في الاجتماع الـماضي أنهيت الكلام في القسم الأساسي من الـمبادىء القومية الاجتماعية.
كان الكلام على الـمبدأين الأخيرين الـمبدأ السابع والـمبدأ الثامن.
الـمبدأ السابع القائل: «تستمد النهضة السورية القومية الاجتماعية روحها من مواهب الأمة السورية وتاريخها الثقافي السياسي القومي».
والـمبدأ الثامن القائل: «مصلحة سورية فوق كل مصلحة».
في الكلام على هذين الـمبدأين، خصوصاً على الـمبدأ السابع تناولت نواحي نفسيـة وسياسيـة.ومن النقـاط الأخيـرة الهامّة التي تناولتها كانت نقطة الفرديـة والنظرة الـمجموعية، أو الـجماعية،وهذه الأخيرة هي وجهة نظرنا نحن.وضربت مثلاً على الأسباب التي تـحمل مجتمعات معيّنة على الأخذ بوجهة نظر أخرى،مـما يحمل البعض من غير الدارسين والـمنقبين،على الظن،أننا نحن هم الـمتأخرون في طريقة التفكير عما وصلت إليه بعض الـمجتمعات الراقية وبيّنت أنّ الـمسألة بالعكس تقريباً.
ضربت مثلاً أميركانية أو الولايات الـمتحدة الأميركية من حيث النظرة الفردية إلى الـحياة فيما يختص بعلاقة الفرد بالـمجتمع،وأبنت أنّ الأسباب التي تـحمل مجتمعاً كمجتمع أميركانية على الأخذ بوجهة نظر من هذا النوع هي أسباب ضخامة وكبر أرض الولايات الـمتحدة الأميركية،الغنية بـمواردها الطبيعية من معادن وحبوب وماشية إلى آخره. ومن جهة أخرى بُعد تلك الأرض عن أراض متاخمة تقطنها شعوب عدوة للشعب الأميركاني. فكبر البلاد وغناها وبُعدها عن أن تكون محاطة بأعداء تـحتاج إلى تضامن وثيق للدفاع عن نفسها،جعل طابع الـحياة في الولايات الـمتحدة الأميركية طابع التراخي الـمجموعي الذي يظهر في هذه النظرة الفردية أو الإفرادية إلى الـحياة.
ولم يكن وقت للإطالة في الـموضوع، لذلك لم أتناول مجاميع أخرى كمثل للتفاوت أو الفرق بين النظرة الـمجموعية والنظرة الفردية إلى الـحياة.
قد يخطـر للبعض أنّ فرنسة مثـلاً، تقرّب آخر من أمثلة النظرة الفردية إلى الـحياة، وهذا صحيح. ومثل فرنسة يأتي مثلاً آخر لتأييد وجهة نظرنا في الـموضوع. إنّ فرنسة قد خسرت حربيـن متتاليتيـن. وأنا أقول إنّ تدهور فرنسة، من النظرة الفردية إلى الـحياة، والنظرة الفردية إلى الـحياة هي الـمسؤول الأول والأوحد عن انكسارها التام وانسحاقها في حربيـن عظيمتيـن.
إنّ التراخي الفردي وفقدان الوجدان الـمجموعي الـمتيـن والاتـجاه الـموحد في الـحياة الذي يجمع وحدة الأمة في إرادة واحدة واتـجاه واحد هو الـمسؤول عن عدم تـمكن فرنسة من الثبات والنهوض إلى حياة جديدة بعد الانكسار في حربيـن متتاليتيـن.
ولو ذهبنا ندرس مظاهر التطور النفسي في فرنسة في أواسط الـحرب العظمى الأخيرة لوجدنا حالة انحلال غريب في الأمة الفرنسية، ثم لوجدنا كيف تـحاول أن تكتشف مبدأ أو نظرة جديدة تنقذها من حالة التضعضع التي وصلت إليها بعامل النظرة الفردية التي تسلطت مدة طويلة من الزمن.
بعد الهدنة مع ألـمانية وقيام حكومة فيشي، بدأ الفرنسيون يبحثون عن مبادىء أو نظرات في الـحياة جديدة يـمكن أن ترفع الـمجموع الفرنسي إلى مرتبة أمة ناهضة مستعيدة لـحيويتها، ولكن ذلك كان عبثاً.
أنشئت عدة أحزاب أو كتل، أظهرها كان كتلة، أو فئة، سمّت نفسها اسماً تقليدياً للاسم الذي عُرف به الـحزب السوري القومي الاجتماعي عند الفرنسيين. إنّ الترجمة التي اعتمدها الفرنسيون للحزب السوري القومي الاجتماعي كانت ترجمة .P.P.S أي الـحزب الشعبي السوري، وعلى غرار هذه التسمية نشات في فرنسة الفئة التي تسمي نفسها .M.P.F التي ترأسها (ديغول) أي الـحركة الشعبية الفرنسية، ونشأت فئات أخرى تـحاول التسوية بين بعض الـمظاهر التي ظهرت فيها الـحركة الألـمانية والـحركة الروسية الشيوعية، ولكن دون أي جدوى.
وفي كل تلك الـمحاولات ظهرت اتـجاهات نحو مثل الـمثال الذي أعلنه الـجنرال (بتان)، كان يقول: «الوطن والعائلة والعمل» ولكن هذه الكلمات ـ لأنها لم تكن صادرة عن يقين ونظرة صميمة أصلية إلى الـحياة ـ ظهرت جوفاء ولم يـمكنها أن تكتل الشعب الفرنسي أو تـحده، وظل الشعب الفرنسي تائهاً حتى اليوم. ولسنا ندري متى يكتشف الطريق ويهتدي إلى مبدأ فاعل ينهض الشعب الفرنسي من الوهدة التي وصل إليها.
