وحق، ومقياسها هو الإنسان. فموضوع فلسفة الزعيم، إذن،هو الإنسان والقيم الإنسانية، لا منشأ الكون. وقد يخطر للطالب الابتدائي في الفلسفة الذي قرأ محاورات أفلاطون أن يقول: لـماذا يدخل الزعيم نطاق الفلسفة؟ ألم يقرأ محاورات أفلاطون ويعرف مصير نظرية «الإنسان مقياس كل الأشياء» والنسبية الإنسانية الـمتعلقة بها؟ أنعود اليوم إلى سفسطة أنّ الـمظهر هو الوجود لكل إنسان كما يظهر له وأنّ الـمعرفة هي حس كل إنسان وإدراكه لنفسه؟
إنّ استعجال الاستنتاج وسطحية التفكير فقط هما اللذان يجيزان إلقاء مثل الأسئلة الـمتقدمة، في صدد نظرة سعاده الفلسفية في موضوع الإنسان، والـمرور بعناصر الفكر الـجديدة في فلسفة سعاده، من غير تنبه لها ولـخطورتها.
إنّ موضوع الإنسان الذي يقدمه سعاده يختلف كثيراً عن موضوع الإنسان في كلام السفسطائيين وسفسطتهم، ولا يصح فيه، مطلقاً، شيء من مناقشات أفلاطون على لسان سقراط!
إنّ الإنسان، في عُرف السفسطائيين، هو الفرد ـ كل فرد هو لنفسه مقياس الـحقيقة شعوراً ومعرفة، فلا تكون هناك حقيقة واحدة بل حقائق عددها عدد الأفراد وعدد الـحالات التي يـمر بها الأفراد. أما سعاده فيقول إنّ الإنسان الـحقيقي هو الـمجتمع لا الفرد، وإنّ الفرد هو مجرد إمكانية إنسانية. سعاده يقول: «إنّ عقيدتنا تقول بحقيقة إنسانية، كلية، أساسية هي الـحقيقة الاجتماعية: الـجماعة، الـمجتمع، الـمتحد... الـمجتمع هو الوجود الإنساني الكامل والـحقيقة الإنسانية الكلية». ويقول أيضاً: «إنّ عقيدتنا اجتماعية، تنظر إلى الإنسان من زاوية الـحقيقة الإنسانية الكبرى ـ حقيقة الـمجتمع، لا من زاوية الفرد، الذي هو في حد ذاته وضمن ذلك الـحد، مجرّد إمكانية إنسانية» «ليست قيمة الـحق، ولا قيمة الـحقيقة والـخير والـجمال، مادية، فهي لا تقاس بالسنتيمترات أو بالأمتار الـمربعة أو الـمكعبة ولا توزن بالأواقي ولا بالأرطال ولا تـحد بـمكان أو زمان معيّن. إنها قيم إنسانية نفسية ـ إنها قيم مجتمعية».
إنّ الإنسان ـ الـمجتمع الذي يعلنه سعاده هو غير الإنسان الفرد الذي أعلنه السفسطائيون، فلا يـمكن مطلقاً أن توجه إلى إنسان سعاده السؤالات التي وجّهها أفلاطون، على لسان سقراط، إلى إنسان السفسطائيين.
يقول سعاده: إذا غلط امرؤ في استنتاج أو تأويل أو في حس ما فيصلح غلطه باستنتاج امرىء آخر، أو تأويله أو حسه الصحيح. وهو يقول أيضاً: «شرط الـحق، في الإنسانية، ليكون حقاً، أن لا يعلن نفسه ساعة ويختفي، وأن لا يختزنه العدد الفردي أو الـمجموعي في نطاقه الـخاص فيفنى فيه ـ أن لا يكون حقاً عددياً، بل حقاً اجتماعياً لا ينفرد فيه الفرد ولا يستقل به العدد، بل يـمتد في الـمجتمع بلا حدود» (شروح في العقيدة والنظام).
لا يـمكن أن يتناقض إنسان سعاده في نفسه في صدد هل الريح ساخنة أم باردة متى كانت ساخنة أو باردة، كما يختلف أناس السفسطائيين بعضهم مع بعض متى كان الواحد حاراً والآخر بارداً فتكون الـمعرفة على أساس الـحس فيختلف الـحس بين الـحار والبارد وتختلف الـمعرفة.
إنّ إنسان سعاده هو غير إنسان السفسطائيين ومعرفة إنسان سعاده هي غير معرفة إنسان السفسطائيين. إنّ الزعيم ينظر إلى الإنسان من مستوى فكري جديد ويرفع بنظره الإنسان من حدود فرديته الـمنحصرة في إمكانيتها إلى مطلق اجتماعيته الـمنفتحة على الكون.
إنّ نظرة سعاده إلى الإنسان هي فتح فلسفي جديد ومركز انطلاق نحو سمو إنساني جديد. إنّ نظرة سعاده ترفع موضوع الإنسان من سفسطة الـجزئيات إلى فلسفة الكليات. إنها فهم جديد، شامل، لـحقيقة الإنسان ومعرفة الإنسان والقيم الإنسانية.
«الإنسان ـ الـمجتمع». هذه هي فلسفة الإنسان الـجديدة. والشريعة الأساسية للإنسان، كما أعلنها الزعيم في محاضرته في الـمبدأ الإصلاحي الأول، هي العقل الذي لا يجوز أن تعطله شريعة أخرى. فإذا كان الله قد أعطى الإنسان العقل ليدرك به ويعرف، فهو لم يعط شيئاً ليعدمه ويعدم قيمة العطاء.
إنّ فلسفة سعاده تتكشف عن قضايا ومفاهيم جديدة سامية. وهي تـحتاج إلى دراسات عديدة. إنها تفتح إمكانيات إنتاج فكري جـديد يخطو بالـمجتمع خطوة خطيرة نحو ذروة القوة وغلبة الـموت!