يعتقد البعض أنّ الإكثار من ذكر الـمفاسد الروحية التي انتابت شعبنا في الوطن والـمغترب، أمر ضار. ونحن نرى أنّ فتح الأعين على مبلغ انتشار الفساد النفسي الهائل ضرورة أولية. فالناس لا يتحولون عن الفساد إلا بعد رؤية فظاعته، ولا يطلبون الصلاح إلا بعد إدراك ضرر الفساد. ثم أنّ هنالك أموراً واقعة لا بد من التعليق عليها لإعطائها الـمحل اللائق بها في ذهن الـمجموع، ومعارك سياسية وفكرية يجب خوضها لإنقاذ العامة من براثن البلبلة والفوضى.
إطّلعنا في عدد جريدة أوجرنال الصادر في ريو دي جانيرو في الثامن عشر من نوفمبر/تشرين الثاني الـماضي على وصف حفلة تقديـم النزالة السورية في تلك الـمدينة طيارة لـمطارات التمرين البرازيلية أطلق عليها اسم «19 أبريل» الذي هو تاريخ مولد رئيس جمهورية تلك البلاد التي تضم مجموعاً سورياً كبيراً، وعلى الـخطب التي ألقاها السيد رزق الله حداد، أحد كبار تـجار السوريين في ريو دي جانيرو ووجهائهم، والسيد أزولدو أرنيا، وزير خارجية البرازيل، والقاضي الأرجنتيني رامون باسكس فوقفنا على حلقة أخرى من سلسلة مظاهرنا الاجتماعية - الروحية، اللاقومية، في الـمغترب التي فيها قليل مـما يفرح وكثير مـما يؤسف ويحزن. القليل الـمفرح هو التقارب الضعيف بين جماعاتنا الـمغتربة وشعوب الأقطار النازلة فيها، والكثير الـمؤسف هو الإكثار من تـحقير الشخصية والنفسية السوريتين في الـمظاهر الرسمية التي يحصل فيها احتكاك نفسي أو روحي بين السوريين والـجماعات التي أسست قومياتها في الأقطار الأميركية.
لسنا ندري إذا كان هنالك قرابة دموية بين السيد رزق الله حداد، نزيل ريو دي جانيرو، والسيد عبدالـمسيح حداد، نزيل نيويورك. ولكن القرابة الروحية بينهما أو العقلية، واضحة هي قرابة النفسية القديـمة، الـمشوشة، الـمضعضعة، التي ربي عليها أبناء العهد القديـم الآخذ في الزوال الذين لا يضير النهضة السورية القومية الاجتماعية أن لا يكون لها رجاء حتى ولا بواحد منهم، إذا لم يكن هنالك واحد صالح لوضع رجاء به. إنّ رجاء النهضة القومية الاجتماعية هو في الأمة، والأمة ليست فئة القيادة القديـمة ذات النفسية الانحلالية، ولا هي الـجيل الـحاضر كله وحده. الأمة هي الأجيال الـمتعاقبة بخصائص شخصية واضحة وميراث نفسي أصلي. فإذا كانت فئة القيادة القديـمة في الـجيل الـحاضر فاسدة كلها، فإظهار الفساد لا يقلل الأمل بنهضة الأمة، بل يزيده، لأنه يعني إدراك الـحالة كما هي تـماماً. وهذا الإدراك يسهّل الـمعالـجة ويفتح الطريق في الأوساط الشعبية لقبول تعاليم العهد الـجديد بلا تردد. وإذا كان في الـمغترب بقية من الـجيل السوري الـحاضر يرجى حلول الأمل فيها محل اليأس فأول علاج لإنقاذها يكون بإيقاف هذا التيار الانحلالي الـجارف الذي يجر الشعب في الوطن إلى التسليم للإرادات الأجنبية ولكل حالة واقعة، ويدفع الـمغتربين في الـمهاجر إلى انكسار قوميتهم وخيانة واجباتهم الروحية والـمادية نحوها، والاضمحلال السريع، بلا أثر خاص، في الأقوام النازلين في أوطانها. وكيف يـمكن إيقاف هذا التيار الـمهلك من غير تعيين مصادره وعوامله ووصف طبيعته وحالاته وشرح أضراره الكلية والـجزئية؟ وكيف يـمكن تـحويل الناس إلى اتـجاه جديد وهم لا يزالون يصغون إلى آراء فئة التفكير الـجامد العقيم؟
قلنا إنّ هنالك قرابة عقلية واضحة بين السيد رزق الله حداد، الـخطيب الذي تكلم في الـحفلة الـمذكورة آنفاً باسم الـمجموع السوري في ريو دي جانيرو، والسيد عبدالـمسيح حداد أحد القائلين بالوطنين، أو اللعب على الـحبلين، وشريك إيليا أبي ماضي في دعوة الـمغتربين إلى خيانة الواجبات الروحية والـمادية نحو الأمة التي عُدّوا من أفرادها وأخذوا نصيبهم من مزاياها، والوطن الذي ربوا فيه هم وآباؤهم وأجدادهم وفيه كنوز ثروة أمتهم النفسية. وتتلخص القرابة الـمشار إليها في اشتراك السيدين الـمذكورين في قاعدة حسبان السوريين دون مرتبة الـحيوانات وجعلهم في معرض النباتات!
