يوجد في بيئتنا، وخصوصاً في أوساطنا الناجحة مادياً، ميل إلى الاعتقاد أنّ الأفراد الناجحين مادياً هم أهل لتولّي أمر النجاح القومي والتدخل في الـمسؤوليات العليا للقضية القومية.
يندر أن لا يعتقد غني من أغنيائنا أنّ ثروته التي أحرزها بنشاطه وكدّه واجتهاده وسهره واقتداره في العمليات التجارية وتتبّع حركة السوق، وأحياناً بتقتيره أو بـمضارباته أو بحسن حظه، هي شهادة له بأهليته للتدخل مباشرة في القضايا السياسية الكبرى وفي الـمسؤوليات القومية العليا، ولإدارة العمل القومي برمّته وللإضطلاع بجميع الأعباء السياسية أو بضرورة أخذ رأيه وموافقته في كل سياسة قومية أو مشروع سياسي ينتظر منه أن يؤيده، فهو لا يكتفي بأخذ رأيه وموافقته للغاية الأخيرة والعقيدة الأساسية والأهداف والـمثل العليا، بل يريد أن يُستشار في كل خطة سياسية يجب تقريرها لـخدمة العقيدة والقضية، أو أن يكون مرجع الـموافقة الأخيرة لها.
ذكرنا في مقالة «الوطنية والأريحية في الـمغترب» التي نشرناها في العدد الثالث والستين من الزوبعة أخطاء عدد كبير من أغنيائنا الـمغتربين، الذين بدلاً من أن يؤيّدوا نهضة أمتهم وبعث قوميتهم وشرف جنسهم يبذلون مبالغ كبيرة من ثرواتهم التي كسبوها، بالأكثر بتعاملهم مع تـجار صغار سوريين فضّلوا شراء بضاعة مخزن مواطنهم على شراء بضاعة مخازن غير مواطنيهم (لا ننسى أنّ معظم حركة تصريف بضائع التجار السوريين الكبار متعلق رأساً بـمبلغ انتشار التجار السوريين الصغار وإذا كان بعض تـجارنا توصلوا أن يبيعوا إلى تـجار أجانب أكثر مـما يبيعون إلى تـجار سوريين فذلك لم يحدث غالباً إلا بعد تأسيس كيانهم التجاري على مقطوعية التجار السوريين الصغار الـمنتشرين في مدن وقرى ودساكر ديار الغربة) في طلب رضى بعض الـحكـومـات أو في اكتسـاب وجاهة عرضية كوسام من دولة أجنبية ناصروا قضيتها أو خدموها تزلفاً. وقلنا إنّ هؤلاء الأغنياء الغلطانين وجدوا تـحبيذاً لغلطهم من صحافة لا غاية لها غير التملق والتزلف، فأصبحوا يعتقدون أنّ رأيهم يجب أن يكون الأعلى في جميع الـمسائل القومية وقضايا الأمة الكبرى، بل أصبحوا ينظرون إلى عامل أو مفكر أو شارع قومي نظرة الاستهزاء أو اللامبالاة والتكبر. وصاروا ينتظرون بل قد تعودوا أن يروا أنّ القضايا تطرح نفسها عليهم وتتقدم إلى مقاماتهم وقصورهم خاشعة، واجفة، متملقة.
مقياسهم في تفكيرهم هو: النجاح الفردي الـمادي. هم أغنياء وقد يكون مؤسس العقيدة وصاحب الدعوة غير مثري فكيف يـمكن توليته الأمر؟ إنّ ثروتهم دليل مقدرتهم ونـجاحهم الفردي يعطيهم قوة ويشهد لهم أنهم أفعل. أما الذي ليس غنياً فبأي حق يكون زعيماً أو قائداً أو رئيساً؟
هذه الـحالة النفسية الـمعقدة الـملازمة لـجميع أفراد طبقة أغنيائنا، لا أفراداً نادرين منهم، هي من جملة الـمشاكل الصعبة الـحل التي لا بد من حلها لاكتساب تعاون الأغنياء منا في نهضتنا القومية الاجتماعية.
