(كان الـمرحوم ميشال زكور، الذي توفي وهو وزير الداخلية في حكومة لبنان بعد إعادة الدستور على أثر ظهور الحزب السوري القومي، أحد الذين أعجبوا الإعجاب كله بحركة الحزب السوري القومي ونظامه وأخذتهم روعته، حتى أنه، قبل أن يصل إلى الوزارة، فتح صفحات مجلته المعرض للكتّاب القوميين وأصدر عدداً خاصاً منها في شهر فبراير/شباط - مارس/آذار 1936 وقفه على أقلام القوميين وأخبار حركة الحزب. ولكنه كان متمسكاً بفكرة الانفصال اللبناني كأفضل حل لمسألة المسيحيين في سورية فلم يقدّر قيمة العقيدة السورية القومية حق قدرها. وكانت مبادىء هذه العقيدة لا تزال غير مشروحة الشرح العلمي البديع الذي وضعه لها الزعيم. فلما سجن الزعيم المرة الثانية وتولى التحقيق معه القضاء اللبناني طلب الأستاذ زكور من النيابـة العامـة السماح له بمقابلـة الزعيـم فأجابت طلبه وقبل الزعيـم بمقابلته. فجرت المقابـلة في غرفـة المدعي العـام المركزي حينئذٍ الأستـاذ وجيـه الخوري وكان مع الأستاذ زكور شخص آخر. فعرض على الزعيم تعديل عقيدة الحزب وجعلها لبنانية فتجري مساعٍ لرفع الضغط عنه وعن الحزب وللاعتراف بالحزب رسمياً كحزب لبناني. وأبدى المرحوم زكور رأيه أنّ عقيدة الحزب ليست الشيء الأهم فيه وأنّ أهم ما جاء به الحزب هو فكرة النظام. فردّ الزعيم على رأي الأستاذ زكور وأوضح له فساد فكرة الدولة اللبنانية وصحة العقيدة السوريـة القوميـة. ورفض الزعيم التزحزح عن العقيدة قيد شعرة مهما يكن من أمر ضغط السلطة الانتدابيـة وربيبتها الحكومة اللبنانية.
ولما خرج الزعيم من السجن بعد خمسة أشهر، وكانت محادثة الأستـاذ زكور لا تزال باقية في ذهنه، كتب هذا المقال في النظام ونشره في جريدة الجمهور في عددهـا الممتاز المختص بعيد الميلاد ورأس سنة 1937. وقد رأينا نقله إلى هذا العدد تعميماً لفائدته وهو كما يأتي:)([1])
علمت، والحزب السوري القومي في محنته الثانية، أنّ أحد أراخنة السياسة في لبنان خطّأني في تعيين قومية الحزب وفي مرمى الحزب الأخير الذي جمع الأمة السورية في دولة واحدة. وقال إنه لولا فكرة الحزب القومية والسياسية لكان ينجح في لبنان نجاحاً كبيراً، لأنه الحزب الذي أوجد التنظيم. والتنظيم في عرف صاحبي الأرخون، هو كل الإبداع الذي جاء به الحزب السوري القومي.
وكنت قد أجلت نظري في الـحركات السياسية التي أتتها الفئات العاملة في السياسة في الوطن فوجدت أنها هي أيضاً لم تدرك من حيوية الحزب السوري القومي ونهضته القومية سوى فكرة التنظيم - التنظيم الظاهري في الصفوف والقمصان والرتب. وعلى فكرة «التنظيم» الذي هو بدعة الحزب السوري القومي في الشرق الأدنى، نشأت حديثاً كل الأحزاب والمنظمات اللبنانية، فالنظام هدفها والنظام قوّتها. وبواسطة فكرة التنظيم عملت الفئات السياسية غير المنظمة، في كل سورية، على إنقاذ موقفها وسد عجزها.
الحقيقة أنّ النظام هو ركن أساسي في عمل الحزب السوري القومي وحياته، ومورد من موارد قوّته الكبرى. هو أحد رموز زوبعة الحزب السوري القومي الحمراء الأربعة: الحرية، الواجب، النظام، القوة. ولكنه ليس هدف الحزب، بل وسيلة من أقوى وسائله. ولو كان النظام هو ما يرمي إليه الحزب السوري القومي لما كان السوريون القوميون يعلّقون كل هذه الآمال الكبار على نهضتهم ومستقبل حزبهم.