في عدد السائح الصادر في 9 مارس/آذار 1942 قال السيد عبدالمسيح حداد:
«الشجرة التي تقلع من أرضها وتزرع في أرض غيرها لا تعرف إلا بالأرض التي تـحيا فيها. وقد مر على شجرة هذا الـمهجر وغيره عشرات السنين فثبتت أصولها في تربة الـمهجر ونـمت وأينعت وتفرعت. وعندنا أنه حان لها أن لا تعرف إلا بالأرض التي فيها ترعرعت وأخذت شأنها في الـحياة وأثمرت وبالأمة التي بها اندغمت فتنعمت باندغامها وتسامت وافتخرت!»
وفي الـخطـاب الذي ألقـاه السيـد رزق الله حداد في ريو دي جانيرو باسم السوريين النازلين في تلك الـمدينة قال:
«إنّ الـمئة وخمسين ألف سوري (أو شامي ولبناني كما في الـخطاب) الـموجودين في البرازيـل (لا نـدري كم في هذا العـدد من النقص أو الزيادة) هم بـمقام مئة وخمـسين ألف فسيلة إنسانية أعيد زرعها نهائياً موزعة في جميع أنحاء البرازيل... وهذه الفسائل الإنسانية قد مدت جذورها وأعطت ثمارها. إنها لم تعد تخص سورية (الشام) أو لبنان إذ هي الآن من البرازيل وللبرازيل.»
إذا كان الأمر كما قال السيد رزق الله حداد، وهو ليس كما قال، إنه لا يوجد سوريون، بل فسائل إنسانية مزروعة في البرازيل فلماذا كل هذا الـخداع للسوريين وللعالم بالقول؟ أما كان الأفضل أن يقول السيد حداد، إنّ الفسائل البرازيلية قد أهدت إلى الـحكومة البرازيلية طيارة للتمرين من ريع ثمارها!
ألا يشعر السيد رزق الله حداد بندى جبينه من الـحياء حين يتأمل موقفه ويدرك أنه لم يكن مـمثلاً للسوريين الذين أرادوا، بقلوب سورية، شريفة حية أن يظهروا للشعب البرازيلي أنهم في هذا الوقت الصعب، كما في أوقات الرخاء لا يتخلون عن صداقته ولا يتمنون إلا تقدمه وفلاحه، وأنه لم يكن مـمثلاً لـمجموع من الناس لهم نفسية وشخصية بل لأغراس ليس لها غير خصائص النبات فلا فكر ولا شعور ولا وعي ولا مقاصد ولا رغبات ولا عقائد ولا روابط نفسية قومية أو وطنية؟
نعتقد أنّ السيـد رزق الله حـداد يشـعر معنـا بالـخجـل من هـذا الدرك الذي أنزلنا إليه في خطابه من غير تعمّد. فما بلغنا عن السيد حداد في الـماضي دل على رجل يحب خير مواطنيه وعلوّهم. ولكنه ذهب ضحية العقلية العتيقة وطرق تفكيرها، وخدعه الأدب الزائف فجرّه إلى مهاوي فساد الرأي، ووثق بأدباء الذل والـمحاق فاقتبس تعابيرهم الشائنة التي يودّ الكريـم العزيز لو يصاب بالعمى والصمم قبل أن يقرأها ويسمعها ويرى نتائجها القبيحة.