إنّ نـجاح أغنيائنا الإفرادي هو دليل نشاط كل واحد منهم وشدة جدّه في العناية بأسباب ثروته وفلاحه الـخاص، لكنه ليس دليلاً على مبلغ شعور كل أحد منهم مع غيـره - مع مواطنه ومع أبناء أمّته في قضية الـخير العام - لا على مبلغ فهمه قضايا الأمة السيـاسيـة والاقتصاديـة ونسبتها إلى النظـام والترتيب السياسي - الاقتصادي الإنترناسيوني.
النجـاح الفـردي، على ما يعترضـه من صعوبـات نسبية، حقيقية، هو نـجاح محدود ومنحصر في نقاط قليلة ولا يـمكن اتخاذه قاعدة أو مقياساً للنجاح القومي أو لـمقدرة الفرد على إحراز النجاح القومي العام.
إنّ طبيعة النجاح القومي تختلف كل الاختلاف عن طبيعة النجاح الفردي. وإننا نرى أنّ مبادىء النجاح الفردي غير الـمحدود تصل إلى الاصطدام بـمبادىء النجاح القـومـي والاجتمـاعي ويأخذ هذا الاصطدام أحياناً شكل ثورة دموية من العامة على طبقة امتياز النجاح الفردي الـمطلق، التي لا يهمها إذا أهين شرف الأمة أو ذلّت أو فقدت سيادتها طالـما تقدر هي (الطبقة) أن تظل متمتعة بخيرات الدنيا الـمادية.
وكثيـراً ما يجرّ العمل بـمبدأ النجاح الفردي الـمطلق إلى تـحالف الرأسمال الوطني النفعي مع الإرادة الأجنبية الاستعمارية، كما هو حال معظم الإقطاعيين وأصحاب الثروة في بلادنا الذين يأتـمرون مع الرأسمال الأجنبي الـمدعوم بالسياسة الاستعمارية على استغلال ذلّ الأمة وسقوطها، كما بيَّن ذلك الزعيم في مقالته الهامّة «شق الطريق لتحيا سورية». ذلك لأن طبيعة العمل بقاعدة الغنى الفردي بصرف النظر عن النجاح القومي، لا يـمكنها أن تربط مصيرها بـمصير طبيعة العمل بقاعدة النجاح القومي قبل كل شيء، التي تتطلبها أحياناً كثيرة التضحية بـمعظم أو بكل الثروة الـخاصة من أجل تأمين حرية العمل للنجاح القومي العام.
قاعـدة النجـاح الفـردي الـمطـلق هي: عـدم الشعـور بالـمسؤوليـة إلا عن النجـاح الـخـاص.
قاعدة النجاح القومي الـمطلق: عدم الشعور بالـمسؤولية إلا عن النجاح العام أو عدم الشعور بالـمسؤولية عن النجاح الـخاص إلا ضمن النجاح العام.
هـاتان القاعدتان تفرضان همّين مختلفين: همّ الـحالة الفردية وهمّ الـحالة القومية. الهمّ الأول يطلب تـحقيق غرض الفرد وهو الـمحدود الأسهل. والهمّ الثاني يطلب تـحقيق غرض الـمتحد أو الأمة. والذي يظن أنه بنفس الطريقة والأسباب التي حقق بها [الغرض الأول يـمكنه تـحقيق] الغرض الثاني لا ينزل هذا الظن من نفسه منزلة اليقين إلا بـمقدار جهله مقتضيات النجاح القومي وأسبابه.
والذي يـمكن تقريره، من درس طبيعة عمل صاحب عقلية النجاح الفردي، أنه غير مؤهل للإضطلاع بأعباء الإدارة العليا للنجاح العام إلا حين يكون هذا النجاح قد تأمن بعمل أصحاب نفسية النجاح القومي الـمطلق وبالاستناد إلى مؤازرتهم، وفي مثل هذه الـحالة، لا يكون قيام صاحب النجاح الفردي على الـحكم، مثلاً، إلا من باب النفوذ الشخصي في النجاح العام الـحاصل من الـمجهود العام بإدارة أصحاب نفسية النجاح القومي العام.
