(نشرت مجلة الـجمهور في بيروت في عددها الصادر بتاريخ 12 يوليو/تـموز 1937 الـمقال[1] التالي بقلم سعاده وهو يستعرض جميع الـحركات السياسية والاجتماعية التي توالت على البلاد السورية حتى نشوء الـحزب السوري القومي الاجتماعي ونعيد نشره الآن لأن فيه علاجاً لقضايا الأمة وأساساً للتخطيط القومي الـجديد على نور مبادىء النهضة القومية ونظرياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وإننا نلفت النظر إلى هذه الـمقالة بنوع خاص لأنها مصدر جميع مظاهر التفكير الاجتماعي الاقتصادي السياسي الـجديد في وطننا، حتى أنّ مؤسسات معادية للحزب السوري القومي الاجتماعي كالـحزب الشيوعي تقتبس من هذه الـمقالة كل ما تعالج به القضايا الداخلية كقضية الرأسمال الأجنبي وخطورتها. والظاهر أنّ الزعيم قد وضع في هذه الـمقالة تـمهيداً لـخطوط التطورات السياسية الاقتصادية في الدولة القومية الاجتماعية الـمقبلة خصوصاً القسم الأخير تـحت عنوان «النهضة القومية وصعوبات الـحالة الراهنة»:)
أخيراً وجدت الأمة السورية نفسها في النهضة القومية الاجتماعية التي أوجدها وقادها الـحزب السوري القومي الاجتماعي. ومتى وجدت أمة نفسها فقد وجدت حقوقها ووجدت السبيل إلى هذه الـحقوق.
منذ فقدت سورية سيادتها الـمطلقة، بزوال الإمبراطورية السورية (السلوقية)، ومنذ عادت ففقدت سيادتها النسبية بفشل العباسيين الذين سهّلوا زوال السلطة من أيدي السوريين وبطلان كون سورية مركز الدولة الدينية في الإمبراطورية الإسلامية، تعاقبت على سـورية قرون من التخضوع للسيـادات الأجنبيـة الـمتواليـة عليها فأفقـدت أهلهـا كل
معنى من معاني القومية والسيادة القومية، وساعد اختلاف الـمذاهب الذي منيت به على إفقادها كل سبب من أسباب الوحدة الاجتماعية والسياسية وكل طموح إلى القوة السياسية التي يجدر بها الـحصول عليها. وكان من نتائج تعاقب عصور الـخضوع وحلول التصادم الاجتماعي الداخلي، الـمسبّب عن تزاحم الـجماعات الدينية، محل التعاون الاجتماعي الذي هو الطريقة الأساسية لـحفظ حياة الـمجتمع وشخصيته وتأهيله للتقدم في مراقي العمران والتمدن، أنّ الأجيال السورية أخذت تتوارث أمراً مفعولاً وحالاً راهنة فتحسبهما حادثين طبيعيين لا مفرّ منهما وتـجتهد في توفيق حاجاتها لهما، فرأت الطبقات العليا أن تبحث عما يرضي الـمسيطر الأجنبي فتفعله، بائعة مصالح الطبقات العاملة، وسلّمت الطبقات الدنيا أمرها للقدر.
في هذه الـحال التي عرفت فيها الأمة السورية استعبادين: الـخضوع للإقطاعي الـمتحكم في رقاب الفلاحين وخضوع مجموع الأمة للطاغية الأجنبي، نام الوجدان القومي في سورية نومه العميق وأضاعت الأمة شخصيتها في الشخصيات الدينية الـمتضاربة الـمصالح وفي الـمؤسسات اللاقومية. وفي أثناء نوم الوجدان القومي ظلت الـمؤسسات الاجتماعية العتيقة مستمرة في عملها الكلاسيكي حتى كادت العقلية السورية تتحجر تـحت مؤثراتها الـمحدودة الـخالية من أي منبّه أو حافز لتجديد الـحياة، وظلت الأمة السورية في غفلة عن أخطار تنازع الـحياة والتفوق بين الأمـم.
تـحت هذا النير الـمزدوج من الـخضوع وقفت الثقافة السورية عند الـحد الذي كانت قد بلغته. فلم يحدث في سورية أي تطور جديد، لا في الثقافة الـمادية ولا في الثقافة النفسية، فلا الزراعة اكتسبت شيئاً ولا الصناعة زادت ولا العلم ازداد ولا الفنون ارتقت. وظلت الـحياة تـجري ضمن مؤسسات الـمذاهب الدينية والإقطاع، ومشيخة العشائر في بعض الأنحاء، فلا يفتح سوري عينيه إلا على طائفته أو عشيرته أو سيده. وكان أساس الـحياة الاجتماعية: إما الطائفة وإما العشيرة. وكان أساس الـحياة الاقتصادية الرق الإقطاعي وبعض الـمهن الـحرة والتجارة التي لم تكن تستند إلى صناعة محلية.