كلا، أيها الـمواطنون، ليس السوريون جثيث نخل أو فسائله أو أغراس كرم أو تين، ولا ربرب بقر أو رعال خيل أو غير ذلك. لا تسوّدوا وجوهنا حيث يجب أن تبيض، ولا تعوّدوا شعبكم الذل لتشتموه في قلوبكم. إنـما السوريون شعب كريـم له شخصية وله نفسية وله قومية وله وطنية. والسوريون محافظون على هذه الصفات والـخصال، لا يبيعونها ولا يشترون غيرها. فإذا اغتربوا حملوا في نـفـوسهـم أخلاق أمتهم ومحبة وطنهم وحافظوا على أقداس جنسهم فحفظوا حقوق الـجار وكرامة الـمضيف وأمانة الصداقة والـمودة. وبهذه الأخلاق والـمناقب السورية يطوفون بالدنيا. وإذا كانوا في الأقطار الأميركية ضيوفاً، سياسياً فضيافتهم لا تـحرمهم قوميتهم وأخلاقهم ولا تكلفهم ما لا يطيقون من إنكار الـجنس والشخصية الاجتماعية التي يعرفون بها، ولا تطلب منهم إلا احترام قوانين البلدان الـمضيفة الداخلية. فلهم مثل ما لغيرهم من الأقوام الـحرة. وما يظهر منهم فوق ذلك يبذلونه بشعور صادر عن حقيقة مزايا أمتهم السورية وليس استعارة من شعور شعب آخر. ولهذا السبب يكون لكل عاطفة نبيلة يظهرونها نحو الشعوب المضيفة قيمة تُقدّر ويصح الاحتفال بها.
ليس تشبيه السوريين بالنبات، الذي هو أحط من الـحيوان في تطور الـحياة ومراتبها، الـخروج الوحيد للسيد رزق الله حداد عن الـموقف الصالح وعن تـمثيل الشعور الذي دفع السوريين في البرازيل إلى إظهار صداقتهم ومودتهم للبرازيليين بإهداء طيارات وغيرها في ظروف الـحرب. ففي خطابه الـمشار إليه أخطاء لا يـمكن تـجاوزها. وأول هذه الأخطاء ابتداؤه الكلام بلهجة سياسية حربية، إذا كان يصح التعبير بها عن شعور بعض السوريين الذين صاروا برازيليين، فلا يصح ذلك فيما يختص بالسوريين الـمقيمين في البرازيل الـمحافظين على قوميتهم ووطنيتهم. فهؤلاء يحبون البلاد التي أضافتهم ضيافة كريـمة ويحفظون لها الـمودة في السلم وفي الـحرب ويرغبون في فعل كل ما في مقدورهم لتلطيف أية مأساة تلم بالبلاد البرازيلية ولتشجيع كل ما يعود عليها بالرفاهية والـخير من غير تدخّل في سياستها وحروبها.
إنّ تقديم النزلاء السوريين في البرازيل طيارات وهدايا أخرى تعبّر عن شعورهم نحو بلاد ضيافتهم، ليس عملاً سياسياً ولا ذا صبغة سياسية. ليس عملهم هذا من أجل أنّ جتوليو ورقس، البرازيلي الكبير هو الـمرسل «ليصب الـخمسة وأربعين مليوناً من سكان البرازيل في قالب واحد.» ولا من أجل أنّ الدكتور أزولدو أرنيا، وزير خارجية البرازيل، «مجاهد لإقامة السلام واتـحاد الـجمهوريات الأميركية وتثبيت الـجامعة الأميركية.» كلا، ليست هذه هي الأسباب الـجوهرية التي تثير في السوريين النازلين في البرازيل تلك العاطفة النبيلة نحو بلاد ضيافتهم، وشعب البرازيل الذي أقاموا في وسطه يحفظ ذمامهم ويرعون كرامته. فلو كان على رأس جمهورية البرازيل غير الدكتور جتوليو ورقس وعلى إدارة شؤون البرازيل الـخارجية غير الدكتور أزولدو أرنيا لـما تغيّر مقدار ذرّة من شعور السوريين نحو البرازيل بجميع سياساتها وبكل أحزابها. أمّا تقدير عظمة عمل جتوليو ورقس لبلاده فله موقف غير هذا الـموقف وظرف غير ظرف إظهار عاطفة نزلاء البرازيل السوريين نحو البرازيل وخيرها وتقدمها، بصرف النظر عن نوع إدارتها وشكل حكومتها واتـجاه سياستها الـخارجية، التي هي شؤون برازيلية بحتة. وإذا كـان السـوريون في البرازيل يقدّرون وطنية جتوليو ورقس وخدمته بلاده تقديراً عالياً واحترام شخصيتها، فهذان موضوعان مستقلان، من ناحية الشعور، نحو البرازيل، عند السوريين الـمغتربين فيها.