ننتقل اليوم إلى القسم الإصلاحي من الـمبادىء القومية الاجتماعية وهو يشتمل على خمسة مبادىء.
الـمبدأ الأول من القسم الإصلاحي يقول: «فصل الدين عن الدولة» نتابع
الشرح الـمكتوب:
«إنّ أعظم عقبة في سبيل تـحقيق وحدتنا القومية وفلاحنا القومي هي تعلق الـمؤسسات الدينية بالسلطة الزمنية، وتشبث الـمراجع الدينية بوجوب كونها مراجع السيادة في الدولة وقبضها على زمام سلطاتها أو بعض سلطاتها، على الأقل، والـحقيقة أنّ معارك التحرر البشري الكبرى كانت تلك التي قامت بين مصالح الأمـم ومصالح الـمؤسسات الدينية الـمتشبثة بـمبدأ الـحق الإلهي والشرع الإلهي في حكم الشعوب والقضاء فيها. وهو مبدأ خطر استعبد الشعوب للمؤسسات الدينية استعباداً أرهقها. ولم تنفرد الـمؤسسات الدينية باستعمال مبدأ الـحق الإلهي والإرادة الإلهية، بل استعملته الـملكية الـمقدسة أيضاً، التي ادّعت استمداد سلطانها من إرادة الله وتأييد الـمؤسسات الدينية، لا من الشعب.
«في الدولة التي لا فصل بينها وبين الدين، نـجد أنّ الـحكم هو بالنيابة عن الله لا عن الشعب. وحيث خف نفوذ الدين في الدولة عن هذا الغلو نـجد السلطات الدينية تـحاول دائماً أن تظل سلطات مدنية ضمن الدولة».
الـمؤسسة الدينية تعتبر نفسها حاملة رسالة كاملة كلية تـحيط بكل متطلبات ومقتضيات الـحياة الإنسانية وتنظر في كل احتياجات الإنسان الروحية والـمادية. من هذا القبيل تنظر هذه الـمؤسسات نفسها كمرجع للجماعات البشرية وأحوال هذه الـجماعات. وبـما أنها تـحمل رسالة الدين، وحي الله وشرعه للناس، تـجد أنها الوسيلة الـمثلى لتوجيه الـحياة الإنسانية بأجمعها ومن هنا تنزع إلى أن تكون السلطة العليا الـمطلقة في كل ما يختص بالروحيات والعمليات أيضاً.
هذه النزعة في الـمؤسسات الدينية ظهرت في جميع الأديان على السواء في أطـوار الإنـسان الأولى، قبل أن يتخذ الدين شكله العصري الـمعروف في الوقت الـحاضر.
وحين كان الدين في أوائل عهده شيئاً مـمزوجاً بالـخرافات والسحر والأوهام نـجد الساحر أو العرّاف أو الـمشعوذ بطرق سحرية، عاملاً فعّالاً في إحداث التشريع للجماعات التي يعيش فيها الساحر أو العراف.
فكثيراً ما كان الساحر يأتي برسالة من سماء الأرواح تفيد أنّ الـحياة يجب أن تتخذ شكل كذا أو كذا، وإلا غضبت الأرواح واقتصت في قبورها من الناس الذين لا يذعنون لهذا الشرع.
ثم بعد أن نشـأت الأديان الإلهية الكبرى واشتملت على شرع وتوجيه للناس، قَوِيَ هذا الـمحل للسلطة الروحية في تكييف حياة الإنسان السياسية والاقتصادية وفي جميع شؤونه. ولكن كان التطور البشري يصطدم بالسلطة الروحية الـمعرقلة للشؤون العملية، لأن حياة الناس كانت تتطور وتستمر في التطور. وكل تطور كان يجلب حالات جديدة تقتضي فهماً جديداً وتقتضي تشريعاً جديداً.
الـمصالح، فيما كانت تـحسه من الـمؤسسات الدينية، صارت أيضاً ضغطاً على مصالح أخرى، على مصالح تصل إلى الـمصالح القومية العامة الكلية. ونـجد ذلك في النزاع بين الشعوب. وسلطة البابا مثلاً في الـمسيحية، وسلطة الـخليفة في الـمحمدية. ثم بدأ النزاع بين الشعب والـملك الذي ادعى بأنه بالتكريس أو الـمسح أو برضى الآلهة أصبح نائباً عن الله في تصريف أحكام الله في حياة الشعب. وهذا ما يعبرون عنه بالـملكية الـمقدسة التي يكون الـملك فيها مقدساً لأنه مسيح الله أو لأنه عيّن من قبل السلطة الدينية أو حاز رضاها أو بركتها.
الـملك الذي يرى أنه يستمد سلطانه من الله لا من الشعب ولا من إرادة الشعب وحياة الشعب، ينظر إلى الشعب وحياته نظرة تختلف عن النظرة لو رأى أنّ سلطانه عائد إلى الشعب.
إنّ زعمه، أنّ سلطانه مستمد من الله، يجعله مطلق التصرف تـجاه الشعب، إنّ هذا الزعم، يجعله غير آخذ بعين الاعتبار ما يحتاج إليه الشعب، وهو يكتفي أن يقول إنه يعمل ما يرضاه الله مهما ارتكب تـجاه الشعب من ظلم ومن طغيان.