ولزيادة الإيضاح نقول إنّ مثرياً كبيراً يقدر أن يشتري عدداً من الصحف الكبرى لتذيع عن شخصيته ومقداراً كبيراً من الأصوات الانتخابية، وأن يساوم بعض ذوي النفوذ والأحزاب على انتخابه رئيساً لـجمهورية أمة أنشأها عظماء الفكر وقادة الـجهاد القومي، ووضع قواعد كيانها شارع عظيم وثبتته الـمؤسسات العديدة التي أوجدها ذلك الشارع أو غيره من عظماء التفكير القومي. هذا شيء يختلف كل الاختلاف عن مؤهلات القيام بإنشاء الكيان القومي وإبداع الإصلاح اللازم له، وعن قيادة الأمة في أحرج الظروف، وفي مشاكل الترتيب السياسي - الاقتصادي الإنترناسيوني.
إنّ رئيس الـجمهورية يجد حالة راهنة وكياناً قائماً، ومؤسسات مضطلعة بالأعباء مؤيدة بعدد من رجال الفكر والرأي وأهل الإختصاص. كل شيء قد تأسس من قبل وصنع بدقة وإتقان في إبداع فني رائع. وعلاقات الأمة الإنترناسيونية قد وضعت على أسـاس متين، وحالـة البـلاد الداخليـة تـحتمـل البذخ والترف والتبذير بالأغلاط السياسية إلى أمد لا يقل عن مدة انتخاب رئيس جمهورية على الأقل. ولكن ما أبعد هذه الـحالـة عن حالة لمَّ شمل أمة مشتتة، ووضع أسس نهضتها وبعثها، وشق طريق حقوقها ومصالـحها ومحاربة أدوائها الداخلية، وإعطائها عقيدتها ومثلها العليا، وتوليد حركتها وقيادتها في الـحرب الداخلية والـحرب الـخارجية إلى أن تـحرز النصر الأخير، وتـحتل مركزها في نظام العالم!
النفوذ الشخصي والوجاهة الشخصية هما مصلحة فردية من طبيعة العمل للنجاح الفردي، مهما كانت الـمظاهر الـخارجية التي يتذرعان بها دالّة على الغيرة على الـمصالح العامة، ولا يـمكن بوجه من الوجوه حسبانهما قاعدة أو أساساً للنجاح القومي.
النتيجـة الأكيدة لهذا البحث، هي أنّ مؤهلات العمل للنجاح القومي في مسؤولياته العليا هي غير مؤهلات العمل للنجاح الفردي، وأنّ قضايا ومشاكل إدارة العمل القومي هي غير قضايا ومشاكل إدارة العمل الفردي، ولا يجوز الـخلط بين العملين ومؤهلات كل منهما، إلا بقصد خدمة النجاح الفردي على حساب العمل للنجاح العام.
لا يعني ذلك أنّ كل الأغنياء محرومون حتماً من مؤهلات الـخدمة العامة أو الـمسؤوليات العليا في مراتبها. ولكنه يعني أنه إذا وجد غني أهل لذلك فأهليته ليست في غناه ولا في نـجاحه الفردي، بل في مبلغ اضطلاعه في القضايا العامة وإدراكه طبائع العمـل للنجـاح القـومي وخصـائصه التقنيـة وفي مقدرته السياسية والإدارية، وفي بُعد نظـره في العمل السياسي. كل ذلك مجرداً بالكلية عن ثروته ونفوذه الشخصي الـمكتسب من مقدرته الـمالية وإمكانه التأثير على عدد من التجار الـمحتاجين إلى التعامل معه بـموجب نظام النسيئة وغير ذلك.
تُعرف الـمؤهلات الـمذكورة بالنظريات الصالـحة التي يبديها ذلك الفرد الغني، وتكون قابلة النظر والنقد التقنيين ولا تكون من تلك الآراء البسيطة أو العاطفية التي يقبلها البسطاء، ولكنها لا تشتمل على خطة تقنية صالـحة لإنقاذ الـحالة أو لشق الطريق، وفي هذا الـموقف لا ميزة لغني على فقير. الإثنان يقفان أمام الـحق العام متساويين في الـحقوق الشخصية وفي الامتحان.