إنّ نتيجة نظام اجتماعي أولي هي بقاء الـحياة في حالة أولية. وعدم تـجدد الـمؤسسات الاجتماعية يعني اطراد الـحياة على وتيرة واحدة وتـحجّر الأنظمة الاجتماعية. ومـما لا شك فيه أنّ مؤسسات حياتنا الاجتماعية الـمذكورة آنفاً هي مؤسسات عتيقة لا تصلح لـحاجات الأمة إلا إذا بقيت الأمة جامدة لا تريد أن تتقدم خطوة واحدة عن الـحد الذي كانت قد بلغته في العصور القديـمة.
والواقع أنّ الأمة السورية ظلت جامدة بينما الأمـم الأخرى ترتقي في تـحسين حياتها وعمرانها وثقافتها. وكانت النتيجة أن انعدمت الـمثل العليا النفسية انعداماً تاماً وأصبحت الـحاجات الـمادية الأولية محور الـحياة.
ولـما آذنت السلطنة العثمانية بالتفكك اتـجهت أنظار الدول الكبرى إلى سورية وابتدأت تنشىء معها علاقات ثقافية فكانت البعثات الدينية والعلمية. وكان هم هذه البعثات بذر بذور آداب الدول التي تنتمي إليها ودعاواتها فتزاحمت تزاحماً شديداً، وكانت كل واحدة منها تعلّم السوريين عظمة أمتها وتاريخها وجغرافيتها فتحببها إليهم وترهبهم بعظمتها. واتفقت هذه البعثات كلها على تعليم السوريين الـمبادىء الإنسانية العالمية وكره الـحرب وعلى إظهار ضعفهم الـمادي والـمعنوي بالنسبة إلى أمـمها العظيمة الغنية بـمواردها، القوية بـمعدّاتها. فأخرجت الثقافة الاستعمارية في سورية طبقة مثقفة خالية من الـمثال الأعلى القومي، مجرّدة من الثقة بـمواهب الأمة السورية الـممتازة، معترفة بعدم جدارة السوريين بالتشوق إلى السيادة القومية، مقتنعة بأن الـحال الراهنة أمر إلهي أو طبيعي لا مندوحة عنه ولا سبيل إلى تغييره، مستشهدة بـمركز البلاد الذي يجعلها مطمح أنظار الدول القوية وبتعدد سلالات الأمة وأديانها، منتهزة كل فرصة لإقامة الدليل على عدم جدارة الأمة بالنهوض وعدم أهليتها للتطلع إلى الاستقلال.
كل ذلك أسباب عملت على إبقاء السوريين في حال جماعات متفرقة متنابذة تتحرك بدوافع الـحاجات الاقتصادية الأولية وتزاحم بعضها بعضاً من أجل هذه الـحاجات، وعلى استنفاد الـمواهب السورية العالية وقوى السوريين في أعمال الاقتصاد الفردي أو العائلي، وفي سياسة العائلات والطوائف.
النهضة الرجعية
بيد أنّ الأمر لم يطل على تزعزع السلطنة العثمانية وابتداء احتكاك السوريين بالأمـم العصرية في الغرب حتى أخذ التململ من الـحال الراهنة يظهر بجلاء، وأخذ الضغط النفسي والاقتصادي يطلب مخرجاً فخرجت من الـمؤسسات العائلية والدينية فئة رأت الـمخرج في الرجعة إلى الدولة الدينية التي لا تزال الـمؤسسات الدينية تذكرها وتـحنّ إليها، إلى دولة هرون الرشيد وما تركته من تقاليد الإدارة الـمعلقة بـمشيئة أمير الـمؤمنين ورغبته الصادرة عن هوى نفسه. ومع أنّ عصر الدولة العباسية آذن بذهاب السيادة من السوريين وصار فاتـحة انحطاط الـحضارة والثقافة السوريتين فإن بعث النظام السياسي الديني كان الـمثال الأعلى للنهضة التي أطلق عليها أخيراً إسم النهضة «الوطنية» وتزعّمها نفر من الإقطاعيين وأبناء الإقطاعيين الـمتعلمين وعدد من النفعيين الراقين. وكان من عجز هذه «النهضة» عن إدراك الأساس القومي للحياة السياسية والاقتصادية أنها شيّدت صرحها على أساس إنكار القومية السورية وخلطها بين القومية والعصبية الدينية وبين معنى الأمة ومعنى العالم الثقافي أو اللغوي، وأنها أمنت على التعاليم الـمنافية لـمصلحة الأمة السورية القائلة إنّ سورية ضعيفة، فقيرة، يعرّضها مركزها لـمطامع الدول الاستعمارية، لأنها «الـجسر» بين الغرب والشرق. ونادت فئة بأنه لا نـجاة لسورية إلا إذا دفنت شخصيتها في شخصية نظام سياسي أسموه «الإمبراطورية العربية» ونادت فئة أخرى بأنه لا يستقيم أمر البلاد إلا إذا أخضعت لدولة تؤمّن حقوق الأقليات أو تـجزّىء البلاد إلى دويلات على أساس ديني.