وفي النزاع بين الإرادة الـمجموعية، الإرادة القومية العامة، وبين السلطة الـمستمدة من الدين أو من الله، ابتدأت الإرادة الشعبية، الإرادة القومية تربح وتزيد نفوذها على سلطة الـمؤسسة الدينية ومبادىء الـحكم بـمبادىء الله لا الشعب.
والانتصار الفاصل في النزاع هو الذي حدث في الثورة الفرنسية. ومن هذه الثورة ومن الثورة الأميركانيـة التي سبقتها نشـأت فكرة الديـمقراطية العصرية التي تعني في الأخير تـمثيل الإرادة العامة في الـحكم،جعل الإرادة العامة للشعب أو للأمة، الإرادة النافذة، ومرجع الأحكام.
وقد انتصر هذا الـمبدأ انتصاراً نهائياً ولم تبقَ سوى جماعات قليلة ضعيفة الشأن لا تزال تعمل بالـمبادىء السابقة، مبادىء السلطة الدينية. وسبب ضعفها هو تـمسكها بهذا الـمبدأ الذي يعرقل حيوية الشعوب وحركة التقدم والارتقاء.
الدولة الدينية أو التيوقراطية منافية لكل حركة متمركزة.
لا يوجد في الدين أمة وقوميات. في الدين لا يوجد سوى رابطة الـمؤمنين بعضهم ببعض بصرف النظر عن الأجناس والبيئات وغيرها و«من هذه الوجهة الـمقدسة» أي إنّ الدين من هذه الوجهة صار شيئاً سياسياً إدارياً دنيوياً يقول تقريباً بإلغاء الأمة والقوميات، وباعتبار الـمؤمنين بالدين الواحد مجتمعاً واحداً يجب أن يعود أمره إلى الـمؤسسة للدين الواحد الـمتمركزة.
ولا يوجد أو لا تقبل الـمؤسسة الدينية أي اعتراض على مركزيتها حيثما وجد مركز السلطة الدينية. إلى ذلك الـمركز يجب أن يتجه مجموع الـمؤمنين. فإذا كان مركز الـمسيحية في رومة وجب أن يتجه الـمسيحيون إلى رومة لتفرض سلطانها كما تشاء.
وإذا كان مركز السلطة الدينية الـمحمدية في تركية مثلاً وجب أن تتجه جميع الشعوب الـمحمدية إلى تركية لتأخذ توجيهاتها منها.
وإذا درسنا تركية في زمن الـخلافة، وجدنا إلى أي حد كان مجد الـمؤسسة الدينية يعمل لـمصلحة تركية قبل كل شيء. وكيف كانت تركية تفيد من كونها الـمركز الديني للمؤسسة الـمحمدية. وكذلك رومة استفادت جداً من كونها مركز السلطة الدينية للمؤسسة الـمسيحية. فجميع الشعوب في أوروبة أصبحت تـحت رحمة البابا. وكانت مصالح الـمركز، مصالح رومة، هي التي تقرر مصير السياسة في جميع الأنحاء. وفي هذا الاتـجاه كانت نزعتها.
وظلت هذه نزعة رومة إلى أن احتاجت الشعوب التي صارت تتململ من وطأة السلطة الروحية إلى الأخذ بنظرات جديدة من التي تساعدها على التحرر من رومة.
ولذلك نرى عاملاً سياسياً هاماً في الدعوة البروتستانية في ألـمانية، وهذا العامل السياسي الهامّ هو التخلص من السلطة الرومانية. ويوجد عبارة لا يزال الألـمان يستعملونها إلى اليوم Los Von Rom تعني الانعتاق أو التحرر من رومة، وهي عبارة تعود إلى زمن الـحركة التحريرية.
«هذه هي الوجهة الدنيا من الدين. هي الوجهة التي كان الدين ولا يزال يصلح لها حين كان الإنسان لا يزال في طور بربريته أو قريباً منها. أما في عصرنا الثقافي فإنه لم يعد يصلح.
«هذه هي الوجهة التي يحاربها الـحزب السوري القومي الاجتماعي لا الأفكار الدينية الفلسفية أو اللاهوتية، الـمتعلقة بأسرار النفس والـخلود والـخالق وما وراء الـمادة.
«إنّ فكرة الـجامعة الدينية السياسية منافية للقومية عموماً، وللقومية السورية خصوصاً، فتمسُّك السورييـن الـمسحييـن بالـجامعة الدينية يجعل منهم مجموعاً ذا مصلحة متضاربة مع مصالح مجاميع دينية أخرى ضمن الوطن، ويعرّض مصالـحهم للذوبان في مصالح الأقوام التي تربطهم بها رابطة الدين (كالفرنسيين والطليان وغيرهم). وكذلك تشبّث السورييـن الـمحمدييـن بالـجامعة الدينية يعرّض مصالـحهم للتضارب مع مصالح أبناء وطنهم الذين هم من غير دينهم، وللتلاشي في مصالح الـجامعة الكبرى، الـمعرضة أساساً، لتقلبات غلبة العصبيات، كما تلاشت في العهد العباسي والعهد التركي. ليس من نتيجة للقول بالـجامعة الدينية سوى تفكك الوحدة القومية والانخذال في ميدان الـحياة القومية».
إذا عمل الـمسيحيون في اتـجاه ديني فقط وصاروا يبحثون عن الـجماعات التي تربطهم بها رابطة الدين فقط أي الـمسيحية (أي فرنسيس وطليان وإنكليز إلى آخره). إذا فعلوا ذلك لا يـمكن أن يصلوا إلى وحدة حياة ووحدة اتـجاه مع الفئات الدينية الأخرى التي يحيون معها في وطن واحد، والتي هي وهم وحدة حياة ووحدة إتنية واجتماعية في الأصل وفي الـحياة.