وللحكم في الـمؤهلات للأعباء العليا العامة الصيغة مقاييس تقنية. فلا يكفي أن يقـول غني أو فقيـر: «إنّ بلادنـا تـحتاج لإزالة التحمّس الديني والتعصبات العمياء» ليكون مساوياً الشارع القومي، وأهلاً لإنقاذ الأمة من تـحمساتها الدينية الصبغة في القضايا القومية العامة. إنّ طائفة كبيرة من العبارات البسيطة الـمشابهة للعبارة الـمتقدمة تدور على ألسن الأغنياء والفقراء، ولكنها خالية من كل قيمة تقنية. إنها تشبه أقوال أفراد اجتمعوا حول سرير مريض فقال الواحد: إنّ إزالة الـحمى عنه تسكّن وجع رأسه. وقال الآخر: أعتقد أنّ سرعة نبضه تسبب له اضطراباً. وقال غيره: إني أعتقد بصحة الـمثل القائل الـمعدة بيت الداء. إلى آخر ما يـمكن قوله بتكهنات بسيطة لا تغني عن الـحاجة إلى نطاسي يصل إلى العلة ويكون حكيماً في معالـجته التقنية، التي كثيراً ما تصطدم باعتراضات غير التقنيين والذين يريدون أن يكون لهم رأي في كل الـمسائل وكل الـمواقف.
عند هـذا الـحد يـمكن إلقاء هذا السؤال: ألا يـمكن التوفيق بين مبدأ النجاح الفردي ومبدأ النجاح القومي؟
وعليه نـجيب أنّ ذلك مـمكن، بل ضروري. ويـمكن بلوغ درجة أعلى من درجة «التوفيق». يـمكن إيجاد الامتزاج بجعل كل من الـمبدأين فاعلاً في الـمبدأ الآخر بالاستمرار. وإيجاد هذا التمازج هو من خصائص العمل القومي وليس من خصائص العمل الفردي. فإذا أمَّن الشارع القومي والعقيدة القومية إمكانيات النجاح الفردي في نتائج النجاح العام الـحاصلة أو الـمنتظر حصولها فقد قدّم مبدأ النجاح القومي السدى. وإذا أدرك مبدأ النجاح الفردي شدة ارتباطه وتعلقه بالنجاح القومي ورأى ضرورة الـمساهمة في مبدأ هذا النجاح فقد قدّم مبدأ النجاح الفردي اللّحمة.
النجاح القومي العام هو مؤمِّن بطبيعته النجاح الفردي. أما النجاح الفردي فليس مؤمِّناً بطبيعـته النجـاح القـومي، لأن طبيعتـه استبـداديـة وغرضه محصور في الفرد بذاته. فيحتاج الفرد العامل بهذا الـمبدأ لإدراك مبدأ آخر: إنّ استمرار النجاح الفردي لا يـمكن أن يتحقق إلا ضمن استمرار النجاح العام، وإنّ غرض النجاح الفردي الـمادي هو السعادة التي لا يـمكن أن توجد في الـمجتمع التعيس، لأنها ليست ذات خصائص نفسية - اجتماعية، كطبيعة مبدأ النجاح العام.
ويساعد الفرد الناجح على نـجاح قضية مجتمعه العامة بترك الاستبداد برأيه وبتأييد العمل العام على أساس العقيدة والـمبادىء والغاية الأخيرة، وترك ذوي الشأن والاختصاص في هذا العمل يعملون بهدوء بدون اشتراط التدخل في خصائصه وأساليبه إلا حين يكون حاصلاً على تفويض عام يخوّله حق التدخل.
إذا أدرك أغنياؤنا هذه الـمبادىء الأولية قدّموا لنهضة أمتهم خدمة كبيرة تسجل لهم في صفحات النجاح القومي، الذي يكسبهم بدوره امتيازات كبيرة ويفتح أمامهم طريق العز العالي والسعادة الكبرى.
ونقول في الـختام إنّ لهذا البحث تفاصيل لم يشملها هذا الـمقال يـمكن ذا الفكر والعلم استخراجها، وقد نعود إليها إذا احتجنا للعودة.