لو كان السيد رزق الله حداد اكتفى بالقول، من هذه الناحية - إنّ السوريين النازلين في البرازيل يريدون، عملاً بأخلاق شعبهم ومناقبه أن يظهروا للشعب البرازيلي أنهم، في هذه الظروف القاسية، كما في جميع الظروف الأخرى، لم يتغير شيء من صداقتهم ومحبتهم للبرازيل أو من استعدادهم للاشتراك مع البرازيليين في أفراحهم وأحزانهم، لكان وفّى الـموقف حقه وحافظ على شعور السوريين والبرازيليين معاً. والبرازيليون لا يطلبون من الأقوام الأجنبية الـحرة غير هذا الـموقف. فهم بصفتهم شعباً حراً يعرفون كم هي عزيزة الوطنية عند الأحرار، وأنّ الشعور القومي شيء مقدس ورباط نفسي لا يـمكن قطعـه بالانتقـال من بـلاد إلى بـلاد. وهم يفهمـون أنّ شعـور السـوريين النازلين في بلادهم نحوهم، في نفس الوقت الذي تتجه أبصارهم إلى أمتهم ويأخذهم الـجزع على وطنهم سورية ومصير أمتهم السورية، هو شعور نبيل - أنبل كثيراً من شعور جماعة أنكرت أمتها وجنسها ووطنها وقوّضت دعائم نفسيتها لتهتم بظرفها الـحاضر، أو جماعة جرّدت نفسها من جميع الـمزايا النفسية الإنسانية والـحيوانية ونزلت بها إلى درك النبات الذي لا يعي ولا يدرك.
لا نظن أنّ البرازيليين الواعين يحترمون السوريين الـمنكرين قوميتهم ووطنهم «أكثر من احترامهم الإنكليز أو الفرنسيين الـمحافظين على قوميتهم ووطنهم»، ولا نعتقـد أنّ مركز السوريين على أساس خطاب السيد رزق الله حداد، أعلى عند البرازيليين من مركز اليهود الذين أوجدوا قضيتهم في العالم وعملوا لها وأحدثوا صداقاتهم مع الأمـم على أساسها. ولكن فاقدي الثقة بأنفسهم وبأمتهم يظنون ذلك ويعتقدونه ويرون منزلتهم تعلو حين تهبط وترتقي حين تنحدر، فكأنهم لا يرون الارتفاع إلا إلى أسفل ويريدون أن يوجدوا هذا النظر في شعبهم كله.
ليس صحيحاً قول السيد رزق الله حداد، إنّ السوريين في البرازيل هم من البرازيل وللبرازيل. إنهم من سورية كلهم وهم لسورية إلا من ترك قوميته واختار الـجنسية البرازيلية. ولكنهم جميعهم يحبون البرازيل ويريدون خيرها ويرغبون في علائها يشاركون البرازيليين الشعور في حالات حزنهم وفرحهم. وليس صحيحاً ولا لائقاً بالنفسية السورية الكريمة قوله، إنّ السوريين يعملون بـمذهب فاسد ينسبه الـخطيب إلى سليمان اليهودي يقول «حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك» وإنّ قلوبهم مع البرازيل لأن ثرواتهم فيها. وليس صحيحاً هذا التهور في التأويل الشعري لقول شاعر - «فإنـما أولادنا أكبادنا تـمشي على الأرض.» وإنه بـما أنّ أولاد السوريين في البرازيل هم قلوبهم فالسوريون هناك قد صاروا برازيليين بقلوب برازيلية، بحكم هذا الاستنتاج الفاسد وليس صحيحاً أنّ «أولادنا وثرواتنا وأعمالنا وجميع ما حققناه في تعاقب 65 سنة تقريباً من الهجرة والعمل الـمستمر هي روابط تشدنا إلى هذه البلاد الـمضيافة مبعدة إيانا إلى الأبد عن وطن آبائنا.»