إنّ اتـجاههم في نظرة الرابطة الدينية وكونهم فئة قليلة يجعلهم تـحت رحمة الإيعازات التي تـأتي من الـمجامع الدينية الكبرى خارج بلادنا كفرنسة أو إنكلترة والطليان مثلاً.
وبهذا يفقدون كل اتـجاه قومي وكل رابطة قومية في الـحياة القومية، وتصبح مصالـحهم متضامنة مع مصالح الـجماعات الأخرى بصرف النظر عما إذا كانت تلك الـجماعات مقاومة لـمتحدهم وتقدمهم القومي أولاً.
هذه الـحالة عينها تنطبق على أتباع الـمؤسسة الـمحمدية، الذين، إذا نظروا إلى الرابطة الدينية رابطة أساسية في الـحياة بدلاً من الرابطة القومية، اضطروا أن يسيروا في الاتـجاه في تيارات وإرادات بعيدة عن الـحياة القومية، مخضعة الـحياة القومية لأغراضها التي تتمركز في مكان ما، ويخضع التوجيه للتمركز وللمكان الذي تتمركز فيه السلطة الدينية.
مثلاً حين كانت الـخلافة في تركية كانت سلطة أمير الـمؤمنين التركي وسيلة من وسائل الـمساومات السياسية لـمصالح تركية.وكان الـخليفة التركي يحتاج إلى إصدار الـمناشير مثلاً لـمنع الثورات في الهند لقاء مصالح معيّنة أو مساعدة تقدمها بريطانية لتركية.
كان الـخليفة يرسل مناشير إلى الهند تـمنع الثورات التحريرية ضد الإنكليز، لأن مصالح تركية ومصالح الـخلافة كانت النظرة الأساسية وليس مصالح الهند التي كانت تتقرر بـموجب السياسة الدينية.
كذلك سورية كانت أيضاً وسيلة من وسائل الـمصالح للنفوذ التركي بواسطة السلطة الدينية. ولذلك بقيت سورية مئات من السنين خاضعة للسلطان التركي الذي منع من كل رقي وكل تقدم، من غير أن تنشب ثورة واحدة في سورية ضد الأتراك. «القومية لا تتأسس على الدين».
لا يـمكن أن تتأسس دولة قومية بالـمعنى الصحيح على الدين «لذلك نرى أنّ أكبر جامعتين دينيتين في العالم، الـمسيحية والـمحمدية، لم تنجحا بصفة كونهما جامعتين مدنيتين سياسيتين، كما نـجحتا بصفة كونهما جامعتين روحيتين ثقافيتين. إنّ الـجامعة الدينية الروحية لا خطر منها ولا خوف عليها. أما الـجامعة الدينية، الـمدنية والسياسية، فتجلب خطراً كبيراً على الأمـم والقوميات ومصالح الشعوب، ولنا في العهد التركي الأخير (العثماني) أكبر دليل على ذلك.
«إنّ الوحدة القومية لا يـمكن أن تتمّ على أساس جعل الدولة القومية دولة دينية، لأن الـحقوق والـمصالح تظل حقوقاً ومصالح دينية، أي حقوق ومصالح الـجماعة الدينية الـمسيطرة، وحيث تكون الـمصالح والـحقوق مصالح وحقوق الـجماعة الدينية تنتفي الـحقوق والـمصالح القومية التي تعتبر أبناء الأمة الواحدة مشتركين في مصالح واحدة وحقوق واحدة. وبدون وحدة الـمصالح ووحدة الـحقوق لا يمكن أن تتولد وحدة الواجبات ووحدة الإرادة القومية».
وهنا ألفت النظر مرة ثانية إلى لفظة الـمصالح وما تعني. لا تعني هنا الـمنافع العملية أو الـمادية فقط، بل تعني كل الـمقاصد والأغراض النفسية أيضاً. مصالح النفس. مصالح الـحياة النفسية كما هي مصالح الـمنافع الـمادية.
«بهذه الفلسفة القومية الـحقوقية تـمكن الـحزب السوري القومي الاجتماعي من وضع أساس الوحدة القومية وإيجاد الوحدة القومية بالفعل».
إلى هنا انتهينا من نص شرح الـمبدأ الأول الإصلاحي وترون أنّ هذا النص اقتصر بالأكثر على الناحية السياسية من الـموضوع الديني.
تبقى الناحية النفسية الروحية، ناحية النظر إلى الـحياة.
في شرحي في الاجتماع الـماضي للنفسية السورية، وفي تـحليلي للنفسية السورية قلت إنّ السوريين ليسوا شرقيين. ليسوا شرقيين في نفسيتهم، في روحيتهم، في اتـجاهاتهم النفسية الروحية. وبتعبير آخر قلت إننا لسنا «نرفانيين» أي لسنا من شعوب النفسية الشرقية.
«النرفانا» هي لفظ هندي معناه التخلص من الـحياة، التخلص من متاعب الـحياة، التخلص من ألم الـحياة، إلى الـموت الهادىء الذي يعطي السلام. الركود والسلام الأخير، هو الـمطلب الأعلى «النرفاني» وهو الباعث على نظرة تشاؤمية جداً في الـحياة، تطلب من الإنسان أن يشيح بوجهه عن الـحياة ويتجه نحو الفناء.
من هذه الناحية، نحن لسنا شرقيين، لسنا نرفانيين. ولا نتجه في حياتنا نحو الفناء بل نتجه نحو البقاء.