إنّ النظام بلا قضية يخدمها لا يفيد شيئاً ذا قيمة في الحياة عموماً وفي الحياة القومية خصوصاً. والذين يظنون أنّ النهضة هي عبارة عن صفوف مجموعة في ساحة من الساحات مبتهجة بألوان قمصانها وشارات رتبها يخطئون كثيراً في فهم حياة الأمة وحاجة المجتمع، ويضلّون الطريق إلى الحياة القومية الصحيحة. ولذلك لا نرى في كل الصفوف التي تجمع هنا وهناك، كما يجمع قطيع من الغنم، وتلون بقمصان معينة ما يصح أن يسمى نهضة تكون خطراً على الحزب السوري القومي.
إنّ الـحزب السوري القومي قد أوجد النظام والتنظيم، ولكن شأن الـحزب السوري القومي ليس محصوراً في هذه الناحية، كما يظن الذين يتناولون قضايا الأمة بنفس الخفة التي يتناولون بها موضوع جدل سفسطائي. إنّ إبداع الحزب السوري القومي لم يكن في إنشاء النظام أعظم منه في تأسيس الفكرة القومية وإيضاح شخصية الأمة ومصالحها ووضع المبادىء التي تخدم مصلحة الأمة وترقي حياتها. ومما لا شك عندي فيه أنّ عظمة الحزب السوري القومي التي لا عظمة بعدها هي في إيجاد الوجدان القومي وإظهار شخصية أمة عظيمة كانت مهملة وإيجاد أسس نهضة تحقق وصول الأمة إلى مرتبة الحياة المثلى اللائقة.
لم يتغلب الحزب السوري القومي على جميع الاضطهادات التي وُجِّهت إليه بمجرّد النظام، بل إنّ تغلُّب الحزب على الصعوبات التي وضعت في طريقه يعود إلى سر المحافظة على النظام والتقيّد به. وهذا السرّ ليس في النظام نفسه بل في العقيدة التي وراءه وفي الهدف الذي أمامه. فقد تفكك نظام الحزب في بعض الأوقات ثم لم يلبث أن عاد الاتصال إلى النظام.
ليست فكرة التنظيم هي التي تقود الحزب السوري القومي، بل فكرة الحزب هي التي بعثت النظام وهي التي تقود النظام وتفعل التنظيم. إنّ انتصار الحزب السوري القومي وتقدمه، على الرغم من الحملة الشديدة التي وجّهتها إليه الرجعة، ليس عائداً إلى نظامه بقدر ما هو عائد إلى غايته. وليس يدل على مجرّد تفوّق النظام بل على تفوّق الوجدان القومي والعقيدة القومية. إنّ في ثبات الحزب السوري القومي لدليلاً على حاجة الأمة إلى عقيدته ومبادئه التي توحد مصالح الأمة وتوجد الوجدان القومي وترفع الأمة إلى مستوى ثقافي عالٍ.
وبعد فإن فكرة الحزب السوري القومي في النظام وما وُجد له وفي التنظيم والغرض منه تختلف معنىً عن فكرة الأراخنة الذين ليسوا من النهضة الحديثة وعن فكرة مقلّدي النهضة في مظاهرها، فالنظام (Discipline) أُوجد ليعطي الحزب وحدة عملية قوية وسريعة. والتنظيم (Organisation) فقد أُوجد ليعطي التوافق والتعاون وليوثق المصالح القومية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
إنّ النظام يوجد طريقة العمل الموحَّد المثلى لبلوغ الهدف. أما التنظيم فيشمل المصالح الداخلية على إطلاقها ويوحدها في مصلحة الأمة التي هي أساس كل نظام وتنظيم. وخدمة مصلحة الأمة هي التي تجعل للنظام والتنظيم قيمة. وفهم مصلحة الأمة وخدمتها هما القوة العظيمة القائمة وراء نظام الحزب السوري القومي وتنظيمه.
إنّ النظام هامّ بقدر ما هو ضروري لحاجة الحياة. وبقدر ما يكون النظام مضاداً لحاجة الحياة ومصالح المجتمع يكون غاية حقيرة ومحاولة سقيمة.
إنّ سرّ النجاح ليس في النظام بل في القوة التي تحرك النظام.
أنطون سعاده