أنشأت هذه «النهضة» مؤسسات الشركات السياسية الـمحدودة أو الـمغفلة التي سارت في عهد الانتداب على خطة الـمناورات الاعتباطية، وهي خطة كلّفت الشعب السوري خسارة قسم كبير من مصالـحه وموارد ثروته ولم تـمسّ نظامه الاجتماعي والاقتصادي لا بقليل ولا بكثير لا نظرياً ولا عملياً. وقد عملت هذه الشركات تارة باسم «كتلة» وطوراً باسم «جمعية» وآناً باسم «حزب» وآونة باسم «عصبة» وحيناً باسم «مؤتـمر» مضيفة إلى هذه الأسماء نعت الوطنية أو أي نعت له جاذبيته عند العامة السليمة الطوية. وجميع هذه الشركات عملت برأسمالها الـخاص، ولـحسابها الـخاص، ولذلك بقيت «نهضتها» منحصرة في ذاتها، لا تتناول الشعب بتربية ولا بتنظيم.
كان أبرز ظاهرة سياسية في هذه النهضة الرجعية أنها كانت تستمد حيويتها الضعيفة، غير الـجديرة بالـحياة، من العصبيات الدينية التي كان لا يزال لها بقية في نفس الشعب بعامل الاستمرار. وكان من نتائج هذه النهضة الرجعية أنّ سورية الـمشمولة بالانتداب الفرنسي انقسمت إلى دويلات مؤسسة كل واحدة منها على أساس مذهب ديني غالب فيها، وأنّ سورية الـمشمولة بالانتداب البريطاني انقسمت إلى دولتين ومنطقة معلقة الـمصير تستثمرها بعض هذه الشركات.
وكان أبرز ظواهر هذه النهضة الرجعية من الوجهة الاجتماعية: التصادم الاجتماعي والسياسي والأنانية العمياء، والفردية الرعناء. وقوّتها كامنة في استثارة الغوغاء واستثمار هياجه، ووسائلها استئجار الصحف أو مراسلي الصحف والـخطابة في الـجوامع والكنائس.
الرأسمال والشيوعية
وسط الفوضى والبلبلة اللتين أثارتهما النهضة الرجعية أخذت قوتان مضادتان تـمدّان حبائلهما أمام الأمة الـحائرة الـمشعثة النظام لتوقعاها، وهاتان القوتان هما: الرأسمالية والشيوعية.
ولقد كان الرأسمال أسبق إلى التكوّن في سورية. وكان بعد تكوّنه أكثر ما يكون قناعة بالـحال الراهنة وأشد ما يكون خوفاً من انقلابها. فلم يتحرك الرأسماليون السوريون لنهضة أو لأمر، بل تركوا الأمور تـجري في أعنّتها وعملوا على تكييف أنفسهـم للحـال الراهنـة واستثمـارها مدفـوعين بعامل الأنانيـة العمياء والـمصالح الـمستعجلة.
أما الرأسمال الأجنبي فهو قد وجد في حالة الفوضى والتفسخ القومي مقاتل الفريسة التي يطلبها، فسارع إلى إنشاب مخالبه فيها. وليس يحسب الرأسمال الوطني شيئاً بالنسبة إلى الرأسمال الأجنبي الذي استولى على أهم مرافق حياة الأمة وأمسكها من خنـاقها ووضع لعبوديتها سلاسل وقيوداً وأغلالاً. وتواطأ الرأسمال الأجنبي مع الرأسمال الوطني والنفعية والأنانية مع ذوي الـمصلحة في الـحكم.