نحن لا نقول إنّ الـحياة كلها ألم وتعب، وإنّ الغاية العظمى هي التهرب من الـحياة ومتاعبها ومصاعبها.
نحن نقول بأننا كُفءٌ، نقول بأننا أكفاء للاضطلاع بالـحياة ومتاعبها، وإنّ لنا الـمقدرة على حمل أتعابها بسرور، عاملين بتقدم نحو الفلاح، نحو التغلب، نحو الـمقدرة، لا نحو الفناء ونحو الـخضوع ونحو التلاشي.
هذا الـموضوع عرض في كتابي الصراع الفكري في الأدب السوري أريد أن أقرأ لكم بعض مقاطع منه لتروا الصورة الواضحة للموضوع (هنالك كلام ورد لـمفكر وسياسي مصري هو حسين هيكل باشا). أقول في تعليقي على هذا الكلام في الكتاب: «هي أول محاولة للانتقال من الغموض إلى الوضوح ومن التعميم إلى التخصيص، ومن السلبية إلى الايجابية ولكنها محاولة غامضة، متخبطة، مطلقة، مستبدة. ففيها ينظر هيكل إلى الفن من زاوية «الشرق والغرب» ويحدد الشرق بكلام لا تـحقيق فيه لتاريخ «الشرق» الذي يذكره ولا لفلسفة ذلك التاريخ ولا للمحمدية نفسها التي يطبعها، استبداداً، بهذا الطابع الـجزئي، وكان الأفضل أن لا يحاول تـجريدها من خصائصها العملية في مادية حياة البيئة التي نشأت فيها».
لأنه من الـمعلوم أنّ الذي يتداوله الكُتّاب والـمفكرون أنّ من الصفات الـممتازة في الدين الـمحمدي أنه عملي، والعملي ليس الذي يتجرّد من الـحياة ويطلب الفناء في وحدة الوجود.
«أما تـحديده الـمثال الأعلى للشرق كله، مدخلاً فيه العالم العربي كله، فهو من التحديدات الاستبدادية الضيقة، التي تكون أكثر قبولاً عند عامة الـمتعلميـن وعند قليلي التعمق من خاصتهم، نظراً لبساطتها وقلّة ما تطلبه من إنعام نظر وجهد في التفكير، ولكنها ليست ما يـمكن العقل الفلسفي الأساسي الاطمئنان إليه وقبوله مستقراً لتفكيره وشعوره. وكم يخالف هذا التفكير السطحي الـمتمركز في تـحديد التصور بالأمر الواقع رأي الدكتور خليل سعاده في روحية الشرق الدينية إذ قال: «الدين في الشرقي قطعة من حياته. فهو يحسب الـحياة وسيلة لتشريف الدين (تقوى الله والفناء الروحي في وحدة الوجود) لا الدين وسيلة لتشريف الـحياة والسمو بها من مرتبتها الـحيوانية إلى مرتبة روحانية تظهر الأخلاق وتهدم الفواصل غير الطبيعية القائمة بينه وبين أخيه في الوطنية والبشرية».
في نظرنا إلى الدين، من حيث ناحيته الروحية لا السياسية، نحن نقول: إنّ الدين للحياة ولتشريف الـحياة وليست الـحياة للدين ولتشريف الدين.
نحن كما قلت قوة فاعلة في هذا الكون. وإذا كان الله قد خلقنا وأعطانا مواهب فكرية، أعطانا عقلاً نعي به ونفكر ونقصد ونعمل، فهو لم يعطنا هذا عبثاً.
لم يوجد العقل الإنساني عبثاً.
لم يوجد ليتقيد وينشلّ. بل وجد ليعرف، ليدرك، ليتبصر، ليميّز، ليعيّن الأهداف وليفعل في الوجود. وفي نظرتنا أنه لا شيء مطلقاً يـمكن أن يعطل هذه القوة الأساسية وهذه الـموهبة للإنسان.
العقل في الإنسـان هو نفسه الشـرع الأعلى والشرع الأساسي. هو موهبة الإنسان العليا. هو التمييز في الـحياة فإذا وضعت قواعد تبطل التمييز والإدراك، تبطل العقل، فقد تلاشت ميزة الإنسان الأساسية وبطل أن يكون الإنسان إنساناً وانحط إلى درجة العجماوات الـمسيّرة بلا عقل ولا وعي.
سنّة الله أو سنّة الطبيعة هي التي لا يفعل فيها عقل مـميز مدرك، وهذه للجمادات والعجماوات.
أما الإنسان فالله قد أعطاه القوة الـمميزة الـمدركة لينظر في شؤونه ويكيّفها على ما يفيد مصالـحه ومقاصده الكبرى في الـحياة. فليس معقولاً إذن أن يعطل الله نفسه هذه القوة بشرع أبدي أزلي جامد. لذلك كان العقل الإنساني. كان الإنسان، كان الـمجتمع الإنساني حراً بإرادة الله، حراً بإرادة الـمصدر الذي نشأ عنه لكي يسير نحو ما هو الأفضل، ليقرر بذاته ما هو الأفضل في حياته. ليسير بقوة تـمييزه وإدراكه نحو ما هو الأفضل ليقرر من ذاته وبذاته ما هو الـمصير الأفضل في حياته.
والدين نفسه إذ يجعل قاعدة الـحساب يوم الـحشر أو يوم الدينونة، هو نفسه يقرّ هذا الـمبدأ، مبدأ أن يختار الإنسان بـملء حريته اتـجاهه، والـمصير الذي يريده لنفسه.