لو كان صحيحاً شيء من ذلك لـما كانت الـحفلة الـمذكورة آنفاً حفلة مشاركة مجموع مجموعاً آخر في الشعور، بل كانت حفلة خاصة بـمجموع نحو نفسه وفاقدة معنى الـمشاركة الذي تـمتاز به.
لا ندري إذا كان السيد رزق الله حداد تـجنس بالـجنسية البرازيلية. إنّ قوله «وطن آبائنا» يدل على أنه لا يعدّ نفسه سورياً (أو لبنانياً إذا كان انفصالي الـمذهب). ولكننـا نسألـه هل جميع الـمجموع السوري في ريو دي جانيرو قد «طلق» قوميته وجنسيته وتـجنس بالبرازيلية؟ وإننا نؤكد أنّ الـحقيقة ليست كذلك. فلماذا يطوي الـخطيب كشحاً على شخصية الذين يتكلم باسمهم، ويرمي بشعورهم القومي في البحر، ويحرم قوميتهم فخر عملهم وفوائد هذه الرابطة الشعورية بين السوريين والبرازيليين التي نتمنى أن تقوى وتصير روابط صداقة متينة في الـمستقبل بين الشعبين السوري والبرازيلي.
يقول الـخطيب إنّ السوريين النازلين في البرازيل سيصبّون، عاجلاً أو آجلاً في قالب قومية «الوطن الثاني». ولكن قبل أن يتم ذلك، لا يجوز لـخطيب رسمي أن يهمل الـحقيقة والواقع إلى هذا الـحد ويلغي، باستبداد رأيه، شخصية جماعة فوضت إليه تـمثيلها في عمل دفعها إليه شعور أصيل لا شعور مستعار.
إنّ البرازيل تصنع طيارات كثيرة وتشتري طيارات كثيرة ولا أهمية لزيادة وحدات طيرانها بطيارة تـمرين، لو لم تكن هذه الطيارة تعبيراً حسياً عن شعور جماعة غير برازيلية تـجعل البرازيليين يثقون بأن لهم أصدقاء بين غير البرازيليين، وبأن السوريين الذين قدّموا طيارة «19 أبريل» وغيرها هم أصدقاء للبرازيل، لا أعداء لها، مع محافظتهم على قداسة روابطهم القومية بشعبهم ووطنهم، كما يليق بالأقوام الـحرة الواعية التي تـجلّ عن أن تكون فسائل وأغراساً نباتية، أو أن تكون قطعان ماشية أو قطيع حيوانات لا تعقل ولا تعي الـمعاني النفسية كالقومية والوطنية والشخصية والوفاء للأهل وحفظ الـمناقب والـمثل العليا والروابط النفسية التي بها قيام الأمـم وبروز شخصياتها وتقدير فضائلها الأصلية.
أجل، إنّ السوريين يجلّون عن ذلك كثيراً، وهم الذين علّموا الشعوب الأخرى فضيلة حب الوطن كما يشهد لهم بذلك أفلاطون في كتابه الـجمهورية ومجموعهم في البرازيل يتقدم إلى الشعب البرازيلي بقلوب سورية تنبض بإخلاص سوري أصيل في نفسيته، وليس بقلوب استعارها في البرازيل، ليبثه صداقة سورية وليس ليقدم له شعور البرازيليين نحو أنفسهم.