وسارت الامتيازات وفساد الإدارة والأنانية الـجاهلة يداً بيد وبيعت مصالح الأمة بالـمزايدة السرّية. وجرت إذاعات النهضة «الوطنية» تـحثّ الشعب على تأييد الصناعة الوطنية والإقبال على مصنوعاتها، فكانت «الوطنية» وسيلة من وسائل الرأسمال الوطني الـمساهم في «النهضة الوطنية» لاستثمار عواطف الشعب واستغلال وطنيته وقوميته.
وجاءت الشيوعية مع الـجوالي الأجنبية تزيد الطين بلّة، وقد جلبت معها النظرة الأفقية في الـمسائل الاجتماعية وهي النظرة اللاقومية القائلة بحرب الطبقات في جبهة عامة من العمال التي لا ترى وطناً ولا تعرف قومية ولا تشعر بعصبية غير عصبية الطبقة. ولم تأتِ الشيوعية سورية بغير الـحركة السياسية التي تديرها موسكو. فإن النظريات والـمبادىء الشيوعية نفسها لا أثر لها في البلاد سوى النشرات الـحاثّة العمال على الثورة وعلى محاربة الفاشستية الألـمانية التي تـحولت كل جهود موسكو والشيوعية الإنترناسيونية إلى مهاجمتها بعد ظهور التضارب في الـمصالح الروسية والألـمانية.
وإذا كان الرأسمال الوطني قد أصبح صنيعة الرأسمال الأجنبي، فإن الشيوعية الوطنية ليست سوى صنيعة الشيوعية الإنترناسيونية. ولعل أعظم ما تطمح إليه الشيوعية العملية تأسيس حكم الشيوعية السياسية ونقل امتيازات الإقطاعيين إلى الطبقة الشيوعية الـحاكمة.
ومع كل مظاهر التنافر بين الرأسمالية والشيوعية فالـمذهبان يتفقان في اللاقومية، وتختلف لاقومية الواحدة عن الأخرى نوعاً، فعصبية الرأسمالي في رأسماله وعصبية الشيوعي في طبقته. ولسنا هنا في مقام تشريح النظرة الشيوعية الـخطرة على الأمـم في عالم أو عصر، أظهر مظاهره حياة الأمـم وتنازعها الـحياة والتفوق، ولا في بحث الـمذهب الرأسمالي وخطره على معنوية الأمة واقتصاد الدولة وسياستها، ولكننا نكتفي بتسجيل سوء أثرهما في حياة الأمة السورية وحيلولتهما دون استيقاظ الوجدان القومي وإعادة تنظيم الـمجتمع السوري تنظيماً يعطيه التجانس والـحيوية الضروريين لتقدمه ورفع مستوى حياته.
النهضة القومية
قامت النهضة «الوطنية» (الرجعية) على الـمبادىء الآتية:
1 - إنه ليس في سورية أمة.
2 - سورية بلاد صغيرة لا تتمكن من الصمود لعدو ولا تقدر على الـحياة مستقلة.
3 - عدم التعرض للنظام الاجتماعي الداخلي.
4 - الدين أساس الدولة.
5 - الاعتـراف بصـلاحيـة رجـال الدين للتدخل في شؤون البلاد السياسية والإدارية والقضائية.
6 - توفيق الرغبات لـمجرى الإرادة الأجنبية.
7 - عدم التعرض لـمسألة مستوى الـحياة.
8 - الـمصلحة الفردية أساس كل مصلحة.
وقد توفقت هذه النهضة إلى إيجاد مؤسسة واحدة هي مؤسسة الشركة السياسية الـمحدودة التي وضعت يدها بيد الرأسمال خصوصاً الرأسمال الأجنبي. وتوفقت إلى تأسيس دويلة في الشام دين رئيسها الـمحمدية، وتأسيس دويلة في لبنان يتنازعها نفوذ البطريركية الـمارونية والـمؤسسات الـمحمدية ودويلة في ما بين النهرين ملكها من نسب الرسول، وجعل مفتي فلسطين مرجع الـحركات السياسية في هذه الـمنطقة.
أخيراً انبثق فجر النهضة القومية التي جاءت تنقض تعاليم «النهضة الوطنية» الفاسدة وتـحلّ محلها تعاليم قومية تظهر الشخصية والنفسية السوريتين وتوقظ الوجدان القومي، أول خطوة نحو التحرر من الـخمول والقضاء على خرافة «الوطنيين» القائلة أن لا أمة في سورية.