من هذه الوجهة نرى أنّ لنا نظرة خاصة ليس فقط في الدين من حيث هو سياسي، من حيث هو مؤسسات، وليس فقط في هذه الناحية،، بل في الدين أيضاً من حيث هو اتـجاه ديني ونظرة إلى الـحياة والقيم في الكون.
ولذلك قلت في هذا الكتاب، الصراع الفكري في الأدب السوري، رداً على ما كان يقوله الكاتب السوري ميخائيل نعيمة، الذي صوّر النفسيتين الشرقية والغربية بهذه الصورة:
«إنّ الشرق يستسلم لقوة أكبر منه فلا يحاربها، والغرب يعتقد بقوّته ويحارب بها كل قوة. الشرق يرى الـخليقة كاملة لأنها صنع الإله الكامل. والغرب يرى فيها كثيراً من النقص ويسعى لتحسينها. الشرق يقول مع محمد: «قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا»، ويصلّي مع عيسى: «لتكن مشيئتك». ومع بوذا يجرّد نفسه من كل شهواتها. ومع لاوتسو يترفع عن كل الأرضيات ليتحد بروحه مع «الطاو» أو الروح الكبرى (تـجنباً للألم طبعاً). أما الغرب فيقول: «لتكن مشيئتي». وإذ يخفق في مسعاه يعود إليه ثانية وثالثة ويبقى يعد نفسه بالفوز وعندما يدركه الـموت يوصي بـمطامحه لذريته». وفي اعتقاد نعيمة «أنّ فرسخاً مربعاً من بلاد الصين «الـخاملة» يحوي من الـجوهر أكثر من كل جزائر اليابان «الناهضة».
في تعليقي على هذا الكلام أقول:
«هذا كلام إذا أزلت منه زخرف التعبير الأدبي، الشعري لم تـجد فيه حقيقة واحدة غير جهل شؤون الـحياة وتطورها منذ ظهر الإنسان على مرسح الطبيعة وجهل التاريخ وفلسفته. فالشرق، لعلة طبيعية، على الأرجح، حاول من قبل «تـحسين الـخليقة»كما حاول الغرب تـحسينها من بعد. ولذلك نشأت الأديان في الشرق، أي لتحسين الـخليقة. وقد «حسنّت» الأديان الـخليقة تـحسيناً كبيراً، ولا شك. ولكنها عصت كل تـحسين جديد نشأ بعد أحكامها، فأصحابها لا يقرّون بـمعرفة جديدة إلا مكرهين».
لو قال لهم نص ديني إنّ الشمس يـمكن أن تقف أربعاً وعشرين ساعة حتى يـمرّ يشوع بن نون يقولون هذا صحيح ولا يسلّمون بأن الأرض تدور إلا بعد مقاومة وعناد، وبعضهم لا يسلّمون أبداً، لأن ذلك يوافق النص الديني أنّ الشمس تدور ولو أُعطوا ألف برهان ساطع على أنّ الأرض تدور وليس الشمس.
«وإذا كان عيسى، السوري البيئة، رمى إلى تأديب النفوس بقوله: «لتكن مشيئتك» فهو أعلن الانتقاض على «الـمنزل» بالذهاب إلى «تكميل الناموس» ومحمد نفسه الذي نشأ في بيئة بعيدة عن التفكير بالقضايا الفلسفية الكبرى نطق بالوحي «ولكل أجل كتاب». فليس في سنّة الـمسيح ولا في سنّة الرسول، إذا أخذت كلها، ما يـمنع «تـحسين الـخليقة» أو ما يرفضه. ولست أعتقد أنّ تعاليم بوذا ولاوتسو أنشئت بقصد منع التفكير في «تـحسين الـخليقة» ولكن العقلية الشرقية، التي عجزت عن حل قيود الروح الـمادية بنظرة إلى الـحياة والكون فاهمة، هي التي وقفت عند «أحكام» الفلسفات الدينية وتعليلاتها الافتراضية الـمستندة إلى «قوة أكبر منها» حددتها تلك الفلسفات تـحديدات متباينة جعلت الـخالق الواحد «ينزل» تعاليم غير واحدة فيما يختص بالـحياة الإنسانية ضمن الوجود وقبل «الفناء في وحدة الوجود».
«إختار ميخائيل نعيمة التكلم على «الـخليقة» و«تـحسينها» ليضع القارىء أمام الاصطلاح.وكلامه كلام أديب لا كلام فيلسوف أو عالم أو فنان.وها هي الصين تترك اليوم «جوهر» الـخمول لتأخذ «بعرض» النهوض وليس يعني ذلك زوال القواعد الصالـحة من تعاليم لاوتسو.
«مـما لا شك فيه أنّ نفسية الذين يذعنون لكل «ما كتب الله أن يصيبهم» ترى في هذا الإذعان أجمل الـمثل العليا وأحبها وأفضلها. وسواء أكانت هذه النفسية شرقية أم غربية، فهي نفسية لها مصيرها وهو غير مصير النفسية التي لا تقبل بـما هو دون «ما يكتبه الله» للذين يعملون بالـمواهب التي أعطاهم».
حتى الـمسيح جاء لتكميل الناموس، كان الـمسيح يقول إنه يريد أن يكمل الناموس، وهذا يعني أنّ السنّة التي أعطاها الله لـموسى كانت ناقصة وجاء الـمسيح ليكملها، وفي العمل لتكميلها قد نقض بالفعل كثيراً مـما جاء ليكمله نقضاً باتاً.
«ذهب إلى تكميل الناموس» «أتيت لأكمل الناموس» و «لكل أجل كتاب».