إنّ الـمذهب الذي نسبه السيد حداد إلى سليمان اليهودي ليس له. والقول الذي استند إليه ليس لسليمان، بل للمسيح في «خطبة الـجبل». وقول الـمسيح يعني عكس ما يريده الـحداد. فالـمسيح أراد أن يقول إنّ الكنوز الـمادية باطلة. وإنّ الكنوز الروحية هي الكنوز الباقية. فالثروات الـمادية التي جمعها السوريون في البرازيل لا توازي مقدار حبة خردل من الكنوز الروحية الـمحفوظة في نفسية شعبهم. ومن هذه الكنوز كنز عدم التخلي عن القريب أو الصديق في زمن شدته. والسوريون لا يتخلون عن نسبتهم القومية وعن أمتهم في محنتها. فلا يوجد سوري واحد واع يريد أن يترك هذه الفضائل للعمل بالترجمة الـمادية الفاسدة التي أعطاها السيد حداد لقول الـمسيح. «أكنزوا لكم كنوزاً في السماء حيث لا يفسد سوس ولا أكلة ولا ينقب السارقون ولا يسرقون. لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك»(متى 6: 20 - 21) الذي نسبه لسليمان اليهودي. نعم، لا يوجد سوري واع واحد يريد أن يجرّد أمته من كنوزها الروحية أو يبدل بهذه الكنوز كنوزاً مادية معرضة لإفساد السوس ونقب السارقين ولا واحد منهم يقبل أن ينكر أمته أو يتخلى عنها لسبب واحد هو أنها منكوبة ومظلومة أو لأنه بعيد عن وطنه في ديار الغربة.
أمّا سفسطة عبدالـمسيح حداد السخيفة القائلة - «الشجرة التي تقلع من أرضها وتزرع في أرض غيرها لا تعرف إلا بالأرض التي تـحيا فيها» فمن أسخف الأقوال الـمحقرة الـمدارك الإنسانية. هو مخالف للواقع، ليس فقط في عالـمي الإنسان والـحيوان، بل في عالم النبات أيضاً. إنّ الـمحاصيل الزراعية هي للبلاد وتعرف بها، أما أجناس الـمزروعات فتبقى لها في كل أرض تزرع فيها. وهكذا نتكلم عن القمح الأسترالي والفرنسي ولو زرعناه في سورية. إنّ محصول ذلك القمح يكون سورياً أما جنسه فيبقى له. وهكذا أنواع الأرز والصنوبر والأعشاب الـمختلفة التي يصنفها أهل علم النبات بأجناسها ومناطقها. ويقوى الـجنس في الـحيوان فيميز علماء الـحيوان بين الكلب السوري، الذي هو جنس خاص من الكلاب، والكلب الدنـمركي مثلاً. وبين الدب السوري، الذي تـجده في معرض الـحيوانات، والدب الروسي أو غيره ولو ربيته في أميركة أو في الصين. ولـماذا يحافظ الأميركان خارج أميركة على قوميتهم ويفتخرون بها؟ إذا كان الأمر كما يقول السيد حداد فلماذا أشارت القنصليات الأميركانية على الأميركان الـمقيمين في اليابان وألـمانية وإيطالية بوجوب ترك تلك الأقطار، ولـماذا تركها الأميركان ولم يقولوا قد أنشأنا هنا متاجر وأعمالاً وما نحن إلا فسائل نخل قلعت وزرعت في أرض جديدة يجب أن تعرف بها؟
إنّ أحفاد السوريين في البرازيل، في الـجيل الثالث والرابع، يصيرون برازيليين وتكون الأسباب والعوامل الوضعية التي لا يد لهم فيها هي التي صيرتهم كذلك، مع تـحدرهم من أصل سوري. أما أن ينبذ السوريون الأصليون قوميتهم ووطنيتهم اللتين ينتسبون إليهما ويحملون هويتهما فلا تعود أسبابه إلا إلى فساد الأخلاق وانحطاط الـمناقب. وهذا منتهى العار والـجمود وارتكاب الـمنكر. وأما الذين اختاروا ترك قوميتهـم وجنسيتهم الأصلية وأجروا معاملات قانونية للدخول في القوميات التي سكنوا في كنفها، فهؤلاء لا يحق لهم التكلم باسم قوميتهم السابقة التي تركوها قانونياً وأعلنوا انتسابهم إلى قومية غيرها، روحياً وشرعياً. وإذا جاءهم تكليف ورضوا القيام به فيجب أن يعلنوا أنهم أبناء قومية جديدة غير القومية التي كانت لهم بالولادة والنشأة، فلا يحمّلون مجموع القومية التي كانوا ينتسبون إليها مسؤولية أغلاطهم الروحية في التعبير عن موقفه وشعوره الناتـجة عن مفارقتهم لروحية ذلك الـمجموع.