كان انبثاق هذه النهضة الـمحيية فكرة فاعلة اتخذت شكلاً سياسياً في خريف 1932، حين أسفرت الـمحادثات مع بعض الطلبة في الـجامعة الأميركانية عن اعتناق الـمبادىء التي تأسس عليها الـحزب السوري القومي الاجتماعي، ومنذ ذلك الوقت وحركة الـحزب السوري القومي الاجتماعي تعمل في طول سورية وعرضها جاذبة ألوف الشبان والشابات إلى الإيـمان القومي الـمحرر النفوس من عبودية الاستسلام للحال الراهنة ومضاربات الشركات السياسية مكونة منهم، لأول مرة في التاريخ الـحديث، إرادة قومية واحدة ومصلحة قومية واحدة.
إنّ إيقاظ فكرة الأمة غيّر كل مقاييس القوة الكامنة في الشعب السوري الغني بـمواهبه الفطرية، وفتح أمام الأمة السورية مجالاً لعدد لا يحصى من الـممكنات العملية، لقتل الدعاوات الأجنبية الفاسدة وتغيير التاريخ ونقض الأمر الـمفعول الذي يضع سورية في عداد الأمم الـميتة ويحسبها مغنماً من مغانـم تركة «الرجل الذي احتضر»[2]، في حين أنه ليس سوى حادث من حوادث التاريخ.
إنّ النهضة السورية القومية الاجتماعية تضع تـجاه التسليم بالـحال الراهنة نظرية تقول: إنه إذا كان التاريخ قد تغيّر مرة ففي الإمكان أن يتغير مرة أخرى وإذا كانت حوادث تاريخية معيّنة قد أفقدت سورية إمبراطورية الهكسوس وإمبراطورية صور وقرطاضة وبابل وأشور والإمبراطورية السورية (السلوقية) وزعامة الإمبراطورية الـمحمدية، فإن حوادث تاريخية معيّنة جديدة تدفع سورية مرة أخرى إلى مرتبة أمة حية وقوة سياسية يجب أن يراعى حقها في الـحياة. هذه الـحوادث التاريخية الـمعيّنة الـجديدة هي حوادث النهضة السورية القومية الاجتماعية.
شقت النهضة السورية القومية الاجتماعية أمام سورية طريق القومية والـمبادىء الاجتماعية، وهي الطريق التي تخرج قوى الأمة الـجديدة من مكامنها لتسير عليها في تقدم مطرد، نحو الـمستوى الأعلى والـحياة الـمثلى.
تـمكن الـحزب السوري القومي الاجتماعي من شق الطرق لتحيا سورية بفضل مبادئه التي توجد الوحدة القومية على أسس راسخة وروحية نهضته الـمولدة إرادة في الـحياة لن تـحول دون نفاذها كل شعوذات الإرادات الـمعادية، الرامية إلى إقرار الـحال الراهنة على أساس تثبيت مجحف بحقنا في الـحياة ومصلحتنا.
إنّ النهضة القومية الاجتماعية تعترف بأنه ليس أفضل من تنازل بعض الأمـم عن حقهن في الـحياة لتوطيد سلام دائم وبأن سورية ليست ولا تريد أن تكون من هذا البعض. وهي ترفض التسليم بإخضاع الأمة لـحوادث التاريخ.
إنّ وضـع العصبية القومية موضع العصبيات الدينية والعشائرية أنقذ الـحيوية السورية من فوضى التجزئة، وأطلق قوة روحية عظيمة لا حدّ لـممكناتها، وأقام في الـمجتمع السوري نظام التعاون بدلاً من نظام التصادم الذي أسسته النهضة الرجعية، التي أطلق عليها خطأ نعت «الوطنية»، وأحلّ مصلحة الأمة محل مصلحة الفرد، التي يقول بها النفعيون والرأسماليون ومحل مصلحة الطبقة التي ينادي بها الشيوعيون.
1 - سورية للسوريين والسوريون أمة تامة.
6 - الأمة السورية مجتمع واحد.
8 - مصلحة سورية فوق كل مصلحة.
4 - (إصلاحي) إلغاء الإقطـاع وتنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج وإنصاف العمل وصيانة مصلحة الأمة والدولة.