إنّ الفناء في وحدة الوجود يعني مصيراً واحداً هو مصير الإذعان والاستسلام، مصير ابتغاء الفناء في وحدة الوجود والهرب من الـحياة إلى النرفانا هو عمل بغير «الـمواهب التي أعطاهم».
ما كتب الله هو الواقع أو الـمفعول وليس هو القصد ولذلك استعملت فعل كتب بالـمضارع لا بالـماضي.
إنّ الذين يستسلمون للواقع كما كتب الله... لهم مصيرهم.
ولكن الذيـن يعملـون بالـمواهب التي أعطاهم الله غيـر مستسلميـن إلى أمر مفعول لا رأي ولا إرادة لهم فيه، هؤلاء لهم مصير هو مصير أن يكتب الله لهم ما استحقت مواهبهم.
«إنّ صوفية نعيمة الهدامة التي أبرزها في إحدى خطبه في بيروت سنة 1932 أو 1933 بقوله: «إنّ القوة هي في الأمـم العاجزة «الـمستغنية» عن التسلح (وإن يكن استغناؤها قهراً أو كرهاً) وإنّ الضعف هو في الأمـم الـمستكثرة من آل الـحرب»، قد نبذتها سورية ولا تفكر في جعلها مثالاً أعلى لها».
ميخائيل نعيمة يقول إنّ استسلامنا، عدم طلبنا أن نـجيّش الـجيوش وأن نتسلح وأن نهبّ لتحقيق مثلنا العليا هو القوة بذاتها، إنّ عدم إمكاننا ذلك هو القوة.
أما إمكان الأمـم الكبرى العظمى التسلح وبناء الأساطيل والـمعدات والاختراع والاكتشاف في الكيمياء والفيزياء والطب، إنّ كل ذلك مع العناية بتسلحها يدل على
الـخوف والـجبن والضعف.
ويظهر أنّ الأستاذ نعيمة لم يصل إلى معرفة هذه الـحقيقة السطحية التي تظهر في التعابير الاعتيادية (الـما عندو شي ما بيخاف على شي).
نحن إذن قوة فاعلة لها مقاصد في الـحياة وهذه الـمقاصد لا يـمكن أن تـحدد أو أن تـحور إلا إذا كنا غير أهل للاضطلاع بها، وعدم أهليتنا تكون بالاستسلام بطلب الفناء الروحي، بطلب الهرب من الـحياة، بالنظر إلى الـحياة كآلام مرة وشقاء وتعب. وإنّ الغاية العظمى الكبرى هي الهرب منها إلى الـموت، إلى الـموت الأبدي الهانىء. إلى النرفانا التي هي الـخلاص الأخير من العذاب والتعب والشقاء، التي هي كل الـحياة وكل ما في الـحياة.
نحن لسنا مستسلمين. نرى في الـحياة متاعب ونرى أننا قادرون على حمل تلك الـمتاعب والانتصار عليها.
نحن نحمل الـمتاعب، لا ننوء ولا نرزح بها، ننتصر عليها ونخرج إلى مرح وانشراح في الـحياة إلى تـحقيق للوجود، الذي لا يـمكن أن يكون عبثاً أو وهماً، للذهاب إلى وجود وهمي مفترض، هو التعويض الوحيد عن العجز عن تـحقيق الـحياة في الوجود.
نحن لا نطلب التعويض، نطلب الـحقيقة بذاتها وهذه الـحقيقة هي حقيقة انتصار النفس السورية على كل ما يعترض سبيلها في تـحقيق نفسها، تـحقيق مثلها العليا، تـحقيق مقاصدها الكبرى.
الـمبدأ الثاني يقول: «منع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء القوميين».
وترون من هذا النص أنه متابع للمبدأ الأول فيما اختص خاصة بالناحية السياسية الـحقوقية والقضائية.
شرح الـمبدأ: «الـحقيقة أنه ليس لهذا الـمبدأ صفة مجرّدة عن الـمبدأ السابق ولم يكن لزوم لوضع معناه في مادة مستقلة، لولا ما ذكرناه من محاولة الـمؤسسات الدينية الاحتفاظ بصفة السلطة الـمدنية، أو اكتساب هذه الصفة، حتى بعد وضع مبدأ فصل الدين عن الدولة موضع التنفيذ».
لأن الـمؤسسة الدينية بعد أن تـجد نفسها أمام القانون تـحاول أن تؤوّل القانون وأن تكتسب ما يعوض لنفوذها عما خسرته بنص القانون وبحالة نظام الدولة.
«والـمقصود منه هو وضع حدّ لتدخّل الـمؤسسات الدينية مداورة (غير مباشرة) في مجرى الشؤون الـمدنية والسياسية وبسط نفوذها بقصد تـحويل سياق الأمور ليكون في مصلحتها.
«إنّ هذا الـمبدأ يعيّن ما يفهم من فصل الدين عن الدولة لكي لا يبقى الـمعنى حائـراً معرضاً لتأويلات غير صحيحة، فالإصلاح يجب ألا يقتصر على الوجهة السياسية وأن يتناول الوجهة الـحقوقية ـ القضائية أيضاً.
«إنّ الأحوال القومية الـمدنية والـحقوق العامة لا يـمكن أن تستقيم حيث القضاء متعدّد أو متضارب ومقسّم على الـمذاهب الدينية، الأمر الذي يـمنع وحدة الشرائع الضرورية لوحدة النظام.
«لا بد، للدولة القومية الاجتماعية، من وحدة قضائية ـ وحدة شرعية. وهذه الوحدة، التي تـجعل جميع أعضاء الدولة يحسون أنهم متساوون أمام القانون الواحد، هي أمر لا غنى عنه.
«لا يـمكـن أن تكون لنا عقلية واحدة ونعمل بـمفاهيم مختلفة متنافية مع وحدة الـمجتمع».
قد يقول قائل إنّ الدين، اليوم، مفصول عن الدولة في لبنان أو في بقية الدول السورية ولا يوجد بابا ولا خليفة يأمر الآن. لكن الشرائع والقضاء لا تزال قضاء وشرائع دينية، وكل دين له وجهة خاصة في تفسير الأحوال والـمعاملات بين الناس، وله وجهة خاصة في النظر إلى الـحقوق، فنشأ من ذلك عقليات جماعات متضاربة في النظر إلى الـحقوق، في النظر إلى مبادىء الـحق والشرع الأساسي، وأخيراً متضاربة بالعقلية التي تفهم الـحياة وسير الـحياة الإنسانية.
فإذا ظل القضاء بيد رجال الدين، هم يحكمون في الـمعاملات، يصرفون الأمور، فلا يـمكن أن تنشأ وحدة عقلية، وحدة نظر واحدة في القضايا السياسية الـحقوقية في الشعب الواحد، وهذا من أصعب صعوبات توليد الوحدة القومية الصحيحة.
ولذلك، ومن أجل تـحقيق الوحدة القومية، يجب منع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء القوميين.
في السياسة كم نرى البطريرك والـمفتي والشيخ والسيد منهمكين في السعي في الانتخابات، لوظائف الـمصالح الدنيوية أكثر من انهماكهم في الأمور الدينية الروحية العلوية. وبهذا نـجد الدين قد انحط بهذه الطريقة.
فإذا منعنا رجال الدين من التدخل في شؤون القضاء والسياسة، ساعدناهم على رفع منزلة الدين وعلى احترامه.
يتبع ذلك الـمبدأ القائل «إزالة الـحواجز بين مختلف الطوائف والـمذاهب».
ليس من ضروريـات الإيـمـان مثلاً أن يعتقـد الأرثوذكسي أنّ الكاثوليكي هرطوقي، ولا من ضروريات الدين أن يعدّ السني العلوي كافراً أو بالعكس.
«إنّ في أمتنا تقاليد متنافرة، مستمدة من أنظمة مؤسساتنا الدينية والـمذهبية، كان لها أكبر تأثير في إضعاف وحدة الشعب الاجتماعية والاقتصادية وتأخير نهضتنا القومية الاجتماعية. وما دامت هذه الـحواجز التقليدية قائمة، تذهب دعواتنا إلى الـحرية والاستقلال صيحات ألم وتأوهات عجز.إنه لا يحسن بنا أن نعرف الداء ونتجاهل الدواء.نحن السوريين القوميين الاجتماعيين لا نفعل كالدجالين؛ الذين يدعون إلى الاتـحاد ويجهلون روابط الاتـحاد، وينادون بالوحدة ولا يقصدون منها سوى غرض في النفس.
«كل أمة تريد أن تـحيا حياة حرة مستقلة تبلغ فيها مثلها العليا يجب أن تكون ذات وحدة روحية متينة».
وهذه الوحدة الروحية الـمتينة لا يـمكن أن تكون بواسطة «روحيات» دينية متعددة بل بواسطة روحية واحدة،بواسطة نظرة واحدة إلى الـحياة والكون والفن، بواسطة مقاييس ومفاهيم واحدة،بواسطة وحدة مقاييس وإرادات ومصالح في الشعب الواحد، في الأمة الواحدة.
وما معنى الأخوّة القومية حين أقول لك أنت أخي وأحرمك بالفعل من حقوق الأخوة معي؟
وكيف يـمكن أن يكون للأخوّة معنى مع الـحرمان للأخوّة؟
كيف يـمكن أن يكون الشعب واحداً مع أنّ فئة كذا لا يـمكن أن تختلط مع فئة كذا أو كذا؟؟
أليس هذا إيثاراً للشعور بالفوارق في الأمة؟ وكيف تكون أمة واحدة وأعضاؤها يشعرون بالفوارق بين فئة وفئة، بين جماعة وجماعة أخرى؟ لا يـمكن أن يوزع شيء بالتساوي على العموم بل يقال لهذه الفئة كذا ولتلك الفئة كذا.
«يجب أن نقف في العالم أمة واحدة، لا أخلاطاً وتكتلات متنافرة النفسيات.
«الـحواجز الاجتماعية ـ الـحقوقية بين طوائف الأمة تعني إبقاء داء الـحزبيات الدينية الوبيل».
وقد ضربت لكم مثلاً في حديث سابق كيف يذهب الـمجهود الطائفي عبثاً، كيف أنّ ثـورة الـدروز 1925 لم يـمكن أن تتحول إلى ثـورة سوريـة اجتماعية لأن بقية الطوائف وقفت تتفرج عليها وتقول (يضربوا ببعضهم).
«فيجب تـحطيم الـحواجز الـمذكورة لـجعل الوحدة القومية حقيقة ولإقامة النظام القومي الاجتماعي الذي يهب الأمة الصحة والقوة».
وإذا عدت في الأخير إلى النظرة الروحية في الأمور، إلى تعبير قلته في خطاب في أميون الكورة 1937 «إنّ العالم قد شهد في هذه البلاد أدياناً تهبط إلى الأرض من السماء أما اليوم فيرى ديناً جديداً من الأرض رافعاً النفوس بزوبعة حمراء إلى السماء»[1].
نحن في هذا الـمعنى لنا نظرة دينية يجب أن نفهمها.