هذه مبـادىء أساسيـة للنهضـة القوميـة الاجتماعية التي بعثت الأمة السورية حية وهي ذات معنوية عظيمة في هذه النهضة. ففي الأول ينقض السوريون القوميون الاجتماعيون حكم الـحقوق الـمكتسبة من عوارض التاريخ. وفي الـمبدأ السادس يضع السوريون القوميون الاجتماعيون فكرة الـمجتمع السوري مكان فكرة الطائفة أو العشيرة وهو مبدأ ذو فاعلية عظيمة في توحيد الأمة توحيداً ثابتاً راسخاً. وفي الـمبدأ الثامن يعلن السوريون القوميون الاجتماعيون صراحة أنه متى بلغت الأمة مفترق طريقين تؤدي الواحدة منهما إلى الفناء وتؤدي الأخرى إلى الـحياة والارتقاء فليس هنا الزمان والـمكان لتبشيرها بالسلام الإنساني والإخاء البشري وتنازع الطبقات في مذهب اللاقومية. وفي الرابع الإصلاحي يوجد أساس جديد للمجتمع وفاعليته يكسبه قوة جديدة وصحة وسعادة.
النهضة القومية وصعوبات الـحال الراهنة
إنّ صعوبات الـحال الراهنة هي الـحصن الذي تتمركز فيه النهضة الرجعية على أمل أن تصدّ تقدّم النهضة القومية الاجتماعية، لأن تقدمها يعني القضاء على الرجعية العاملة على استثمار الأمة وتركها في تفسخها.
توجه النهضة الرجعية إلى النهضة القومية أسئلة تعجز هي، لعقمها، عن إيجاد جواب إيجابي لها، ظانّة أنّ العقم وفقد الإيـمان القومي صفتان متلازمتان لكل نهضة، حتى وإن كانت صحيحة. ومن هذه الأسئلة النموذج الآتي:
هل تقدر سورية، على صغرها وقلّة عدد سكانها وفقرها، أن تستقل وتؤمن استقلالها وتـحمي حدودها؟
وبديهي أن لا تتمكن الرجعة من إيجاد الـحل الإيجابي لهذه الـمسألة لأن الرجعة جاهلة موارد الأمة السورية وقوّتها الـمخزونة، وجاهلة مبادىء القوة السياسية والنظام السياسي والاقتصادي العام في العالم.
أما النهضة القومية فقد وجدت الـحل الإيجابي لهذا السؤال وغيره. فإن في سورية موارد للثروة عظيمة جداً كالبحر الـميت، الذي يقدّر بـملايين ضخمة العدد والنفط ومعادن أخرى. وإذا علمنا أنّ ثروة سورية الزراعية وحدها يـمكن أن تتضاعف ثلاث وأربع مرات مضاعفة، أدركنا أنّ سورية ليست باقية في فقرها إلا بسبب الشعوذة الوطنية التي قامت بها الـحركة الرجعية فصرفت حيوية الأمة في غير مصلحتها. وأما من حيث عدد السكان فسورية الـجغرافية تتسع لنحو خمسين مليوناً يـمكن بلوغها في مدة غير طويلة من إدارة قومية اجتماعية! أضف إلى ذلك ما يـمكن النهضة السورية القومية أن تكسبه من القوة السياسية باشتراكها في النظام السياسي - الاقتصادي العام.
لا تكتفي النهضة القومية الاجتماعية بهذه الـممكنات العملية، فإن القوة النفسية التي أطلقتها في الأمة السورية قد رفعتها من درجة الانهماك في الـحاجات الاقتصادية الأولية وإدراك أولي للحاجة الاقتصادية إلى مرتبة فهم الـحاجة السياسية وإدراك القوة السياسية التي ستمكنها من بلوغ السيادة وتأمين الدولة الاجتماعية.
إنّ الـحزب السوري القومي الاجتماعي قد رفع الأمة السورية من حال مجتمع يشعر بالضيق الاقتصادي والفقر والنكبات إلى حال مجتمع يتمكن من تعيين مصالـحه بالنسبة إلى الـمصالح الأجنبية ويأخـذ الأهبة للثبات في مجـال تنازع الـحياة والتفـوق. وإنّ الطريق، التي شقّتها النهضة القومية لإبلاغ سورية القوة السياسية والاقتصادية، ستصيّر مركز سورية الـجغرافي، الذي كان فيما مضى سبباً في ضعفها وفقدان سيادتها، سبباً في قوة سورية السياسية. إنّ لـمركز سورية الـجغرافي أهمية إنترناسيونية ستعيده موضع قوة لنهضة سورية القومية الاجتماعية.
إنّ الطريق قد شُقّت والأمة تسير نحو مثالها الأعلى وإنها لبالغته.
أنطون سعاده